تعلمتُ من «القرآن الكريم» أن أكون شغوفاً بالترجمة السارية في الوجود

تعلمتُ من «القرآن الكريم»  أن أكون شغوفاً بالترجمة السارية في الوجود
TT
20

تعلمتُ من «القرآن الكريم» أن أكون شغوفاً بالترجمة السارية في الوجود

تعلمتُ من «القرآن الكريم»  أن أكون شغوفاً بالترجمة السارية في الوجود

من الصعوبة الإشارة إلى كتاب بعينه، فيقول المرء: هذا الكتاب، أكثر من غيره، قد غيّر مسيرة حياتي. قد يكون هناك أكثر من كتاب يؤثر في صياغة تفكير المرء، وسلوكه، وأحياناً - بل ربما معظم الأحيان - بطرائق مباشرة وغير مباشرة، وبوعي ومن دون وعي، إذ تكون التأثيرات مبثوثة، كامنة، تنتظر وقت تبلورها وتأثيراتها.
فالكتب، كأحداث الحياة، تؤثر في لحظات وسياقات معينة، وتُستعاد من منظورات مختلفة. وقد تكون هناك كتب قرأها المرء سابقاً، فلم تؤثر فيه كثيراً ويعيد قراءتها في مكان وزمان آخر، فإذا هي ذات تأثير قوي غير مسبوق، والعكس صحيح، فربما قرأنا كتباً أثرت فينا بقوة، ثم تلاشت أو قلّت قوة هذا التأثير بحكم تجارب حياتية عملية جديدة أو بقراءات كتب أخرى. ومع كل ذلك، وربما لحميمية العلاقة مع الكتب، لا يتحرج كثير من المثقفين والكتاب، من تحديد كتاب بعينه والقول إنه كان أكثر تأثيراً من غيره، مع صعوبة قياس أو إثبات التأثير. هذا حالي مع الكتب كان بين مد وجزر، وصيرورة حياتية وفكرية.
أما الكتاب الذي أستعيد معه على الدوام تاريخ علاقاتي بالمعنى والصيرورة والحياة ومغزاها، فهو «القرآن الكريم». فمنذ كنت في الخامسة من عمري أردد في مدرسة سيهات الأولى، بلا تشجيع على السؤال، وسامح الله المدرسة والمنهج والمعلمين، آيات من القرآن الكريم، وإلى اليوم وأنا أستعيد بين فترة وأخرى مسألة معنى الصوت والآيات والمضامين. كان هاجسي وشاغلي هو: لماذا؟ وكان السؤال مقموعاً.
في المرحلة المتوسطة، أخذني الوالد (يرحمه الله)، إلى كرسي قراءة القرآن بعد الإفطار في شهر رمضان في بيت (أبو ناجي المشامع) بمدينتي سيهات. كنتُ أيضاً أردد في ليالي الشهر الكريم الآيات العزيزة وأتساءل.
في الثانوية، كانت اهتمامي بالقراءات والمقامات الصوتية تتشكل. في الجامعة، بدأت الأسئلة الكبرى تتسع وتتشابك في علاقة المعنى بالصوت بالترتيب بالمعاني الإنسانية الخالدة التي أراد رب العالمين الرحمن الرحيم لبني البشر أن يتقاسموها ويعيشوها.
من هنا ونفسي شغوفة بدراسات علم اللغة الاجتماعي والتربية، وجدت نفسي شغوفاً بالترجمة. كنتُ أنظر إلى الترجمة كفعل أنطولوجي سار في الوجود، نوع من التسبيح. كنتُ أعود إلى القرآن فأقرأ: «وإن من شيء إلّا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم». تقودني المفاهيم اللغوية والاجتماعية والأنطولوجية للترجمة إلى مشروع الموسوعة العربية العالمية.
تمر السنوات وتتناسل الحكايات. وأعود إلى هذا الكتاب الكريم باستمرار في محاولات للتأمل الجديد.
تفاجئ «داعش» العالم. وتسيل الدماء وتملأ الأحزان والمآسي أصقاعاً كثيرة من هذا العالم العربي والإسلامي. أحياناً، يمارسون الخراب والدمار باسم القرآن وباسم منزل القرآن... والكل يقرأ القرآن. هذا يحتاج بدوره إلى عودة جديدة تماماً إلى النص القرآني الشريف، وإلى مسائل المعنى وعمارة الأرض ومحبة الإنسان واحترام الديانات والثقافات والمعتقدات، وإلى مسائل الحرية والكرامة البشرية. هذه مسألة تعليم وثقافة في المقام الأول.
* عضو مجلس الشورى
مدير عام الموسوعة العربية العالمية



«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT
20

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.