في نادي الألقاب الفنية... «اللي ما يشتري يتفرج»

من موسيقار الأجيال إلى نجم العالم العربي الأول

محمد عبد الوهاب - أم كلثوم - فيروز - وديع الصافي - فاتن حمامة
محمد عبد الوهاب - أم كلثوم - فيروز - وديع الصافي - فاتن حمامة
TT

في نادي الألقاب الفنية... «اللي ما يشتري يتفرج»

محمد عبد الوهاب - أم كلثوم - فيروز - وديع الصافي - فاتن حمامة
محمد عبد الوهاب - أم كلثوم - فيروز - وديع الصافي - فاتن حمامة

تستطيع ببساطة أن تلاحظ حالة الولع لدى الفنانين بالألقاب، على الرغم من أنّ اسم الفنان هو الذي يبقى مع الزمن وينسى الناس تماماً اللقب. يصبح اسم الفنان مع مرور الأيام وتراكم نجاحاته، العلامة المميزة، فأنت تقول سيمفونية لبيتهوفن أو لوحة لبيكاسو أو فيلماً لشارلي شابلن أو أغنية لأم كلثوم.
في عالمنا العربي لدينا كرم زائد يصل إلى تخوم الإسراف في منح الألقاب. أطلقت ألقاب كثيرة على كثير من الفنانين والفنانات في بداية انطلاقتهم، مثل لقب «صاروخ»، هذا صاروخ النكتة وتلك صاروخ الإغراء، وثالث صاروخ الإبداع، ثم مع الزمن يُكتشف أنّها مجرد صواريخ من ورق لم تصمد في السماء سوى لحظات، ثم سقطت إلى الهاوية. إلا أن هناك طبعاً، من استحقوا تلك الألقاب على مر الزمن.
أكثر فنان حمل ألقاباً متعددة في تاريخنا هو الموسيقار محمد عبد الوهاب، بدأها في الثلاثينات بـ«بلبل مصر» وفي الثمانينات مُنح لقب «موسيقار الأجيال»، و«مطرب الأمراء» ثم «مطرب الملوك والأمراء»، فـ«الدكتور» محمد عبد الوهاب بعد أن حصل على الدكتوراه الفخرية في عيد الفن عام 1976، ثم «اللواء» محمد عبد الوهاب بعد أن استقبل الرئيس أنور السادات في المطار مرتدياً زي اللواء عندما كان يقود الفرقة الموسيقية العسكرية أثناء عزف السلام الوطني «بلادي بلادي» عام 1979، وسبق أن أطلق عليه في الستينات لقب «موسيقار الجيل»، وعندما امتد به العمر في السبعينات صار «موسيقار الجيلين»، وقبل الرحيل وبحكم الزمن وتتابع الملحنين أصبح «موسيقار الأجيال».
أكثر مطرب من هذا الجيل يسعى للاستحواذ على القسط الوافر من الألقاب هو تامر حسني، ودائماً ما يحاول أن يضع لنفسه مكانة خاصة، فهو مطرب الجيل، ثم منح نفسه لقب أحسن مطرب في مصر، وتمدّد جغرافياً ليصبح الأفضل عربياً، وبعدها قالها مباشرة إنّه «أسطورة القرن الـ21»، على الرغم من أنّه لا يزال أمام القرن أكثر من 80 عاماً فإنه صادر على المستقبل وأكد أنّه فقط «الأسطورة».
هناك ألقاب يمنحها الناس لمن يحبونهم وألقاب أخرى يسهم الفنان بانتشارها ويطلقها على نفسه، فرحاً بها.
ولا بدّ للتنويه بأنّ لقب الفنان يبقى ويستمر، إن كان صادراً بمحض إرادة الناس وبعد إعجابهم بما يقدّمه هذا الفنان وتقديرهم له، ولا بدّ من الإشارة إلى دور الإعلام وما يلعبه من دور رئيسي في الترويج للقب حتى يصبح مرادفاً للفنان، مثلاً فريد شوقي حمل لقب «الملك»، فالغالبية الساحقة حين تريد ذكر اسمه تقول «الملك فريد شوقي»، بينما فريد كان يتمنى لقباً آخر لم ينله وهو «فنان الشعب»، هذا اللقب كان من نصيب اثنين فقط على الساحة الفنية المصرية، هما في الموسيقى سيد درويش وفي التمثيل يوسف وهبي.
كان سيد درويش عندما يوقّع عقوده يكتب اسمه سيد درويش، ويلحقه بصفة خادم الموسيقى الشرقية، منتهى التواضع، ولهذا فإنّ لقب فنان الشعب يليق به حقاً.
فيما أخذ نجيب الريحاني لقب «كشكش بيه»، من خلال تلك الشخصية التي كان يؤديها في مسرحياته، الثري الذي يأتي من الريف إلى القاهرة، ثم يبدّد أمواله في الملاهي الليلية.
قد يطيب لنا أن نتشبه بالأجانب باعتبارهم المرجعية، على الرغم من أنه لا مرجعية في الفن سوى التراث الوطني، فقد أطلق على فنانة المسرح فاطمة رشدي لقب «سارة برنار الشرق»، ولها لقب آخر «صديقة الطلبة»، لأنّها كانت تفتح مسرحها يوماً في الأسبوع مجاناً للطلبة.
ومن الألقاب أيضاً التي تشبهنا فيها بالمرجعية الأجنبية أيضاً «تشارلي شابلن العرب» التي كانت من نصيب المونولوجست محمود شكوكو.
للمطربين ألقاب تسبقهم، فقد أطلق على عبد الحليم «العندليب» وصباح «الشحرورة»، وفيروز «جارة القمر»، ونجاة «صوت الحب»، وفايزة أحمد «كروان الشرق»، وأم كلثوم «كوكب الشرق» و«سيدة الغناء العربي»، وإن كان اللقب الشعبي الذي ظلّ مرادفاً لها هو «الست».
وديع الصافي «صوت الجبل»، فهو بالفعل من أقوى الأصوات العربية وظل حتى بلغ التسعين من عمره، يغني ويطرب الجميع بصوته. فهو مطرب المطربين، حتى أنّ عبد الحليم كان يداعبه قائلاً: «إحنا جنبك يا وديع ننفع ننادي على لبن في الصباح». مع العلم أنّ وديع الصافي ليس اسمه الحقيقي، بل هو لقبه أو اسمه الفني، فاسمه وديع فرنسيس، ولكنّ صوته الصافي جعله مرادفاً لاسمه.
ولدينا من الألقاب المستقرة «الهضبة» عمرو دياب، و«الكينغ» محمد منير، وكل منهما صار لديه جمهوره الذي لا يناديه سوى بصفته. جورج وسوف «سلطان الطرب»، ومحمد عبده الذي لحق أواخر زمن الستينات، صار يلقب بين المطربين باسم «فنان العرب».
ومن لا يذكر النزاع الذي حصل قبل سنوات بين هاني شاكر وصابر الرباعي، بشأن لقب «أمير الطرب العربي»، حين تمسك هاني به، وكان صابر قد حظي به من قبله، إلا أنه وبذكاء ابتعد عن هذا الصراع وتنازل عن اللقب للفنان المصري هاني شاكر.
أحياناً وفي البدايات عادة، عندما تنجح أغنية، تتحول إلى لقب مثل المطربة شيرين عبد الوهاب، عندما نجحت لها قبل 15 عاماً أغنيتها «آه يا ليل»، أطلقوا عليها اسم «شيرين آه يا ليل»، ولكن بعد أن تعددت نجاحاتها صارت فقط تحمل اسم شيرين من دون «آه يا ليل».
الألقاب لا تصنع النجوم، لكن الحقيقة أن النجوم تتوق إليها وتبحث عنها، وكما يقول الشاعر السوري نزار قباني: «الحب في الأرض بعض من تخيلنا/ لو لم نجده عليها لاخترعناه»، فإن الألقاب أيضاً بعض من تخيل النجوم لو لم تطلقها عليهم الصحافة أو شركات الإنتاج لاخترعوها وأطلقوها على أنفسهم.
مثال على ما سبق، أنّ لقب ملك الإحساس للفنان اللبناني فضل شاكر، الذي كان يحمله، أطلقه عليه مريدوه وكان حقاً يمثّل صوت الإحساس الذي يرشق في القلب، لنراه بعدها يحمل سلاح كلاشنيكوف، بعد أن تمكنت منه منظمات متطرفة وغسلت دماغه، ليبدأ بإعلان تحريمه للفن.
الألقاب تسقط مع الزمن ولا يتبقى سوى اسم الفنان مجرداً.
لم تُطلق فاتن حمامة على نفسها «سيدة الشاشة العربية»، ولكن الجمهور منحها تلك الصفة، إلا أن عدداً من معاصريها مثل مريم فخر الدين كثيراً ما كانت تحتج قائلة: «إذا كانت هي سيدة، فهل نحن في هذه الحالة الخدم؟». بيد أن فاتن حمامة في عام 1996، حظيت بمكانة أخرى «نجمة القرن»، وكُرّمت بعد استفتاء لأفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، لتحظى بالمركز الأول، فكانت هي نجمة القرن ومقصود به طبعاً القرن العشرين، الذي كانت هي واحدة من علاماته المضيئة منذ نهاية الثلاثينات.
تظل الألقاب مجرد معركة على سراب، وتبقى حقيقة واحدة وهي الأعمال الفنية التي تخلّد اسم الفنان، وتظل مع الزمن وحدها قادرة على أن تمنح اسمه الوهج والبريق والحضور، بل وأيضاً الحياة، بعد عمر طويل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)