الهجمات على طهران... وعلاقاتها الشائكة مع «داعش»

توجه التنظيم للعمليات في إيران ضرورة استراتيجية له بعد فشله في العراق وسوريا

تشييع  ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
تشييع ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
TT

الهجمات على طهران... وعلاقاتها الشائكة مع «داعش»

تشييع  ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
تشييع ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)

أثارت الهجمات التي شنها تنظيم داعش على مقر البرلمان الإيراني وضريح الخميني، وأسفرت عن مقتل 12 شخصاً وجرح 42 آخرين، الكثير من التساؤلات حول سبب استهداف التنظيم إيران الآن بعد أن تجاهلتها الهجمات منذ بدء تأسيس «داعش». الأمر الذي قد يشي بنقلة استراتيجية للتنظيم باستهدافها المباشر للكيانات السياسية والدينية لإيران، وإلغاء وصاية تنظيم القاعدة بحرصه على عدم المساس بإيران. بالأخص بعد أن تراجع نفوذ «داعش» في كل من العراق وسوريا واستحالت هجماته إلى عشوائية تستهدف كل بقاع العالم. فالعالم أجمع هو عدو لـ«داعش»، والهجمات وجّهت لكل من طهران ولندن في شهر رمضان الذي وقع هو الآخر ضحية للتنظيم بعد أن أصبح على مر السنوات شهر يعتزم فيه تكثيف هجماته.
لا يعد اختيار شهر رمضان توقيتاً للهجمات الداعشية بأمر جديد، إذ يأتي امتداداً لنهج التنظيم في استغلاله للكثير من المناسبات الدينية سواء يتم اختيارها لاكتظاظها بعدد كبير من الضحايا المحتملين، كما حدث مع الأقباط في مصر، أو اختيار مناسبة دينية كشهر رمضان وهو رمز الصبر والعبادة، ليستحيل عبر حملات إعلامية مكثفة إلى وقت مناسب لتحريض المنتمين إلى التنظيم أو المتعاطفين معه لشن هجمات إرهابية. كتصريح المتحدث الرسمي السابق باسم تنظيم داعش أبو محمد العدناني في 22 مايو (أيار) 2016. حين دعا أعضاء التنظيم لشن هجمات إرهابية في أوروبا: «ها قد أتاكم رمضان شهر الغزو والجهاد شهر الفتوحات فتهيؤوا وتأهبوا لتجعلوه شهر وبال في كل مكان على الكفار، وأخص جنود الخلافة وأنصارها في أوروبا وأميركا». هذه التصريحات التحريضية تلتها هجمات إرهابية مكثفة من قبل «داعش» ففي شهر رمضان وحده في عام 2016 وحده، استهدف التنظيم عبر هجماته بقاع متفاوتة ما بين مطار أتاتورك في إسطنبول، والسعودية التي تعرضت لهجمات متتابعة في يومين متتاليين أبرزها موقف سيارات لقوات الطوارئ قرب الحرم النبوي، ومسجد للشيعة في محافظة القطيف، وتفجير داخل مواقف إحدى مستشفيات مدينة جدة، بالإضافة إلى هجمات إرهابية كثيرة في العراق.
ولفترة طويلة ظهر ما هو أشبه بإسقاط إيران من أجندة الهجمات الإرهابية بدءاً من تنظيم القاعدة وامتداداً إلى «داعش»، إذ لم تتعرض إيران لأي هجمات إرهابية من قبلهما وذلك على الرغم من التنافر الإيراني الداعشي من حيث التوجه الطائفي، إلا أن المواجهة ما بينهما اكتفت بالتواجد على الساحة العراقية والسورية. وتعود آخر هجمة إرهابية تعرضت لها بلاد فارس إلى تاريخ 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2009. أثناء لقاء مسؤولين من الحرس الثوري بوجهاء في محافظة سيستان بلوشستان، مما أدّى إلى مقتل 29 شخصاً بينهم ضابط كبير. وقد نسب الاعتداء إلى جماعة جند الله السنية البلوشية التي تطالب باستقلال إقليم بلوشستان عن إيران. وسبق ذلك بنحو العام والنصف في أبريل (نيسان) 2008 انفجار في مسجد الحسين بمدينة شيراز أثناء الصلاة مما أودى بحياة 14 شخصا وإصابة ما يزيد عن 200 شخص وتبنته منظمة شبه مجهولة تحت مسمى «جنود الجمعية الملكية الإيرانية». فيما بدا احتمال مهاجمة إيران من قبل تنظيم داعش غير متوقع، مما تسبب بتشكيك المحللين السياسيين لمدى جدية التهديدات التي وجهها «داعش» لإيران عبر تسجيل مرئي باللغة الفارسية في 27 مارس (آذار) 2017 بعنوان: «بلاد فارس بين الماضي والحاضر»، والإعلان عن تشكيل قوة عسكرية مثلتها «كتيبة سلمان الفارسي» تهدف إلى تهديد أمن إيران، واتهام نظامها بمطاردة واضطهاد المسلمين السنة.
* «داعش» ليس «القاعدة»
برز دور تنظيم داعش في قلب العراق وقد استخدمت شعائر طائفية تطالب المسلمين السنة بالنهوض ومواجهة الشر الذي يمثله ما وصفتهم بـ: «الروافض» و«الخونة» و«عملاء إيران» إلى جانب تكفير وتجريم الأنظمة العربية والمسلمة وتحويل العالم أجمع كعدو لهم في مواجهة المنتمين للتنظيم وهم وحدهم على طريق الصواب، فيما يظهر التفاوت ما بينه وتنظيم القاعدة في تركيز الأخير على استهداف الدول الغربية وحدها وعلى رأسها الولايات المتحدة مع وجود حرص على عدم استهداف إيران بشكل عام والشيعة في العراق. العلاقة الشائكة ما بين إيران والتنظيمات المتطرفة السنية يظهرها تصريح أبو محمد العدناني المتحدث السابق باسم تنظيم داعش، ظهر في تسجيل صوتي معنون «عذراً أمير القاعدة» يعود بتاريخه إلى 11 مايو 2014، رافضاً سياسة تنظيم القاعدة التي حرصت على توجيه تنظيم داعش بعدم توجيه ضربات للشيعة بشكل عام ولإيران بشكل خاص. «ظلت الدولة الإسلامية تلتزم نصائح وتوجيهات شيوخ الجهاد ورموزه، ولذلك لم تضرب الدولة الإسلامية الروافض في إيران منذ نشأتها، وتركت الروافض آمنين في إيران، وكبحت جماح جنودها المستشيطين غضباً، رغم قدرتها آنذاك على تحويل إيران لبرك من الدماء، وكظمت غيظها كل هذه السنين، تتحمل التهم بالعمالة لألد أعدائها لإيران، لعدم استهدافها، تاركة الروافض ينعمون فيها بالأمن والأمان، امتثالا لأمر القاعدة، للحفاظ على مصالحها، وخطوط إمدادها في إيران».
وتعكس هذه التصريحات حرص المتحدث الرسمي السابق لـ«داعش» دحض الاتهامات التي تلتف حول التنظيم وتورطه بعلاقة مع إيران، إذ أن ذلك يتنافى مع الرسالة الداعشية التي تجلت منذ بداية تأسيس التنظيم وصرح أبو بكر البغدادي في أكثر من مناسبة حول تخوين الشيعة وضرورة استهدافهم في العراق، الأمر الذي تسبب بتصاعد الطائفية وإراقة الدماء. ليعزو العدناني بذلك سبب التحفظ في توجيه هجمات لإيران إلى توجيهات «القاعدة» لهم، ويظهر ذلك عبر توصيات أحد أبرز قياديي «القاعدة» أيمن الظواهري بعدم المساس بإيران ويظهر ذلك عبر رسالة شديدة اللهجة وجهها لأبي مصعب الزرقاوي في عام 2005 وأكد فيها بأن: «الشيعة ليسوا هدفاً لتنظيم القاعدة» وذلك في رد على مطالبة الزرقاوي مهاجمة إيران. فيما طالب بعدم إثارة إيران عبر استهداف الشيعة في العراق.
هنا يجوز التساؤل حول سبب حدوث الهجمات في هذا التوقيت على وجه الخصوص، فتصريحات أبو محمد العدناني، الذي قتل في حلب، قديمة تعود إلى عام 2014. وتظهر إعلان تمرد على توجيهات التنظيم الذي يعد ليس فقط الأب الروحي للتنظيم، وإنما جزء منه قبل أن يصبح له كيانه المستقل. في تسجيل صوتي بعنوان: «فستذكرون ما أقول لكم» تحدث أبو الحسن المهاجر لأول مرة بصفته المتحدث الرسمي للتنظيم خلفاً للعدناني مهددا إيران: «لقد بلغ الشر من دولة المجوس إيران منتهاه واستطار الشرر فعم البلاد وساء العباد، ففتكت بأهل السنة في العراق والشام عبر وكلائها وخبرائها ومستشاريها فأمسى السني بين مكبّل قابع وذليلٍ خانع تابع ولم يكف هذا إذ لم يكن لها من المسلمين رادع بعد الله غير دولة الإسلام».
* ضرورة استراتيجية
توجيه تنظيم داعش هجمات إرهابية لإيران بات «ضرورة استراتيجية» للتنظيم بعد فشله في إقامة خلافة مزعومة, في كل من العراق وسوريا، وفرار الكثير من زعماء التنظيم خارج الموصل، فاستهداف إيران يعد بمثابة نجاح للتنظيم يغطي على هزائمه المتتالية وتقهقر عملياته, وبالأخص مع تنامي دور إيران في كل من العراق وسوريا من خلال زيادة عدد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق، وقد تأسس عدد منها بهدف محاربة تنظيم داعش، فيما استهدف عدد منها السنة بشكل عام في العراق دون تمييز بين المتطرفين والمدنيين بدافع انتقامي مما أجج من الطائفية التي أشعلتها «داعش» فيما قبل. وكما هو معروف برزت ميليشيات شيعية في سوريا بدعم إيراني بهدف دعم نظام بشار الأسد. وبشكلٍ عام بات استهداف الدول خارج مناطق الصراع أسهل على تنظيم داعش بعد أن وجهت قوات التحالف الدولي ضربات قوية للتنظيم عبر غارات جوية وبرية مكثفة ضيقت الخناق عليه في أماكن قوته في العراق وسوريا. ومن جهة أخرى فإن من السهل تنفيذ مثل هذه الهجمات كونها عشوائية مباغتة وبمثابة انتقام لكل من تورط في توجيه هجمات لـ«داعش». وإن كانت قدرة التنظيم على تكرار مثل هذه العمليات الإرهابية ليست بالأمر السهل بالأخص بعد تشديد الاحترازات الأمنية في الدول التي تمتلك قدرات أمنية قوية، وتعتمد على مدى تغلغل أعضاء التنظيم في هذه الدول.
لذلك من الصعب التكهن في تكرار عمليات «داعشية» في إيران، وستحدد الفترة القادمة توجه التنظيم ومدى إمكانياته القيام بذلك، فقد تطرقت بيانات وتسجيلات تنظيم داعش الأخيرة التي هددت إيران عبرها بوجود أعضاء متطرفين شرقي العراق ينتمون لكتيبة سلمان الفارسي عازمين على مهاجمة إيران. وقد عكس بيان الحرس الثوري توعد إيران وملاحقتها للمتسببين بالهجمات الإرهابية: «لن نترك إراقة الدماء من دون ثأر، ولن نتردد لحظة في صيانة أرواح الشعب». وأظهر تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب من جهته ذلك الغموض الذي يكتنف طبيعة العلاقة ما بين إيران والتنظيمات الإرهابية التي تخالف توجهاتها، إذ عقب إبدائه تعاطفه مع ضحايا التفجيرات ذكر ترمب بأن «رعاة الإرهاب يقعون ضحية له». وذلك في إشارة إلى التورط الإيراني في دعم الإرهاب في المنطقة، وقد أثار تعليقه اللغط والاستنكار وأشعل غضب المسؤولين الإيرانيين.


مقالات ذات صلة

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

الولايات المتحدة​  وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا (أ.ف.ب)

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لوكالة أسوشيتد برس إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إبقاء قواتها في سوريا لمنع تنظيم داعش من إعادة تشكيل تهديد كبير.

«الشرق الأوسط» (قاعدة رامشتاين الجوية (ألمانيا))
المشرق العربي وزير الخارجية التركي هاكان فيدان (الخارجية التركية)

تركيا تكشف عن 4 مطالب دولية في سوريا

كشفت تركيا عن إجماع دولي على 4 شروط يجب أن تتحقق في سوريا في مرحلة ما بعد بشار الأسد وهددت بتنفيذ عملية عسكرية ضد القوات الكردية في شمال سوريا وسط دعم من ترمب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قائد الجيش الأردني اللواء يوسف الحنيطي مستقبلاً وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة (التلفزيون الأردني)

بين أنقرة ودمشق… مساع أردنية لإعادة بناء قدرات «سوريا الجديدة»

هناك رأي داخل مركز القرار الأردني ينادي بدور عربي وإقليمي لتخفيف العقوبات على الشعب السوري و«دعم وإسناد المرحلة الجديدة والانتقالية».

محمد خير الرواشدة (عمّان)
المشرق العربي فيدان والصفدي خلال المؤتمر الصحافي في أنقرة (الخارجية التركية)

تنسيق تركي - أردني حول دعم المرحلة الانتقالية في سوريا... وعودة اللاجئين

أبدت تركيا توافقاً مع الأردن على العمل لضمان وحدة وسيادة سوريا ودعم إدارتها الجديدة في استعادة الاستقرار وبناء مستقبل يشارك فيه جميع السوريين من دون تفرقة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي عبد القادر مؤمن

كيف أصبح ممول صومالي غامض الرجل الأقوى في تنظيم «داعش»؟

يرجّح بأن الزعيم الصومالي لتنظيم «داعش» عبد القادر مؤمن صاحب اللحية برتقالية اللون المصبوغة بالحناء بات الرجل الأقوى في التنظيم

«الشرق الأوسط» (باريس)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟