«عشا الطيب» يجمع متحاربي الأمس حول مائدة إفطار

شباب «جبل محسن» و«باب التبانة» على طاولة واحدة

المتطوعون يحضرون الطعام
المتطوعون يحضرون الطعام
TT

«عشا الطيب» يجمع متحاربي الأمس حول مائدة إفطار

المتطوعون يحضرون الطعام
المتطوعون يحضرون الطعام

بعد أربع سنوات من انتهاء المعارك التي أدمت منطقتي «باب التبانة» و«جبل محسن» في طرابلس، طوال ست سنوات، لا تزال هاتان المنطقتان موضع اهتمام الجمعيات والمجتمع المدني، لتقريب النفوس وإعادة اللحمة بين الأهالي الذين فرقتهم الفتنة. وبمناسبة شهر رمضان سيجتمع حول إفطار مشترك، شباب من المنطقتين في مقهى «قهوتنا»، كان بعضهم حتى الأمس القريب يشهرون سلاحهم في وجه بعضهم الآخر.
هذا الإفطار الذي يُنظّم في الأيام الأخيرة من الشهر الفضيل، ينظمه القيمون على «سوق الطيب» ومطعم «طاولة»، وذلك تحت عنوان «عشا الطيب»، بالتعاون مع متطوعين «جلّ همّهم مساعدة الآخرين، ورؤية الفرحة على وجوههم» كما يقول شربل ناصر، الذي يعمل مع زوجته باسكال عبد الله وآخرين، على استقبال ما يقارب 70 شاباً وشابة حول مائدة شهية اشتهر بها مطعم «طاولة» الذي ينتقي أفضل المنتجات العضوية التي تعدها ربات بيوت مستعيدات الأطباق التقليدية كما تحضر في مناطقهن. بالتعاون مع جمعية «مارش» التي تعرف جيداً المنطقة وتعمل منذ أكثر من سنتين على مشروعات مسرحية وسينمائية في هذا المكان المأزوم بتاريخه الدموي تم اختيار المدعوين. ويقول شربل ناصر إن «العدد الذي يمكننا استقباله محدود، وكنا نتمنى أن يكون العدد أكبر، لكن لا شيء يمنع أن نعود في مناسبات أخرى، وجلسات حول موائد، خصوصا أننا نقيم هذا العشاء شهرياً، بهدف جمع أناس، نادراً ما يستطيعون أن يخرجوا من منازلهم والذهاب إلى مطعم وتناول وجبات شهية يعدها لهم آخرون. نحن سعداء أن نتمكن من أن نخدم أطفال أو أزواج، وأحياناً عائلة كاملة تجلس حول الطاولة ونتمكن من خدمتها وإسعادها ولو لساعات. وهذه الوجبات يتمنى ناصر أن تصبح مرتين في الشهر بدل مرة واحدة، معتبراً أن فاعلي الخير الراغبين في المساعدة في لبنان، ليسوا بالقلة، شاكراً كرم «جمّال تراست بنك» الذي قرر أن يغطي نفقات هذا العشاء الذي ننظمه على مدار سنة كاملة، وندعو إليه أشخاصا تختارهم جمعيات وتعتبرهم محتاجين إلى هذه الفسحة. أما المتطوعون، فهم يأتون في كل مرة للمساعدة، بعد أن نعلن عن حاجتنا لعونهم على وسائل التواصل، ويحصل أحياناً أن يلبي النداء عدد كبير ونضطر للاعتذار من بعضهم، لأنّنا نكون قد تمكنا من سدّ حاجتنا.
ليزا وكرستين وشربل وزلفا وكمال وآخرون ينتقلون من منطقة إلى أخرى، ليقدموا اللقمة الطيبة بأجواء أليفة ومعهم نساء يطبخن ويقمن بإعداد الطعام، وحين يكون حول المائدة أطفال تأتي الكاتبة رانيا زغير، وتروي لهم حكاياها. دائماً ثمة متعة ما يحرص عليها منظمو هذه المآدب المتنقلة، التي لا تحرم من لا يستطيعون دفع ثمن الوجبة من متعة تناولها والقيام بخدمتهم.
يعلق شربل قائلاً: الفكرة مقتبسة من الطاهي الإيطالي الشهير ماسيمو بوتوروا، الذي حاز مطعمه لقب أهم مطعم في العالم، ومع ذلك لا تزال مشروعاته الاجتماعية، وتحضير الأطباق لمن لا يستطيع أن يحصل عليها، والحد من التبذير ورمي الطعام، في صلب اهتماماته.
جدير بالذكر، أن «سوق الطيب» التي تنظم هذا الإفطار كانت قد تأسست منذ عام 2004، وتحولت إلى موعد أسبوعي لعرض وتصريف أجود منتجات المزارعين اللبنانيين الذين كانوا يجدون صعوبة في إيصالها إلى طالبيها، واقترن بالسوق اسم مطعم «طاولة» الذي أنشأ بدوره في بيروت، وصار له فروع أخرى، للاستفادة من مهارة النساء اللبنانيات في الطبخ اللواتي يتناوبن على تحضير الأطباق التقليدية كما تطهى في قراهن ومناطقهن. و«عشا الطيب» الذي ينظم شهرياً هو حصة من لا يستطيع ارتياد المطعم، عملاً بمقولة «من لا يستطيع أن يأتينا نذهب إليه بأنفسنا».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».