نهار مطر «رسام العباسية»: الفحم يكشف ملامح الوجه الداخلية

تخصص في رسم المشاهير والفنانين.. ويشكو من تردي الذائقة الفنية

جانب من اعمال نهار مطر
جانب من اعمال نهار مطر
TT

نهار مطر «رسام العباسية»: الفحم يكشف ملامح الوجه الداخلية

جانب من اعمال نهار مطر
جانب من اعمال نهار مطر

رحلة شجية في دروب الأزمنة وملامح البشر والحياة يقطعها يوميا «نهار مطر» رسام الوجوه في دكانه الصغير العتيق بحي العباسية بالقاهرة.. فعلى صوت المطربة الشهيرة «أسمهان»، الذي ينساب من مذياع قديم، ينهمك في اصطياد ملامحها، في بورتريه بالقلم الفحم، يأمل أن يوازي رهافة الأغنية وأن يعجب الزبون.
يقول نهار مطر، الفنان ذي الوجه الخمسيني أو «رسام العباسية» كما أطلق عليه أبناء الحي مسترجعا جانبا من ذكرياته: «عشت أولى أيام حياتي بميدان الجامع بحي مصر الجديدة شرق العاصمة، ومن خلاله كانت أولى خطواتي الفنية التي تعلمت فيها الفن وارتبط وجداني بالأحياء الشعبية المحيطة فعرفت المرأة المصرية وتعرفت على ثقافتها وموروثها الشعبي الغني بالمفردات والأعراف والتقاليد.
يتابع وهو يتأمل فضاء البورتريه: «وأنا طفل صغير سحرتني مناظر المرأة المصرية الأصيلة في أفلام السينما القديمة وتجسدت في نجمات ونجوم الزمن الجميل مثل هند رستم، وفاتن حمامة، وتحية كاريوكا، وسعاد حسني، وكذلك نجيب الريحاني، وتوفيق الدقن، وفريد شوقي، وعبد الحليم حافظ، وغيرهم الذين كنت أرى فيهم قوة وصلابة وعراقة الماضي وجمال ورقة المرأة المصرية. حلمت أن أرسمهم يوما ما، فالشخصية المصرية عموما فيها ثراء فني كبير يكمن في اختلاف أشكالها وطبيعة شخصيتها، تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ويعكس الاختلاف نوعا من التمايز، يضيف لرصيدها، من أقصى الصعيد في جنوب مصر إلى أقصى الشمال في وسط الدلتا، فلكل منطقة سمات مختلفة تنم عن تباين مختلف في أسلوب الحياة والمعيشة أيضا، تكشف عن قيم وعادات ثابتة وهموم مشتركة، تتبلور من خلال معايشتها بأسلوب مختلف لاختلاف البيئة المحيطة وطرق التكيف مع الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي».
احترف «رسام العباسية» الرسم بالفحم بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة عام 1975 وتفرد في رسم لوحات لشخصيات تاريخية وزوجات الرؤساء وفنانات عرب ومصريات، بجانب تصويره للبيئة المحيطة التي تصور ثقافة وحضارة شعب تمتد لأكثر من سبعة آلاف عام، وهو ما ألهمه الرسم في سن مبكرة كما يقول مطر: «البيئة المصرية ملهمة لأي رسام في العالم أيا كانت جنسيته وهي غنية بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تجسد معاني الجمال والخير والحب، وهي بيئة متفردة لا يوجد مثيل لها في أي بلاد أخرى من العالم، وكلها أشياء تدفع إلى التأمل والتفكير، منها بدأت أولى خطوات تعلمي للفن، فكانت بمثابة المخزن الفني الذي كلما استدعيته أفاجأ بأشياء جديدة ومثيرة».
وحين أساله لماذا لا يخرج إلى البيئة الأرحب للفن، يقول وهو يجفف عرقة بمنشفة صغيرة: «هؤلاء الناس الذين أرسمهم تركوا بصمة في مجالاتهم، وأثروا حياتنا بفنهم، وعلمونا معنى الجمال والحب والرقي، وهي معان أصبحنا نفتقدها مع إيقاع الحياة اللاهث الذي نعيشه، ناهيك بتردي الأوضاع الإنسانية، واهتزاز معايير السلوك، وهو ما انعكس بقوة على الذائقة الفنية بشكل عام».
يتابع مطر: «أتذكر عندما التحقت بالكلية تناوشتني مفاهيم ومعان فنية كثيرة، فجلست أفكر وأسترجع الذاكرة ووجدت وجه الشخصية المصرية وكأني حصلت على ضالتي، شدني ما بها من مآس وآلام وطموح وآمال. كل هذه الأمور كانت بداية تعلمي رسم البورتريه، وأنه ليس مجرد نقل ملامح أو صورة ولكنة ترجمة لآلام وآمال وتأريخ للفترة الزمنية المعيشة. ويستطرد مطر منهمكا على لوحته: «الوجه المصري عموما مليء بالموضوعات والدلالات، وقد ألهمني الله سبحانه وتعالى مقدرة قراءة الصورة أو الوجه وأستطيع أن أترجم ما بداخلها من مكنونات خفية على المشاهد، وربما لا يعرفها إلا صاحبها وهذه عادة الشعب المصري، فالرسم له أصول وقواعد صارمة ولكن الفنان له من السبل لاختزال القوانين والتشريح ليصل إلى مكنون الشخصية».
وبعد أن بدأت ملامح وجه «أسمهان» تتضح بقوة، قال بنشوة واضحة: «الرسم بالفحم نادر، وبعد البحث الدءوب وتجارب مع الخامات من رصاص وباستيل وزيت وألوان مائية، وجدت أن خامة الفحم أغنى وأقرب إلى روح المصري، وتستطيع من خلالها أن تصل للمحتوى الداخلي له، فقد رسمت كل الوجوه من البسطاء إلى أشهر الناس، كما أنه تم تكليفي من شخصيات هامة في مصر وخارجها من مشاهير الدولة والسياسيين برسم بورتريهات خاصة لفنانين يعشقونهم، مثل أم كلثوم وتحية كاريوكا وأسمهان وغيرهن وما زال في جعبتي الكثير».
وعن زبائنه وطبيعة ذوقهم الفني وعشقهم للفن يقول مطر: «كان زمان يوجد جيل من عمالقة الفن ورسامي الفحم، لكن تفرق عقدهم، كما رحل الكثير من عمالقة الفن والأدب، من أمثال أم كلثوم والشيخ الشعراوي وبيكار وراغب عياد وعبد الناصر والسادات والريحاني وطه حين والعقاد، في خضم هذا الرحيل لم يبق إلا عدد قليل جدا من رسامي الفحم، لذلك أصبحت مقلا من أعمالي، فقد كنت أرسم البورتريه بقروش بسيطة إلى أن وصلت حاليا للمئات، وكان زبائني من كل أطياف الشعب والعرب والأجانب، وكان أحب الوجوه لقلبي العندليب الراحل عبد الحليم حافظ لأنه كان فنانا صادقا ومحبا للحياة».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».