نجوم يصالحهم التلفزيون وتخاصمهم السينما

موطنهم الأصلي الشاشة الصغيرة

يوسف الشريف بطل «كفر دلهاب»
يوسف الشريف بطل «كفر دلهاب»
TT

نجوم يصالحهم التلفزيون وتخاصمهم السينما

يوسف الشريف بطل «كفر دلهاب»
يوسف الشريف بطل «كفر دلهاب»

من الممكن أن تحيل النجاح إلى رقم يُستند إليه سينمائياً، لديك في نهاية الأمر شباك التذاكر، له إيراد واضح، ولكن كيف يحصل ذلك تلفزيونياً، في ظل قسوة ماراثون رمضان الذي شهد هذا العام كما الأعوام الماضية كثيراً من الأرقام التي تتردد عن كثافة المشاهدة وأغلبها لا تعبر عن الحقيقة، ولكنّها مجرد اجتهادات بحسن نية، أو ربما قناة فضائية تحاول الترويج لنفسها، فتصدر للرأي العام بعض الاستفتاءات الرقمية (المضروبة)؟
عدد من النجوم يكتفي بالصمت، ولكن هناك من يعتبرها معركته، اضطرت ياسمين عبد العزيز قبل أيام أن تعلنها صريحة وبلا مواربة أنا الأعلى أجراً بين كل النجوم، وذلك رداً على التساؤلات التي لاحقتها حول مسلسلها «هربانة منها»، الذي لم يحقق كثافة مشاهدة عالية، صادف المسلسل أكثر من انسحاب في توقيت حرج قبل رمضان، ولهذا يجري تصويره الآن مثل أغلب المسلسلات حتى نهاية رمضان، وكأنّه يخرج ساخناً من الاستوديو مباشرة للشاشة، كان آخر المنسحبين المطرب تامر حسني الذي وضع ياسمين في مأزق، ولكن لأنّها تُشكل ورقة قوية على مائدة شركات الإنتاج التلفزيوني، استطاعت أن تتجاوز كل المعوقات، ربما كانت ياسمين هي الأعلى أجراً بين النجمات كما تقول، ولكن المؤكد أنّ الأرقام التي يحصل عليها النجوم الرجال مثل عادل إمام ومحمد رمضان وكريم عبد العزيز وأحمد السقا تلفزيونياً هي الأعلى.
قانون الحياة الفنية يرفع شعار «قل لي كم هو أجرك، أقل لك من أنت؟»، مع الأسف صارت هذه هي القاعدة في تقييم الفنانين، بل في كثير من مناحي الحياة، صحيح أنّ كل شيء في الدنيا من الممكن إحالته إلى رقم، ولكن ليس صحيحاً أنّ كل ما في الدنيا تزداد قيمته كلما ارتفع الرقم.
كثيراً ما يتنابز النجوم بالأرقام، بل عدد منهم يروج أخباراً للأجر مبالغاً فيها بناء على اتفاق مسبق مع شركة الإنتاج التي كثيراً ما تعلن عن أرقام غير حقيقية يتقاضونها عن المسلسل أو الفيلم أو الأغنية. والمقصود هو أنّ «العيار اللي ما يصيبش يدوش»، ومصلحة الضرائب كثيراً ما تصدق تلك الأرقام وتضاهي الخبر المنشور بالإقرار الضريبي الذي قدمه الفنان، فتكتشف أنّ «البون» شاسع فتأتي الإجابة على لسان النجوم «ده كلام جرائد حد عاقل يصدق الجرائد»!!
بعيداً عن تلك التفصيلة، هل هناك ارتباط شرطي بين الرقم الذي يتقاضاه النجم في التلفزيون ومكانته على الخريطة الفنية بوجه عام، كما يقولون لكل مقام مقال، ولكل نجم أيضاً مجال، كانت وستظل السينما لها قانونها وللتلفزيون قانونه، لدينا نجوم تلفزيون تصالحهم الشاشة الصغيرة وتضعهم في البؤرة، بينما هؤلاء لا مكان مميزاً لهم على شاشة السينما، أفلامهم غير قادرة على جذب المتفرج إلى دار العرض وإقناعه بقطع تذكرة السينما.
لا شك أنّ البعض استطاع اختراق تلك الحواجز بين الشاشتين، بل في «الميديا» كلها مثل عادل إمام، مهما كان مستوى ما يقدمه من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، فإنّنا في النهاية بصدد نجم يحقق أعلى الأرقام في كل الوسائط، ولكن هل هذا ينطبق على الآخرين؟ لدينا نموذج صارخ هو يحيى الفخراني نجم تلفزيوني استثنائي، بل هو يحظى في كثير من الاستفتاءات بلقب «الأول»، ورصيده من الجوائز يشهد بذلك، وعدد من مسلسلاته صار يعاد عرضها كثيراً خارج رمضان بناء على رغبة المشاهدين، إلا أن يحيى مبتعد عن السينما منذ نحو 20 عاماً، كما أن أفلامه بحساب الإيرادات على الرغم من أهميتها وحصولها على مراكز متقدمة في قائمة الأفضل، فإنها لا تحقق الرقم الأكبر في الشباك.
بينما ياسمين عبد العزيز هي النجمة الوحيدة بين جيلها التي لها شباك تذاكر واضح في السينما، ولهذا فمن البديهي أن تقدم لها مشروعات تلفزيونية، إلا أن العكس غير صحيح في مجمله، مهما كان نجاح النجم لافتاً تلفزيونياً، فإن هذا لا يعني أن السينما ترحب به بطلاً.
دعونا مثلاً نلقي نظرة على نجمة صار موطنها الأصلي التلفزيون ولا تمنحها السينما نجاحاً موازياً، لديكم مثلاً غادة عبد الرازق منذ 7 سنوات، ولها مسلسل تلعب بطولته، وعلى الرغم من تباين مستوى ما تقدمه على شاشة التلفزيون، وهذا العام لم يكن مسلسل «أرض جو» لصالحها، فإنها ولا شك تضمن لها كل عام مساحة من الوجود على خريطة رمضان، الوجه الآخر للحكاية وهو أين غادة كبطلة سينمائية؟ كل محاولاتها وآخرها «اللي اختشوا ماتوا» باءت بالفشل في شباك التذاكر، القدرة على جذب الجمهور للسينما، تختلف بين النجوم، وغادة نجمة صار الجمهور متعوداً أن يراها أمامه في البيت بث مباشر، ولا يذهب إليها ويتكبد مشقة دفع ثمن التذكرة، أفلامها كبطلة مع تتابعها مثل «بون سواريه» و«كلمني شكرا» و«ريكلام» و«جرسونيرة» وغيرها تؤكد ذلك، فهي غير قادرة على الجذب.
لديك مثلاً ورقة مثل يوسف الشريف الذي يحجز لنفسه سنوياً مكاناً مميزاً في الدراما، المؤكد أنّه هذا العام يُقدم واحداً من أكثر المسلسلات استحواذاً على الجمهور في «كفر دلهاب»، وهو منذ عام 2012، له مسلسل يحقق قدراً لا ينكر من الجماهيرية، مثل «رقم مجهول»، ليحجز لنفسه مكانة على الخريطة التلفزيونية، كبطل للعمل الفني، ولكن على الجانب الآخر كانت هناك محاولات لصناعة نجم سينمائي باءت بالفشل، حتى إن يوسف شاهين في فيلم «هي فوضى»، راهن عليه وخسر الرهان.
لدينا أيضاً مصطفى شعبان بعيداً عن مستوى أعماله التجارية التلفزيونية بطبيعتها، فإنه لم ينجح سينمائياً، وأيضاً كان يوسف شاهين يراه بطلاً ومنحه الفرصة في فيلمه «سكوت ح نصور»، ولعب بطولة أفلام أخرى مثل «الشرف»، و«النعامة والطاووس»، و«أحلام عمرنا»، و«فتح عينيك» و«رومانتيكا»، إلا أنه لم يصبح بعد نجماً جماهيرياً في السينما، بينما صار نجاحه التلفزيوني مميزاً ومعترفاً به. بدأ صعوده التلفزيوني قبل 16 عاماً في «الحاج متولي»، ابن الحاج نور الشريف، الذي كان متزوجاً من أربعة، ومن الواضح أن اللعبة صارت مفضلة بالنسبة له فصرنا نشاهده بطلاً مع قسط وافر من النساء بداية من «العار»، وتعدّدت المسلسلات مثل «الزوجة الرابعة»، و«مزاج الخير»، و«دكتور أمراض نسا»، و«مولانا العاشق»، و«أبو البنات»، وأخيراً «اللهم إني صايم»، وكلها للحقيقة تحظى بهجوم نقدي كاسح، ولكن في الوقت نفسه تحظى أيضاً بإقبال جماهيري منقطع النظير.
لدينا أمير كرارة هذا العام حقق قفزة جماهيرية في مسلسل «كلبش»، قبلها شاهدنا له أكثر من مسلسل رمضاني كبطل مثل «الطبال»، و«حواري بوخارست»، و«ألف ليلة وليلة»، هذه المرة كان نجاحه استثنائياً ولافتاً، والغريب أن يعرض في «الماراثون» الرمضاني نفسه مسلسل «الحصان الأسود» لأحمد السقا، لم يحقق السقا أي نجاح يذكر، المفارقة أنهما في أفلام العيد يلتقيان في «هبوط اضطراري»، البطل هو أحمد السقا ويقف بطلاً مساعداً في الفيلم نفسه أمير كرارة، هل من الممكن أن يحقق أمير رغبته الدفينة في أن يصبح بطلاً سينمائياً ويتفوق على السقا؟ حلم يبدو الآن بعيد المنال.
أيضاً هذا العام سمية الخشاب التي عادت بطلة في مسلسل تجاري «الحلال»، كان لسمية طموح قبل 16 عاماً لتصبح بطلة سينمائية، ولعبت بالفعل بطولة فيلم «رانديفو»، وشاركت مع المخرج خالد يوسف في بطولة أكثر من فيلم مثل «حين ميسرة»، و«الريس عمر حرب»، ثم تعثرت سينمائياً وعادت للمسلسلات، السينما لا تزال بعيدة.
ياسر جلال كان هو بحق الحصان الأسود في رمضان هذا الموسم بمسلسله «ظل الرئيس» استطاع أن يسرق الاهتمام، وتذكر الناس ياسر مجدداً بطلاً، كانت السينما قدمته ومن خلال فيلمين شارك في بطولتهما أمام نادية الجندي «بونو بونو»، و«الرغبة»، ولكنّه لم يتحقق كنجم شباك، وعاد في أدوار موازية للبطل مثل «شد أجزاء» أمام محمد رمضان، إلا أن حلم البطولة السينمائية لا يزال يراوده.
هناك أيضاً رغبة عكسية لنجم السينما لكي يحقق نجاحاً جماهيرياً عبر الشاشة، وهو مثلاً ما نجح في تحقيقه هذا العام كريم عبد العزيز، في مسلسل «الزيبق»، ومن الممكن أن يلعب التلفزيون دوراً إيجابياً في اتساع دائرته الجماهيرية سينمائياً.
يسمح قانون التلفزيون لنجم السينما بأن يقدم مسلسلاً كل عام أو اثنين، بينما قانون السينما صارم في هذا الشأن لا يسمح بالمثل، فهو لا يمنح ببساطة لنجم تلفزيوني تأشيرة سينمائية تسمح له بالبطولة، إلا إذا كان يتمتع بمواصفات نجم السينما، وتلك ومضة ومنحة خاصة قادرة على جذب الجمهور من البيت إلى دار العرض، لا يتمتع بها إلا عدد محدود جداً من النجوم.


مقالات ذات صلة

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

يوميات الشرق بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

في خطوة عدّها الاتحاد الأوروبي «علامة فارقة في الشراكة الثقافية مع ليبيا»، يواصل مهرجان للأفلام الأوروبية عرض الأعمال المشاركة في العاصمة طرابلس حتى الخميس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق تجسّد لبنى في «خريف القلب» شخصية السيدة الثرية فرح التي تقع في ورطة تغيّر حياتها

لبنى عبد العزيز: شخصية «فرح» تنحاز لسيدات كُثر في مجتمعنا السعودي

من النادر أن يتعاطف الجمهور مع أدوار المرأة الشريرة والمتسلطة، بيد أن الممثلة السعودية لبنى عبد العزيز استطاعت كسب هذه الجولة

إيمان الخطاف (الدمام)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)