الرابحون والخاسرون في «ماراثون» رمضان

من يكسب في نهاية السباق: الدعاية الصاخبة أم الحقيقة الفنية؟

هند صبري في «حلاوة الدنيا» - كريم عبد العزيز بطل مسلسل «الزيبق» - منة شلبي في «واحة الغروب» - أحمد مالك كما ظهر في «لا تطفئ الشمس»
هند صبري في «حلاوة الدنيا» - كريم عبد العزيز بطل مسلسل «الزيبق» - منة شلبي في «واحة الغروب» - أحمد مالك كما ظهر في «لا تطفئ الشمس»
TT

الرابحون والخاسرون في «ماراثون» رمضان

هند صبري في «حلاوة الدنيا» - كريم عبد العزيز بطل مسلسل «الزيبق» - منة شلبي في «واحة الغروب» - أحمد مالك كما ظهر في «لا تطفئ الشمس»
هند صبري في «حلاوة الدنيا» - كريم عبد العزيز بطل مسلسل «الزيبق» - منة شلبي في «واحة الغروب» - أحمد مالك كما ظهر في «لا تطفئ الشمس»

هل تتذكرون هذا المشهد في فيلم «مطاردة غرامية»؟ سوف أنعش ذاكرتكم بهذا المشهد الأبيض والأسود: الفنان الكوميدي عبد المنعم مدبولي يؤدي دور طبيب نفسي يستقبل في عيادته رجلاً يشكو من قصر قامته بسبب سخرية البعض منه، فقال له مدبولي: العلاج سهل جداً؛ امشِ في الشارع، وردد: «أنا مش قصير قُزعة، أنا طويل وأهبل». وبالفعل، خرج صاحبنا سعيداً وصوته يعلو بهذا النداء، مصدقاً أنه بالفعل طويل وأهبل!
هذا المشهد العبثي من الممكن أن تجد له تنويعات مماثلة بين عدد من النجوم؛ من يستشعر أن الفشل يحيط به، يلجأ إلى تلك الحيلة، يبذل قصارى جهده في الحصول على جوائز أو شهادات تقدير؛ لا تنسى أننا قد صار لدينا مئات من المواقع الإخبارية التي تسعي لاستضافة النجوم، وبعضهم يشترط قبل الموافقة على إجراء الحوار مع الموقع حصوله على الجائزة الأولي كأفضل نجم أو نجمة، وأيضاً كتابة خبر عن أن مسلسله صار الأول في كثافة المشاهدة.
أتذكر مطربة كان لها في العام الماضي مسلسلاً درامياً في أول تجربة لها، وهى غير مؤهلة للتمثيل، وحقق المسلسل فشلاً منقطع النظير، فما كان منها سوى أنها استطاعت أن تلتقط لها صوراً في كثير من اللقاءات مع عدد من تلك المواقع وهى تمسك بجائزة أو شهادة تؤكد أنها الأفضل. في المقابل، لدينا محمد منير الذي لعب العام الماضي بطولة مسلسل «المغني»، لم يدافع منير عن مسلسله، ولم يشغل نفسه كثيراً بأن يُقدم لجمهوره معلومات مغلوطة عن تصدره كثافة المشاهدة، بل اعتبرها مجرد هزيمة، وأنه قد أخطأ في الاختيار، وأحيا بعدها في عيد الفطر حفلاً غنائياً حظي فيه بحب جمهوره ومغفرته له أيضاً عن إخفاقه في مسلسله الأخير.
يجب أن نعترف بأن منير هذا هو الاستثناء، لأن القاعدة تؤكد أن نجومنا كثيراً ما يخلطون الأوراق، في محاولة منهم لخداع الناس، متجاهلين مقولة مارشال ماكلوهان: «إنك لا تستطيع أن تضحك على كل الناس كل الوقت»، فهم يطبقون مبدأ جوبلز، وزير الدعاية النازي: «كلما كبرت الكذبة، صار تصديقها أسهل»!
لديّ يقين أن الكذب لا يمكن أن يخترق المشاعر، هناك دائماً الرابحون عن جدارة والفاشلون عن استحقاق؛ من هم الرابحون إذن في سباق رمضان هذا العام؟ أستطيع أن أقول لكم مثلاً: أمير كرارة، في «كلابش»، خرج من التجربة محاطاً بنجاح جماهيري طاغٍ، وصعد اسمه إلى الصدارة الجماهيرية، وياسر جلال الذي كان يقف بعيداً عن المقدمة؛ اسمه يحل غالباً في «التترات» ثالثاً أو رابعاً، متأخراً عن النجوم، رغم أنه كان قبل 16 عاماً يعد نجماً قادماً في السينما، بل شبهه البعض بنجم النجوم رشدي أباظة، في مسلسل «ظل الرئيس» الذي لعب ياسر بطولته، حدث توافق بين النضج الداخلي الذي وصل إليه والشخصية الدرامية التي أداها بتفهم واقتدار، ليحصد فعلاً المكانة التي يستحقها، فهو الحصان الأسود في رمضان.
كريم عبد العزيز من الرابحين هذا العام بمسلسل «الزيبق» الذي استطاع أن يحقق قدراً لا بنكر من الجماهيرية، في وقت نتوق فيه جميعاً للحظات انتصار نستعيدها ضد إسرائيل والموساد، هذا هو الجزء الأول من المسلسل، الذي من المنتظر أن يقدم جزؤه الثاني في رمضان المقبل، ولا شك أن نجومية كريم ساهمت بقسط وافر في اتساع دائرة المسلسل الجماهيرية، ولكنه لم يستسلم للنجومية، بل درس كل تفاصيل الشخصية، ليصبح في الشارع هو البطل «عمر صلاح الدين».
منة شلبي للمرة الثانية تخرج منتصرة؛ العام الماضي حققت المركز الأول في «حارة اليهود» كأفضل ممثلة، وهذه المرة احتفظت بالصدارة مع «واحة الغروب»، لم تضبط فقط اللهجة الأجنبية في نطق العربية، التي كنا نشاهدها وهى تتصاعد من مشهد إلى آخر، ولكن الأهم هو ضبط الانفعال والقدرة على التعبير بألق خاص، أيضاً هند صبري راهنت على المسلسل الصحيح في «حلاوة الدنيا» مريضة السرطان، وأوصلت الرسالة، وهي أننا نقاوم المرض بالتمسك بالحياة، ونيللي كريم «لأعلى سعر» التي كانت تحظي بالمركز الأول في عدد كبير من المسلسلات منذ «ذات»، وبعدها «سجن النسا»، ثم «تحت السيطرة»، لتتراجع عن المقدمة العام الماضي بعد مسلسل «بعد السقوط»، ولكنها هذا المرة عادت مجدداً للمركز الأول، وكان لها حضورها القوي والمؤثر، وكسبت الرهان، مثلما كسبته أيضاً زينة، غريمتها في المسلسل، بدور سيطر فيه الشر على السطح، ولكن زينة تعاملت بذكاء مع الجانب الآخر للشخصية، فهي تبحث عن مبررات للشر، الشخصية الدرامية على الورق كمساحة تحتل المركز التالي بعد نيلي كريم، ولكن زينة لم يستوقفها ذلك، فقررت قبول التجربة لتخرج منها منتصرة.
وفي المسلسل نفسه أيضاً نتوقف أمام نبيل الحلفاوي، الفنان المخضرم الذي استطاع أن يقدم واحداً من أهم أدواره التلفزيونية، بعد أن شاهدناه في العام الماضي متألقا في «ونوس».
ومن الوجوه الجديدة التي حققت نجاحاً لافتاً كل من أحمد مالك «لا تطفئ الشمس»، وأحمد مجدي في «لأعلى سعر» و«واحة الغروب»، وحنان مطاوع هذا هو عامها الذي صالحت فيه التألق، وأجادت في أكثر من مسلسل، وحصدت النجاح في «هذا المساء» و«حلاوة الدنيا».
المخرجون الرابحون: كاملة أبو ذكرى في «واحة الغروب»، وتامر محسن في «هذا المساء». ومديرة التصوير نانسي عبد الفتاح «واحة الغروب»، ومهندس الديكور فوزي العوامري «واحة الغروب». وفي الموسيقى: عمر خيرت «الجماعة»، وتامر كروان «واحة الغروب». والسيناريو: سما أحمد وإنجي القاسم «حلاوة الدنيا»، ومدحت العدل «لأعلى سعر»، وتامر محسن «هذا المساء».
والوجه الآخر للصورة، أقصد الخاسرين، يقف في المقدمة نجوم الكوميديا الذين شاهدناهم هذا العام، مثل أحمد مكي في «خلصانة بشياكة»، حيث شهد المسلسل تراجعه إلى الخلف دُر، بعد نجاحه السابق الساحق في «الكبير قوي»، وتشاركه في الخسارة دنيا سمير غانم في «لا لا لاند»، حيث كان المتوقع أن تحقق قفزة بعد مسلسلي «لهفة» و«نيللي وشريهان»، ولكنها تراجعت خطوات لأنها اعتمدت وكل المشاركين معها على الارتجال اللحظي، وهو الطريق السريع للفشل.
غادة عبد الرازق من الخاسرين أيضاً، فلم يحقق مسلسل «أرض جو» الجماهيرية التي تترقبها، ولم تعد غادة في البؤرة الجماهيرية، وعليها أن تسارع بإنقاذ نفسها، والبحث عن دائرة اختيار أوسع، وسمية الخشاب عادت بطلة شعبية في مسلسل «الحلال»، ولكنها قدمت الدور بطريقة أرشيفية تُشبه كثيراً من الأعمال القديمة لبنت البلد، وعمرو يوسف لم يكن هذا هو عامه، صحيح أنه في الإعلانات مع زوجته كنده علوش قدما معاً أكثر من إعلان جيد، ولكن مسلسل «عشم» يقع في الإطار المتوسط فنياً. وبين هذا العدد الضخم من الأعمال الأكثر جماهيرية، ضاع في الزحام أحمد السقا أيضاً في مسلسله «الحصان الأسود»؛ لم يفعل شيء سوى أنه يستثمر نجاحه السينمائي في مسلسل تلفزيوني، فخرج مكللاً بالهزيمة!
عادل إمام بحساب المشاعر خرج خاسراً، فقد قدم المسلسل الأضعف درامياً وإخراجياً، كما أن عادل إمام كممثل لم يعد يملك كثيراً من العطاء على الشاشة، إلا أنه لا يزال ومن خلال قوة الدفع التي حققها طوال مشواره الفني قادراً على أن ينتقل كل عام من مسلسل إلى آخر، ويتقاضى أيضاً الرقم الأعلى عربياً، متجاوزا المليوني دولار، ولا يزال عادل إمام يعتقد أن ابنه محمد هو خليفته في الكوميديا؛ ومأزق محمد أنه لم يستطع أن يتخلص من تأثير والده، فهو يعيد كثيراً من «اللزمات» التي ارتبطت بالأب في مسلسله الأخير «لمعي القط»، الذي يعتبر تجربته الأولى كبطل في مجال الدراما التلفزيونية. بالنسبة لي، محمد هو واحد من الخاسرين هذا العام، ولكن ما حدث أنه في ظل صفقة درامية، تم الاتفاق على أن يلعب في رمضان المقبل بطولة مسلسل جديد، هل هي دعاية من أجل أن يقول للناس إنه قد نجح، أم أنها بالفعل حقيقة والمسلسل سيرى النور العام المقبل؟
ويبقي من يقفون على الحافة بين النجاح والفشل، وعلى حسب زاوية الرؤية التي تُطل من خلالها عليهم، وفي هذا الشأن أضع رامز جلال؛ هو بمقياس كثافة المشاهدة «رامز تحت الأرض» يحتل المركز الأول، وبلا جدال، محققاً أعلى أرقام في كثافة الإعلانات، ولكنه على الجانب الآخر، يحقق أعلى رقم في الاستهجان، على صفحات الجرائد وعبر الميديا، كما أن الكل صار لديه يقين أن تلك اللعبة متفق عليها؛ رامز هو أيضاً الأعلى أجراً بين كل مقدمي البرامج في عالمنا العربي؛ يتجاوز مليون دولار.
هل هذا هو فقط دليل النجاح؟ هل الفيصل هو الرقم أم القيمة؟ ربما نعود مرة أخرى لنقطة البداية، ونتذكر كيف أن هناك من يخدع نفسه، مردداً: «أنا مش قصير قُزعة، أنا طويل وأهبل»!



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)