مؤتمر لمناقشة أسباب إدمان الميسر بين المهاجرين في ألمانيا

صالات القمار تحولت إلى ملتقى للعاطلين عن العمل والمهمشين اجتماعياً

حسب تقديرات الخبراء يعاني 34 ألف شخص في بافاريا من إدمان الميسر
حسب تقديرات الخبراء يعاني 34 ألف شخص في بافاريا من إدمان الميسر
TT

مؤتمر لمناقشة أسباب إدمان الميسر بين المهاجرين في ألمانيا

حسب تقديرات الخبراء يعاني 34 ألف شخص في بافاريا من إدمان الميسر
حسب تقديرات الخبراء يعاني 34 ألف شخص في بافاريا من إدمان الميسر

لا تزيد نسبة الأجانب والمهاجرين في ألمانيا على 8 في المائة بين السكان، إلا أن نسبة مدمني الميسر بينهم ترتفع إلى 40 في المائة. وسواء في سباق الخيول، أو في الكازينو، أو في صالات لعب أجهزة المقامرة، أصبح المهاجرون من الزبائن الدائمين الذين يدرون ذهباً على أصحاب صالونات اللعب.
لهذه الأسباب تنظم ولاية بافاريا مؤتمراً متخصصاً لبحث أسباب إدمان الميسر بين المهاجرين وأولادهم في ميونيخ. وينعقد المؤتمر تحت شعار «الهجرة - الصدمة - الميسر» الذي يعبر عن بعض العوامل التي تدفع المهاجرين إلى الإدمان الذي يحطمهم وظيفياً وعائلياً.
وأشار كونراد لاندغراف، رئيس مركز مكافحة إدمان الميسر في ميونيخ، إلى 34 ألف شخص في بافاريا يعانون من إدمان الميسر، يضاف إليهم 33 ألفاً من اللاعبين المنتظمين الذين في طريقهم إلى الإدمان. وأضاف أن نسبة المهاجرين بينهم ترتفع إلى 40 في المائة، وهي النسبة نفسها عن الإدمان بين المهاجرين على المستوى الاتحادي.
وغالباً ما يحاول المهاجر، لأسباب عائلية وثقافية، التستر على إدمانه خشية خسران موقع عمله وعائلته، وهذا يدفعه إلى الاستدانة والانغلاق، بل وحتى اللصوصية، كي يمول إدمانه. والنتيجة هي معاناته من اضطراب الشخصية والاكتئاب والدوران في حلقة مفرغة. فالإدمان بين المهاجرين وأولادهم هو إدمان ذكوري بالأساس، لكن المعانين منه هم النساء والأطفال.
ويرى لاندغراف وجود عدة عوامل تدفع المهاجر نحو الميسر، ربما أهمها العامل الثقافي الناجم عن انفصاله عن ثقافته الأصلية والعيش في الغربة. وأشار إلى عدة دراسات علمية تثبت أن نسبة إدمان الميسر عالية بين الذين عانوا أكثر من غيرهم من صدمات الحروب والسجن والتعرض للتعذيب... إلخ.
واستشهد لاندغراف بتقرير اتحاد مكافحة الإدمان الاتحادية 2016 الذي يشير إلى وجود مائتي ألف مدمن على الميسر في ألمانيا، يضاف إليهم 300 ألف شخص ممن يمارسون ألعاب الميسر يومياً ومهددون بالتحول إلى مدمنين مع مرور الوقت. وتبلغ نسبة المهاجرين بين المدمنين نحو 40 في المائة رغم أن نسبتهم إلى السكان في ألمانيا لا تتجاوز 8.3 في المائة. وحذر التقرير من تفشي الإدمان على الميسر بين أبناء المهاجرين، وأبناء الأتراك خاصة رغم أنهم من الجيل الثالث والرابع في ألمانيا، وخصوصاً من فئة أعمار 25 - 30 سنة.
ولهذا فقد طالب مراد غوزاي الحكومة الاتحادية، وهو عضو قيادة مجلس الجالية التركية في هامبورغ، بتعيين مفوض خاص في شؤون الإدمان لدى المهاجرين في البرلمان الألماني وفي برلمانات الولايات المحلية. ومعروف أن هناك مفوضا لشؤون الإدمان في البرلمان الألماني الاتحادي.
وتعود مطالبة غوزاي إلى أن الأتراك يجدون صعوبة بالغة، لأسباب دينية واجتماعية، في مفاتحة الآخرين والأطباء والمرشدين الاجتماعيين، بإدمانهم على الميسر. ويعتبر لعب القمار بين الأتراك محظوراً «تابو»، وهي ممارسة شبه سرية، لأن معظم ممارسيه من الرجال رغم تديّن نسبة عالية منهم.
والمشكلة أن إدمان اللعب بين الجالية التركية، التي يبلغ تعدادها نحو 3 ملايين، على الأجهزة الأوتوماتيكية في الصالونات ينتشر أساساً بين ذوي الدخول المنخفضة منهم، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى انهيار العائلات.
وعلى هامش المؤتمر، قدر أبو ذر سيفك، أحد مرشدي مركز مكافحة الإدمان في هامبورغ، أن نسبة إدمان الميسر بين المهاجرين اليافعين ترتفع إلى 10 في المائة. ويضيف أن صالات القمار تحولت إلى ملتقى للعاطلين عن العمل والمهمشين اجتماعياً والمستعصين على الاندماج في المجتمع. ويجتذبهم أصحاب صالات اللعب عن طريق توفير بعض الأطعمة والمرطبات لهم مجاناً.
ويقول سيفك إن كثيرا من المدمنين من «الأزواج المستوردين»، بمعنى أنهم عمال ماهرون أو طباخون جيدون يجري استقدامهم من تركيا إلى ألمانيا وفق شهادات زواج صورية. ينتهي عقد الزواج الصوري حال وصول «الزوج» إلى ألمانيا وحصوله على الإقامة الدائمة، ويبقى بلا مدرسة ولا علاقات عدا ارتياد المقاهي التركية وصالات لعب الميسر. وهؤلاء ينفقون ما يحصلونه من أجر قليل (غير رسمي) يوميا على «مكائن الحظ». فكلما زادت حالة الفقر، وزادت حالة عدم الاستقرار، زاد هوس لعب سحبات اللوتري وارتفعت معه حالات اللعب على الأجهزة الأوتوماتيكية.
فالإدمان على القمار ينتشر بين ذوي الدخول المحدودة وبين أقل فئات المهاجرين قدرة على التأقلم مع المجتمع. ويقول الباحث النفسي في شؤون الإدمان، دكتور كريستوف هوتلر، من العاصمة برلين، عن علاقة ظاهرة بين الفقر والميسر، فأحدهما يقود إلى الآخر، ويعاني نحو مليوني شخص يعيش في ألمانيا، معظمهم من النساء والأطفال، من إدمان عائليهم.
ويشير خبراء الإدمان بأصبع الاتهام إلى زيادة عدد صالات لعب الميسر في المدن بوصفها سببا أساسيا يشجع على الإدمان. إذ يكشف تقرير مفوضية مكافحة الإدمان أن عدد صالات اللعب على الأجهزة الأوتوماتيكية زاد بنسبة 70 في المائة بين 2000 و2008، يضاف إليها عدد لا يعرفه غير العالم بالغيب من مواقع اللعب على الإنترنت. وزاد عدد الأجهزة في الفترة نفسها، في الصالات والحانات والمقاهي، بنسبة 80 في المائة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)