هنيدي على الحافة والكدواني يتألق وتامر يبحث عن لقب

... ولا تزال معركة أفلام العيد مشتعلة

هنيدي على الحافة والكدواني يتألق وتامر يبحث عن لقب
TT

هنيدي على الحافة والكدواني يتألق وتامر يبحث عن لقب

هنيدي على الحافة والكدواني يتألق وتامر يبحث عن لقب

الناس درجات وأيضاً النجوم، وفي دُنيا الأرقام وقف على المقدمة فيلما أحمد السقا «هروب اضطراري» ومحمد رمضان «جواب اعتقال»: رغم أن الفارق في الإيرادات شاسع بينهما، حيث لم يتجاوز فيلم رمضان 40 في المائة مما يحققه فيلم السقا.
توقفنا سابقا مع الفيلمين نقدياً، ولا يزال متبقياً لنا ثلاثة أفلام من العيد تستحق أن نتناولها في تلك المساحة، الحقيقة أن أول النجوم الذين نتوقف عندهم هو محمد هنيدي الذي كان في مثل هذه الأيام قبل نحو 20 عاما يقف متفردا على القمة الرقمية في السينما عندما بدأ رحلة النجومية بفيلم «إسماعيلية رايح جاي»، مشوار هنيدي بدأ قبلها بأكثر من عشر سنوات، وسبحان مغير الأحوال، النجاح التجاري الذي ينسب للنجم بدأ مع «إسماعيلية» عام 97، رغم أن اسمه كان يحل ثالثا على «التترات» و«الأفيش» يسبقه محمد فؤاد وحنان ترك، إلا أن الكل وقتها أجمع على أن هنيدي هو الذي قطع من أجله الجمهور تذكرة السينما؛ مما أغضب محمد فؤاد، الذي لا يزال يشعر حتى الآن بأنه تعرض لظلم شديد، لكن هذه حكاية أخرى.
تعددت الأفلام والأرقام التي حققها محمد هنيدي بعدها، بل إن الفيلم التالي مباشرة «صعيدي في الجامعة الأميركية» تجاوز ثلاث أو أربع مرات ما كانت أفلام عادل أمام تحققه بمقياس تلك السنوات، إلا أن مسيرة هنيدي لم تستمر طويلاً على القمة، حيث أطاح به محمد سعد مع شخصية «اللمبي» عام 2002، ومنذ ذلك الحين وهنيدي يتراجع، لكن لا يزال قادراً على الصمود وعلى إنجاز فيلم، إن لم يكن كل عام فهو يتواجد كل عامين، بينما محمد سعد صار حالياً خارج الرقعة، بل ومن الصعب الرهان عليه مجدداً بطلا بعد فيلمه «تحت الترابيزة»، بينما هنيدي ترنحت إيراداته كثيراً، ولا يزال متشبثاً بالبقاء على حافة دائرة النجومية.
وصلنا مع هنيدي إلى محطة «عنتر ابن ابن ابن ابن شداد» أي أنه من سلالة عنترة، والسيناريو الذي كتبه أيمن بهجت قمر وأخرجه شريف إسماعيل، يقدم حياة شقيقين الكبير باسم سمرة والصغير محمد هنيدي، ومن هنا تبدأ المفارقة التي لم نجد لها مبرراً، هنيدي يكبر باسم، ملامحه على الشاشة تؤكد ذلك، والأمر ليس له علاقة طبعاً بتاريخ الميلاد المدون في جواز السفر، ولكن بالملامح التي نراها على الشاشة، باسم يدير محلاً لأجهزة الصرف الصحي، ويعمل عنده هنيدي، فيقرر فجأة أن يبحث عن صفقة مالية، ويقرران البحث عن سيف عنترة، وننتقل بعدها إلى قبيلة عنترة، التي لا تزال تعيش حياة البدو رغم توفر «النت»، والفتاة الحسناء درة التي يتصارع الجميع على الفوز بقلبها، وزعيم القبيلة وحكيمها هو لطفي لبيب، والسيف الذي لا يقدر بمال، المفروض أننا نظرياً، بصدد فيلم كوميدي، لكن الضحك كان شحيحاً وفي حالات كثيرة كان معدوماً. الفيلم يعتمد على قدرة النجوم على تفجير الضحك، لكن لا شيء في هذا الشأن يتحقق، هنيدي لا يزال مقيداً بملامح لا يستطيع أن يتجاوزها في كل أفلامه، فهو يقدم الشخصية نفسها، شاب يبحث عن عروس، تغير الزمن ولكن ثبات الشخصية التي يؤديها لا تتغير، راجع أفلامه بداية من «صعيدي» حتى «يوم مالوش لزمة»، الضحك وشفرته تتغير بين كل مرحلة زمنية وأخرى، وهذا هو سر بزوغ نجومية هنيدي وجيله، وهو أيضاً سر خفوت هذا الجيل؛ لأن شفرة الضحك تغيرت وهم لم يتغيروا، وتستطيع أن ترى- مثلاً- ما الذي حل الآن بكل من هاني رمزي وأشرف عبد الباقي وأحمد آدم، حيث إنهم أصبحوا يقفون على الخط ينتظرون على «دكة» الاحتياطي، وهو المصير الذي ينتظر هنيدي، حيث تراجعت إيرادات أفلامه فبات على المحك.
تامر حسني هو المطرب الوحيد في جيله الذي يصر على البقاء على الخريطة السينمائية، والحقيقة أن أفلامه تحقق إيرادات؛ وهو ما يجعله هدفاً لشركات الإنتاج ولا يزال، وهكذا وصلنا إلى محطة فيلم «تصبح على خير» الذي احتل المركز الثالث في الأرقام. تامر تخلص في كل أفلامه من حدوتة تقديم، رحلة مطرب إلى سماء النجومية، أغلب أفلام الجيل القديم كانت تتناول حكاية مطرب يريد أن يثبت جدارته بأن يصبح مشهوراً رغم كل المعوقات، بينما تامر بذكاء تخلص تماماً من هذا القيد، فهو يؤدي في كل أفلامه شخصيات متعددة، هذه المرة يؤدي دور صاحب شركة رجل ثري متزوج من نور، وهي لا تنجب، لكن ليست هذه هي المشكلة التي يعانيها؛ فهو يجد نفسه يعيش الواقع الافتراضي، عن طريق مكيدة تشارك فيها فتاة تعمل عنده تؤدي دورها مي عمر، يدخل لهذا العالم ولا يخرج منه إلا بعد أن يستخدم جهاز «بخاخة» يضعها في فمه فيعود للواقع.
مجدداً، عموماً سينما الواقع الافتراضي أو البعد الرابع «الزمن» سوف تفرض نفسها قريباً على الحياة الفنية، كم تمنيت أن يُمسك بهذا الخيط السحري ويُكمل المسيرة الكاتب والمخرج محمد سامي، لكن في النصف الثاني للفيلم افتقد كل ذلك، حيث بدأ في العودة مرة أخرى إلى عالم الواقع، لنكتشف أن كل ما رأيناه كان محض مكيدة، وأن زوجته تسرقه وأن الفتاة الفقيرة درة التي تعمل كومبارساً، العودة للواقع ومحاولة البحث عن أسباب منطقية لما شاهدناه جرحت روح الفيلم، لو أن المخرج تمسك بعالمه الافتراضي وأكمل حكايته القائمة على الفانتازيا لتحقق قدر كبير من النجاح، ولحافظ على الجو العام والحالة المزاجية لفيلمه، ورغم ذلك فإن الشريط السينمائي، قادر على الجذب، وهو يحل الآن في المركز الثالث رقمياً، إلا أنه يتطلع بقوة للثاني، وبخاصة أن المؤشرات المبدئية ليست في صالح «جواب اعتقال»، تامر لم يقدم أي أغنية في الفيلم سوى مع تتر النهاية دويتو تشاركه فيه أليسا، وطبعا وفي مصر تحديداً لا أحد يُكمل التتر، الناس تغادر السينما قبل التتر، كما أن في العيد يتم إفراغ الصالة مباشرة من الجمهور، ولا يعرض أساسا «التتر» حتى تبدأ فوراً الحفلة التالية.
وبينما تشهد تجربة تامر نجاحاً ملحوظاً تكتشف أنه ترك كل ذلك ولا يزال يفكر ويُفكر ويُفكر في البحث عن لقب يليق به سينمائياً، فلقد حصل على لقب أحسن مطرب مصري، ثم أفريقي، ثم آسيوي، ثم عربي، ثم شرق أوسطي؛ حتى منح نفسه مؤخرا لقب أحسن مطرب عالمي، ولا تسألني ما هي المؤسسة العالمية التي منحته هذا اللقب، صار من الممكن أن تحصل على توقيع الكثير من المؤسسات العالمية التي تقول إن هذا هو الأفضل، وأظن أمام حالة الضعف أمام الألقاب التي يكابدها تامر حسني وصارت أشبه بحالة مرضية، فليس من المستبعد أن يُظهر لنا شهادة موثقة أنه ليس فقط أفضل ممثل مصري أو عربي أو شرق لأوسطي ولكن عالمي أيضاً.
ويبقي «الأصليين» هذا الفيلم الذي يشكل المحطة الثانية للثنائي الذي صار بينهما نوع من التوأمة الفكرية، أحمد مراد الكاتب ومروان حامد المخرج، كانت المحطة الأولى مع فيلم «الفيل الأزرق» مأخوذ عن رواية أدبية لمراد، الرواية تنطوي على معادل بصري يؤهلها للسينما؛ ولهذا تولى مراد إحالتها مباشرة لسيناريو؛ فهو خريج معهد السينما قسم تصوير، هناك مساحة من البحث في اللاشعور يمنحها «الفيل الأزرق»، من خلال حبة زرقاء تنتقل بنا لهذا العالم، بينما في الفيلم الثاني الذي كتبه مباشرة للسينما، تجاوز مؤثر الحبة بصفتها فاعلاً مباشراً لما نراه، ليصبح الإنسان هو المسؤول عن تلك المساحة في الفيلم. هذه المرة يعتمد أكثر على المتلقي ليضيف الكثير الذي يملأ به تلك المساحة بين الشعور واللاشعور، علاقة مشتركة بين المتفرج والجمهور، منذ أن يري ماجد الكدواني في اللقطات الأولي وهو يشارك في مسابقة يغني فيها بصوته لعبد الحليم حافظ، طبعاً السؤال الذي سيبحث عنه المتفرج ولن يحصل على أي إجابة مباشرة أو شافية من هم الأصليون؟ لأنه ببساطة كل منا به هذا المعني، وتلك الفكرة في لحظة ما يُصبح هو داخل قائمة الأصليين، إنه المراقب لتصرفاتنا منذ أن نبدأ رحلتنا مع الحياة. فهو يراقب الآخر وفي الوقت نفسه مراقب من الآخر.
ماجد يؤدي دور موظف كبير في البنك، فجأة يجد نفسه خارج الخدمة، تعوّد على دخل يحققه شهرياً، يحافظ من خلاله على مكانته التي وصل إليها، وسيترك الخدمة مجبراً، ليبدأ في الاتصال بكل من الأصدقاء ليساعدوه في الحصول على موقع وظيفي، دون جدوى، وعلى طريقة فيلم «زوجة رجل مهم» لا يخبر زوجته كندة علوش، ويغادر منزله في المواعيد السابقة نفسها. تمضي أيام يجد أمام باب شقته محمولاً يطلب منه البصمة وبعدها ينضم للفريق الذي يقوده خالد الصاوي، وتصبح وظيفته هي مراقبة الناس، بدعوى حماية الوطن، وتتعدد الحكايات أنت تراقب، ولكنك لست طرفاً في اللعبة، وعليه أن يحافظ على تلك المساحة من الحياد؛ حتى لا يتورط شخصياً، ويطلب منه خالد الصاوي مراقبة منة شلبي، لكنه لا يكتفي بالمراقبة، ويلتقي بها واقعياً وقبلها يتلصص على أسرته، ليكتشف ما كان مسكوتاً عنه. يوحى الفيلم في المشهد الأخير بأنه سوف يتم التخلص منه؛ لأنه لم يحافظ على السر وتورط في المراقبة، متناسياً أنه أيضاً مراقب.
عشنا مع حالة سينمائية تتجاوز الواقع تذكرنا بخط كان قد بدأه في الثمانينات المخرج رأفت الميهي، وما قدمه مراد ومروان أراه أبعد فكرياً وأعمق إخراجياً، وإن كان رأفت، وبخاصة في تجاربه الأولى، مع الفانتازيا مثل «الأفوكاتو» و«السادة الرجال» و«للحب قصة أخيرة» كان أكثر قدرة من مراد ومروان على قراءة شفرة الجمهور.
تعود المشاهد على الحكاية بينما الفيلم يقدم حالة خاصة، أنت تشارك فيها بخيط سحري، عليك أن تلتقطه، حتى تتماهى مع الفيلم، أداء تمثيلي لافت لماجد الكدواني وخالد الصاوي ومحمد ممدوح وأحمد فهمي وكندة، موسيقى هشام نزيه وخالد الكمار، تعمق الإحساس وتصوير لأحمد المرسي، يرسم بالإضاءة حالة وجدانية أكثر منها واقعية، ومونتاج أحمد حافظ ينفذ إلى روح الفيلم، وملابس ناهد نصر الله وديكور محمد عطية تمنحنا إحساساً متكاملاً، يقوده مروان حامد، نعم الفيلم حل خامساً في دُنيا الأرقام فهو ليس له علاقة بجمهور العيد، ولكن ربما يتحسن الحال الرقمي في المقبل من الأيام، وبالتأكيد نحن هذه المرة نتناول فيلماً سينمائياً «بحق وحقيق»!



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)