ثعبان الكاميرا يلدغ عصفور الرواية

«واحة الغروب» و«لا تطفئ الشمس» نموذجان جيدان... ولكن!

أبطال «لا تطفئ الشمس» - مشهد من «واحة الغروب»
أبطال «لا تطفئ الشمس» - مشهد من «واحة الغروب»
TT

ثعبان الكاميرا يلدغ عصفور الرواية

أبطال «لا تطفئ الشمس» - مشهد من «واحة الغروب»
أبطال «لا تطفئ الشمس» - مشهد من «واحة الغروب»

يصف المخرج الروسي المعروف ألكسندر سكوروف العلاقة بين السينما والرواية بأنها تشبه الثعبان الرابض على الأرض في انتظار الفريسة، بينما «الفريسة» هي الرواية، عصفور طليق يغرد بلا قيود في سماء مفتوحة، الكاميرا عندما تجسد الرواية تقتل الخيال الذي يخلقه القارئ، لأن الانطلاق والحرية تجدهما في تفاصيل العمل الروائي.
المعروف أن الدراما السينمائية تاريخيّاً، ومن بعدها الدراما التلفزيونية كثيراً ما اقتاتت ولا تزال على الرواية، محاكاة القالب الروائي كانت واحدة من ملامح السينما، صحيح أنها كفن سابع هي نتاج كيمائية تفاعل كل الفنون السابقة عليها؛ المسرح والموسيقي والرسم والنحت والشعر والعمارة، إلا أنها في عرف البعض وجه آخر للرواية يحيل الكلمة إلى صورة، رغم أن السينما عندما تتحرر من هذا القيد فستعثر على نفسها.
في السينما المصرية تكتشف أن الرواية شكَّلَت قسطاً واضحاً من أهم أفلامها، بل إن اسم الكاتب الروائي كثيراً ما كان يتصدر في الماضي «الأفيش»، مثل النجوم، حدث ذلك تحديداً مع كل من نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، كانت السينما تشبه كثيراً في تلك السنوات ملامح الرواية التي يبدعانها على الورق.
بين الحين والآخر نجد أمامنا عملاً تلفزيونياً جيداً مستوحى من عمل روائي، في رمضان الماضي شاهدنا «أفراح القبة» لنجيب محفوظ، وهو من أكثر المسلسلات التي حظيت بنجاح واضح ومبهر، رغم أن السيناريو كان ينطلق بين أكثر من رواية لنجيب محفوظ، وكأنه يستعيد إلينا عالم أديبنا الكبير وليس رواية محددة.
هذا العام من أشهر الأعمال التلفزيونية التي استندت إلى عمل روائي «واحة الغروب» لبهاء طاهر و«لا تطفئ الشمس» لإحسان عبد القدوس، بهاء من الكتاب المقلين في الوجود دراميّاً، لا أتصوره يوصد بابه أمام شركة إنتاج أو كاتب سيناريو يريد أن ينهل من أدبه، ولكن روايات بهاء طاهر بطبيعة بنائها الباطني لا تشبه الأعمال الدرامية المتعارف عليها، وتحتاج لعين أخرى قادرة على التقاط تفاصيل، لإحالة المقروء إلى مرئي، ربما كانت روايته «خالتي صفية والدير» هي الوحيدة التي وجدت طريقها للدراما في التسعينات، كما أنها قبل بضعة أعوام شاهدناها على المسرح واستمعنا إليها كمسلسل إذاعي، والسرّ هو أنها تتناول العلاقة بين المسلمين والأقباط، وهناك توجه رسمي يسعي لكي يمنح ضوء أخضر لمثل هذه الأعمال الروائية، ولهذا السبب تنَبَّه إليها مبكراً صُناع الدراما.
قبل أكثر من عشر سنوات كثيراً ما كُنتُ أقرأ أن «واحة الغروب» في طريقها لتصبح فيلماً أو مسلسلاً، ويمضي زمن لأقرأ مجدداً الخبر نفسه، فلم يشرع أحد حقيقة في تقديمها بإجراءات عملية، حتى تحمست شركة «العدل جروب»، وكان بالفعل المشروع قد اختمر في ذهن كاتبة السيناريو مريم نعوم التي كتبت الحلقات الخمس عشرة الأولى، الرواية تعود لنهايات القرن التاسع عشر مع «ثورة عرابي»، تتكئ إلى وميض وسحر خاص، لأنها تمزج الواقع بالأسطورة، وأيضاً الملامح الفولكلورية التي سيطرت على مفردات الأجواء، العادات والتقاليد، من خلال عين الضابط خالد النبوي وزوجته الآيرلندية منة شلبي، حيث تُصبح كل الأجواء، وهى تمهد للدهشة والتصادم، بين أكثر من زاوية رؤية تُطل من خلالها الشخصيات على الحدث، المسلسل أضفت عليه المخرجة كاملة أبو ذكري عبقاً خاصّاً بمفردات الإضاءة لنانسي عبد الفتاح والموسيقي لتامر كروان، والديكور لفوزي العوامري والملابس لريم العدل، تستطيع أن تلاحظ حرص المخرجة للإخلاص للصورة التي حققها أدبيّاً بهاء طاهر في كلمات أحالتها إلى صورة مفعمة بعبق الزمن، السرد والحديث الداخلي للشخصيات «المونولوج» أحد المقومات الرئيسية في الرواية، وهو ما حافظت عليه مريم نعوم وما أكملته وحتى كتابة هذه السطور، الكاتبة هالة الزغندي، روح الرواية وليس بناءها... لا تزال حاضرة بقوة في الرؤية التلفزيونية.
وإذا كان بهاء طاهر مرئيّاً على شاشة التلفزيون؛ نراه للمرة الثانية بعد «خالتي صفية والدير» فإن إحسان عبد القدوس تجاوز الخمسين فيلماً، وهو يأتي في المرتبة الأولى متفوقاً على نجيب محفوظ الذي يحتل المكانة الثانية رقميّاً، وهو أيضاً ما يمكن أن تجده عبر الشاشة الصغيرة؛ فهو الكاتب الروائي الأول الذي يسعى إليه كتاب الدراما... «لا تطفئ الشمس» رواية لها سحر خاص لهذا قُدِّمت خلال الستينات، في مرحلة متقاربة، فيلماً ومسلسلاً. تامر حبيب توقف أمام تلك الطبقة البرجوازية وهى دائما الملعب الاجتماعي لأديبنا الكبير إحسان عبد القدوس، إذ إنه في أغلب كتاباته يصول ويجول وتتعدد العلاقات والخيانات، انتقل السيناريو بالأحدث إلى هذا الزمن، بتفاصيله واختلافاته القيمية عن زمن الخمسينات الذي وثَّقَه إحسان عبد القدوس في روايته، ليجد طبعاً مساحة من التواصل مع جمهور الشاشة الصغيرة الذي يرى نفسه في كثير من الشخصيات.
وتبقى القضية الرئيسية في علاقة الأدب بالدراما هل تنتعش الدراما بالأدب ولدينا هذا العام مسلسلان ناجحان استندا لعمق روائي؟ هل السؤال إجابته محسومة؟ وهي: نعم، السينما والدراما عندما تستند إلى الأدب تصل إلى ذروة آفاق التعبير، لأن هذا يعني الجدية في كل شيء؟! ثم إن الأدباء الكبار الذين نهلت السينما من أدبهم ولا تزال... تحقق أفلامهم عادةً القدر الأكبر من الإقبال الجماهيري.
لو أحصينا الأفلام التي دخلت تاريخنا الإبداعي لوجدنا أن قسطاً وافراً منها مأخوذ عن أعمال أدبية... أقول «قسطا وافرا» وليس القسط الأكبر... وسوف أضرب لكم مثالاً عملياً بالأرقام... أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية طبقاً للاستفتاء الذي أشرف عليه الكاتب الكبير سعد الدين وهبة، باعتباره وقتها رئيساً لمهرجان القاهرة الدولي السينمائي، وذلك عام 1996 وشارك فيه مائة من النقاد والفنانين والفنيين أسفر عن «العزيمة»، «الأرض»، «المومياء»، «باب الحديد»، «الحرام»، «شباب امرأة»، «بداية ونهاية»، «سواق الأتوبيس»، «غزل البنات»، «الفتوة».. الأفلام المأخوذة عن روايات أدبية هي «الأرض» عبد الرحمن الشرقاوي، «الحرام» يوسف إدريس، «بداية ونهاية» نجيب محفوظ... أي أن النسبة 30 في المائة!!
القصة الروائية العظيمة ليست هي الوصفة السحرية الوحيدة ولا هي أيضاً المضمونة دائماً لتقديم عمل فني ممتع، ولكن يظل المعيار هو براعة المخرج في أن يمنح القصة الإحساس الدرامي. يظل الرهان على كاتب السيناريو القادر على هضم المفردات الروائية وإحالتها لعمل فني هو الفيصل.
لدينا مثلا كنموذج فيلما «الكيت كات» و«عصافير النيل»، العملان للأديب إبراهيم أصلان؛ الأول عن «مالك الحزين»، والثاني عن رواية بالاسم نفسه. في «الكيت كات» هضم داود عبد السيد النص (مالك الحزين) فقدَّم واحداً من أروع أفلامنا العربية، وهناك تعبير شهير في هذا الشأن، وهو افتراس النص الأدبي، ليفرزه بعد ذلك سينمائيّاً، وهذا هو ما فعله داود، بينما في «عصافير النيل» التزم المخرج مجدي أحمد علي تماماً بالرواية، ففقدت تماماً روحها السينمائية.
الدراما لها قانون يفرض نفسه علي مقدرات العمل الفني وهو ما نجح في اجتيازه بنجاح صناع مسلسلي «لا تطفئ الشمس» لإحسان عبد القدوس و«واحة الغروب» لبهاء طاهر، ولكن يبقي أن الرواية الجيدة مهما كان تقييمها الأدبي مرتفعاً لا تعني الضرورة الحصول على شريط مرئي جاذب ومؤثر، أما ما قاله المخرج الروسي ألكسندر سكوروف، فهو حقيقة لأن العمل المرئي يظل مثل الثعبان الرابض على الأرض، فهو يحددك في النهاية بخيال المخرج، بينما الرواية عصفور يحلّق بعيداً ويمنح كل قارئ حرية التحليق بخياله وبلا حدود في السماء السابعة ليعانق قوس قزح!!



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)