قطر... ودورها في دعم التطرف

من منطقة الخليج إلى ليبيا مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين

قطر... ودورها في دعم التطرف
TT

قطر... ودورها في دعم التطرف

قطر... ودورها في دعم التطرف

سُلِّطت خلال الأسبوع الماضي كما لم تسلط من قبل الأضواء على دور دولة قطر في دعم مختلف الفصائل الإرهابية والمتشددة على امتداد العالم، منها «جبهة النصرة» و«الجماعة الليبية المقاتلة» و«الإخوان» وحركة حماس. والمثير في الأمر أن الدعم والاحتضان يتوازيان مع تنمية الدوحة علاقاتها المثيرة والمتناقضة مع كل من إسرائيل وإيران. وفيما يلي نسرد سجلاً للدعم القطري لقوى دأبت منذ سنين على إضعاف الاستقرار في العالم العربي، بما في ذلك الدول الخليجية المجاورة.
كشف البيان السعودي الحاسم بشأن الإجراءات السياسية والاقتصادية التي اتخذتها الرياض ضد دولة قطر، وقطع العلاقات معها، عن دور تحريضي تمارسه الدوحة في دعم الإرهاب بالقطيف (شرق السعودية)، التي تشهد نشاطاً متفاوتاً لخلايا إرهابية تعمل لحسابات إيران. إلا أن هذا الدور لا ينفصل عن دور قطر في لبنان إبان «حرب» يوليو (تموز) 2006، حين دخلت على خط الوساطة بين لبنان وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، أو دعمها «جبهة النصرة» وقوى متشددة شقت وحدة قوى الثورة السورية، وأنهكتها بمعارك جانبية، أو محاولتها إضعاف الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) والسلطة الفلسطينية عبر دعم حركة حماس المعارضة. وهذا، بالإضافة إلى دورها المساند للجماعات المتطرفة في كل من مصر وليبيا وللانقلابيين الحوثيين في اليمن.

انتهاكات سراً وعلانية
وصف البيان السعودي «انتهاكات جسيمة» تمارسها السلطات القطرية، في السر والعلن، طوال السنوات الماضية بهدف شق الصف الداخلي السعودي، وذلك عبر دعم تنظيمات متطرفة منها الإخوان المسلمين و«داعش»، كذلك دعم نشاطات الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران في محافظة القطيف بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وفي مملكة البحرين، وتمويل وتبني وإيواء المتطرفين الذين يسعون لضرب استقرار ووحدة الوطن في الداخل والخارج، واستخدام وسائل الإعلام التي تسعى إلى تأجيج الفتنة داخلياً.
وللعلم، فإن الخلايا الإرهابية في القطيف، تعمل وفقاً لأجندات إيرانية، تهدف إلى إثارة البلبلة وشق الصف السعودي بافتعال الأزمات والخروج ضد سلطة الدولة، والاعتداء على المراكز الحكومية ورجال الأمن. ولم تكن تلك النشاطات الإرهابية بمعزل عن أحداث البحرين، التي عانت خصوصاً في عام 2011 من حراك طائفي ترافق مع الثورات العربية التي دعمتها وسائل إعلام قطرية، قبل أن تخمد فتنتها دول الخليج، عدا قطر، التي استمرت في خلق حالات الاستعداء بين الشيعة والسنّة في أوطانهم الخليجية. وشهد العام ذاته، نشاطا لخلايا إرهابية، بعضها كان في قطر، وتزامن حراكها مع جماعات الإرهاب في المنامة والقطيف، كانت الدوحة أعلنت القبض عليها، وكان الهدف من مكوثها في قطر أسوة بمن سبقوها أن قطر أساساً نقطة العبور نحو إيران.
أيضاً أرادت قطر أن تلعب دوراً إقليمياً، بمساندة من هم خارج حدودها لا سيما بين جيرانها الخليجيين، بدوافع لا تخرج عن استثمار علاقتها وتحالفها مع القيادة الإيرانية في طهران، التي تربطها معها اتفاقيات أمنية واقتصادية. وتسهم هذه الاتفاقيات في إغداق مالي وفير يسهّل لها أن تلعب على حبال المراوغة بوجهي الدعم للحركات بغية إسقاط والتأثير على الأنظمة الحاكمة، ووجه يتودد البراءة ببيانات شجب لم تُكتب إلا قليلاً.

التأجيج في اليمن
وفي اليمن، كشفت التطورات التي شهدتها البلاد، طوال السنوات الثلاثة الماضية، أن قطر لعبت دوراً كبيراً في تأجيج الصراعات الداخلية تحت يافطات وشعارات مختلفة. ووفق متابعين مطلعين، توزع الدور القطري على محورين رئيسيين: الأول دعم قديم - جديد لحركات الإسلام السياسي المتمثلة في الإخوان المسلمين (حزب التجمع اليمني للإصلاح)، والثاني دعم حركة التمرد الحوثية منذ بداياتها الأولى تحت غطاء الوساطات لإيقاف النزاع المسلح الذي كان محدوداً، في بدايته، بمحافظة صعدة. ومن أبرز الشواهد، رعاية الدوحة أول اتفاق بين الحكومة اليمنية والحوثيين مطلع عام 2008، وهو الاتفاق الذي مهّد لإخراج الحركة الحوثية من المحلية إلى المحيط الإقليمي، وفقاً للمتابعين.
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، يشرح المحلل السياسي اليمني عبد الله إسماعيل أن الموقف القطري اتسق مع الحركات الآيديولوجية وأهدافها، ولدينا في اليمن كان الأمر أشد وضوحاً في تحركها مبكراً لصالح الحوثيين وتحويلهم إلى معادلة ضد الدولة ودعم «الإخوان» لاختطاف التحرك الشعبي بعد ثورة الشباب في 11 فبراير (شباط) 2011.
ويرى إسماعيل أن الدور القطري في اليمن «هو ما يبرز الآن في تبني هذه الحركات جانب قطر في مقابل الانتصار للشرعية والتحالف، واختيار التضحية بمعركة استعادة الدولة لصالح الانتقام السياسي».

وسيط بين «حزب الله» و«النصرة»
ولدى الانتقال إلى لبنان وسوريا، نجد أنه إبان حرب يوليو 2006، دخلت قطر على خط الوساطة بين لبنان وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وبدا أن الدور القطري مقبولاً لدى حزب الله الذي رحب فيما بعد بالدعم القطري المالي لإعادة إعمار الجنوب، إذ قدمت قطر ما يقارب 300 مليون دولار أميركي خصّصت لإعادة إعمار مناطق في الجنوب بعد الحرب.
هذا الدور سمح للدوحة بأن تكون لاعباً على خط التسويات الداخلية، وتمثل الدور الأبرز لها في استضافة «مؤتمر الدوحة» الذي تلا هجوم حزب الله العسكري على مناطق في بيروت والجبل في مايو (أيار) 2008، وعرف بـ«غزوة 7 »، وخلف أزمة سياسية كبيرة.
وفي أواخر الشهر نفسه، عقد «مؤتمر الدوحة»، الذي أنتج ما يشبه التسوية مع الحزب، وبدا أن الغاية منه الحلول محل «اتفاق الطائف» الذي غدا جزءاً من الدستور اللبناني. ولكن، في أي حال حال، انتهى بالاتفاق على قانون جديد للانتخابات البرلمانية التي أُجريت في العام 2009، كما أسفر عن إيصال قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان إلى سدة الجمهورية، ولكن في ظل احتفاظ حزب الله بسلاحه ونفوذه.
كذلك تُرجم قبول الدور القطري بالنسبة لحزب الله، بزيارة أميرها السابق الشيخ حمد بن خليفة جنوب لبنان ليفتتح مشاريع في مدينة بنت جبيل الحدودية، بعدما أعادت إعمار 12000 وحدة سكنية في أربع بلدات جنوبية حدودية. ورفع له الحزب لافتات حملت شعار «شكراً قطر» الذي بقي مرفوعاً إلى حين اندلاع الأزمة السورية، وتنافر الحزب والدوحة حول الموقف من رئيس النظام السوري بشار الأسد.

ازدواجية في محنة سوريا
لكن التباين بالموقف السياسي في سوريا، لم يُفقد الدوحة دورها كوسيط غير مباشر بين الحزب أو النظام السوري من جهة، وجماعات متشددة في المعارضة السورية كانت تدعمها في سوريا، وأخرى مصنفة إرهابية على قوائم الإرهاب العربية والدولية، من جهة ثانية، فيما بدا أن خطوط الدوحة كانت مفتوحة عليها.
وتمثل هذا الدور في التوصل إلى تسوية أدت إلى الإفراج عن الزوّار اللبنانيين المخطوفين في مدينة أعزاز (شمال غربي سوريا) في العام 2013، الذين زاروا الدوحة، حيث التقوا أميرها الشيخ تميم بن حمد آل خليفة الثاني، الذي أقام حفل تكريم لهم بعد الإفراج عنهم.
وإذا كانت الصفقة أدت إلى الإفراج عن عشرات المعتقلات والمعتقلين في السجون السورية بجانب الإفراج عن الطيارين التركيين اللذين خُطِفا في لبنان في أغسطس (آب) من العام نفسه، فإن جهود الدوحة للإفراج عن راهبات معلولا الذين كانوا محتجزين لدى «جبهة النصرة» في ربيع 2014، تمت بعد تكفُّل قطر بدفع فدية مالية للتنظيم المصنف إرهابياً، قدّرت بنحو 16 مليون دولار، إلى جانب إطلاق سراح سجى الدليمي، طليقة زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، التي كانت موقوفة في لبنان، بحسب ما ذكرت وسائل الإعلام المحلية آنذاك.
الدور نفسه، لعبته الدوحة في الخريف الماضي، حين أسفرت «الوساطة» القطرية بين جبهة النصرة والسلطات اللبنانية إلى الإفراج عن 15 عسكرياً لبنانياً كانوا مختَطَفِين لدى الجبهة منذ أغسطس 2014.

شق الصف الفلسطيني
بالنسبة لفلسطين، لم تكفّ قطر يوماً عن محاولاتها إضعاف الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) والسلطة الفلسطينية، مستخدمة أولاً أدوات سياسية ومالية كحال دعمها حركة حماس المعارضة التي سيطرت على قطاع غزة منقلبة على السلطة عام 2007، وثانياً إعلامية عبر قناة «الجزيرة»، التي بذلت كل جهد لتشويه السلطة وفعلت كل ما يمكن لتمجيد حماس.
وحقاً، منذ سيطرت حماس على غزة، حصلت الحركة على دعم قطري ضخم لم يوازِهِ في مراحل محددة إلا الدعم الإيراني، بينما كانت السلطة تحاول استرجاع القطاع. وليس سرّاً أن هذا الدعم القطري - الإيراني مكّن حماس من الهيمنة على غزة وساعدها على مواجهة السلطة الفلسطينية، ما خلف انقساماً دامياً أضر بالقضية الفلسطينية كلها.
كذلك دخلت قطر على خط حماس بشكل مباشر عام 2008، حين بدأ حمد بن جاسم، رئيس الحكومة القطرية ووزير الخارجية (في حينه) التوسط بين إسرائيل وحركة حماس، متجاهلة بطبيعة الحال السلطة الفلسطينية. ولم يقف هذا الدعم القطري عند حدود تقوية حماس وإضعاف السلطة، بل تعداه إلى محاولة فرض حماس بديلاً للسلطة.
وبعد عام واحد فقط، انفضحت النيات القطرية، حين دعا أمير قطر عام 2009 رئيس حماس خالد مشعل لحضور قمة عربية مفترضة في قطر، ضارباً عرض الحائط شرعية الرئيس عباس، الذي خرج عن «دبلوماسيته»، آنذاك، واتهم قطر بالمس الخطير بالشرعية والتمثيل الفلسطيني.
وهذا المس بشرعية عباس أتبعه حمد بن جاسم، آنذاك، بمحاولة المس بشخص عباس نفسه وإظهاره تابعاً وضعيفاً، حين قال إن عباس أخبره أنه لم يحضر لأنه «خاف أن يذبح من الوريد للوريد»، وهو ما ردت السلطة عليه بتكذيبه فوراً مطالبة قطر الكف عن العبث، والتدخل في الشأن الفلسطيني.
وبموازاة الهجوم السياسي، عمدت قناة «الجزيرة» إلى تشويه عباس والسلطة فيما كانت تبث أفلاماً بطولية عن حماس. وفي 2011 بثت القناة نفسها وثائق سرية عن اجتماعات بين السلطة وإسرائيل اتهمت فيها السلطة «بالتنسيق مع إسرائيل من أجل قتل فلسطينيين»، وهو الأمر الذي عده كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات بمثابة «نشر الفتنة في الأراضي الفلسطينية»، وأضاف: «إنهم يفتحون أبواب الثارات الشخصية والعائلية».
وبلغت ذروة الاستهداف القطري لعباس، عام 2012 حين زار الأمير السابق حمد بن خليفة قطاع غزة متجاهلاً الرئيس الفلسطيني الشرعي ومتعاملاً مع رئيس وزراء حكومة حماس إسماعيل هنية كممثل شرعي للفلسطينيين. وبطبيعة الحال أغدق الأمير القطري الأموال والثناء على حماس بطريقة جعلت السلطة تتهمه بالعمل على فصل غزة وليس فقط تعزيز الانقسام.
وهنا يقول بكر أبو بكر، القيادي في حركة فتح، عن علاقة قطر بالسلطة «لقد عملت قطر بعد سوريا عام 2012 جاهدةً على تخريب جسدنا عبر المؤتمرات، بأن تسحب التمثيل الفلسطيني من المنظمة لصالح الانقلابيين في حماس». وتساءل على صفحته على موقع «فيسبوك»: «من أين تم تمويل الأسلحة والمعدات والتجييش الإعلامي الملفَّق والكاذب ضدنا الذي به انقلبت ميليشيات (حماس) على غزة عام 2007؟».
واتهم أبو بكر، قطر بـ«تنقيط» الأموال على غزة «بهدف زعزعة الشرعية الفلسطينية»، كما اتهم قناة «الجزيرة» بأنها «فتحت منبرها لكل مشكك وطاعن وحاقد ومكفّر ومخوّن للقيادة الفلسطينية تحت عنوان الرأي والرأي الحاقد». وتابع أن الرئيس عباس «صبر عليها كثيراً وحمل على كتفيه ظلمها، ووهن السنين، ولم ينطق ضدها بكلمة لعلها تفهم وتدرك وترعوي وتحترم ولكن هيهات؟».

معاناة مصر... المستمرة
في مصر، المعروف أنها شهدت العديد من العمليات الإرهابية، في سيناء ومدن أخرى، راح ضحيتها مسؤولون وجنود من الجيش والشرطة ومواطنون، خصوصاً بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي الذي كان مدعوماً من قطر. وكان من آخر العمليات الإرهابية استهداف كنائس وأقباط، حيث اتهم السيسي دولاً لم يُسمِّها برعاية الإرهابيين، واستغلال الفوضى في ليبيا لتصدير المتطرفين عبر الحدود الغربية لمصر.
وهنا يُعتبر العميد أركان حرب، عادل العمدة، المستشار في أكاديمية ناصر العسكرية العليا في القاهرة، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، إن منافع مقاطعة قطر أكبر من أضرارها، بالنسبة لمصر وباقي الدول العربية، مشيراً إلى وجود كثير من الأدلة على رعاية الدوحة للإرهاب. وأوضح أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، أشار إلى هذا المعنى، بشكل غير مباشر، في كلمته في القمة العربية الإسلامية الأميركية التي حضرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في الرياض، قبل أسبوعين.
ووصف العمدة توقيت القرار المصري بقطع العلاقات مع قطر، بأنه جاء في وقته، بعد وضع تقدير للموقف من كل جوانبه، خصوصاً أن الدول العربية المحيطة بدولة قطر، تأثرت هي الأخرى بدعم الدوحة للإرهاب، مشيراً إلى أن القرار المصري «يؤتي ثماره، ويعطي مردوداً إيجابياً».
وعما إذا كان يعتقد بوجود أدلة عن أن قطر كانت وراء أعمال العنف في مصر، وتأييد الإرهابيين وتمويلهم، قال العمدة: «بالتأكيد... ولولا يقين القاهرة والدول العربية من هذه المعلومات، لما قطعوا العلاقات معها. لقد ظهرت أدلة دامغة على تورط عناصر إرهابية مدعومة من قطر داخل عدد من الدول العربية، منها مصر. ولهذا كان لا بد من وقفة مع قطر». وتابع قائلا إن قطر تأوي عناصر من جماعة الإخوان المصنفة بمصر ودول أخرى «منظمة إرهابية»، مشيراً إلى تحذير الرئيس السيسي، في كلمته بـ«قمة الرياض» من خطورة الملاذات الآمنة التي تتخذها بعض العناصر الإرهابية، بالإضافة إلى توفير التمويل المباشر إلى بعض العمليات الإرهابية التي وقعت على الأراضي المصرية.
ووفق العمدة، فإن مثل هذه الأعمال الإرهابية «استهداف لمصالحنا ولأمننا القومي... الرئيس السيسي وضع العالم أمام مسؤولياته، لمعاقبة كل من يرعى مثل هذه التصرفات»، وأشار العمدة إلى أن قطر «دعمت الفوضى التي وقعت في ليبيا، وهذا كان له تأثير على الأمن القومي المصري». وتابع موضحاً أن التهديد الإرهابي لم يقتصر على الحدود الغربية فقط، ولكن من الحدود الجنوبية ومن شبه جزيرة سيناء، ومن غزة التي تسيطر عليها حركة حماس.
وعن توقعه احتمال وجود تأثير سلبي على العمالة المصرية في قطر أو على الاستثمارات القطرية في مصر، قال العميد العمدة إن القطيعة مع قطر لو كانت اقتصرت فقط على مصر، لكان الضرر كبيراً، لكن «حينما تتحد عدة دول عربية في اتخاذ مثل هذا القرار، فإن الإيجابيات تكون أكثر من السلبيات».

تهديد الدولة في ليبيا
أما فيما يخص ليبيا، فقال الدكتور محمد الزبيدي، الرئيس السابق للجنة القانونية لمؤتمر القبائل الليبية، إن «محاور النشاط القطري في ليبيا أربعة كلها تسببت في القضاء على فرص عودة الدولة، من بينها دعم التيارات المتطرفة بالمال والسلاح، والوقوف مع قبائل ضد أخرى».
وتابع الزبيدي موضحاً أن المحور الأول انصَبَّ على العمل الإعلامي، حيث كان هدف مجموعة القنوات التلفزيونية المموَّلَة من قطر، إثارة الفتنة في ليبيا، وفبركة الأخبار وتزييف الحقائق ونشر ادعاءات باطلة. أما المحور الثاني فكان يتعلق بخلق أرضية قانونية لما حصل في ليبيا، منذ البداية، وذلك من خلال جلب المساندة الدولية للتنظيمات المتطرفة التي كنت تحارب القذافي. وأضاف: «حين كانت الدول العربية منشغلة بمواجهة ما يعرف بـ(الربيع العربي)، استغلت قطر الفرصة، ومررت قرارات ضد ليبيا، منها تجميد عضويتها في الجامعة العربية، ووقوفها وراء تقديم طلب من الجامعة لمجلس الأمن، ما ترتب عليه تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ليبيا وتدمير المؤسسات ومقدرات الشعب».
وأما عن المحور الثالث للنشاط القطري في ليبيا، وفقاً للزبيدي، فهو التسبب في «تخريب وتمزيق النسيج الاجتماعي بواسطة شراء الذمم بالمال القطري»، إذ ذكر إن الدوحة استدعت وفوداً قبلية ليبية لزيارتها، و«أعطتها هدايا، منها سيارات فاخرة وساعات ذهبية، وأموال سائلة، وهناك من اعترف بهذا علانية بعد عودة هذه الوفود من قطر». وأردف أن هذا أدى لأن يكون هناك دعم قطري لمجموعة من القبائل ضد قبائل أخرى، الأمر الذي ترتب عليه دخول ليبيا في حرب قبلية ما زالت نتائجها ماثلة للعيان، إلى الآن.
واختتم، قائلاً، وفي ما يخص المحور الرابع الذي عملت عليه قطر، فهو دعم الميليشيات المؤدلجة التابعة لما يعرف بالتيار الإسلامي، بالمال والسلاح. «وهذا موثق بالصوت والصورة.. وأسهم في زعزعة الاستقرار والتأثير بالسلب على دول الجوار». وأعلن البرلمان الليبي والجيش، موقفاً واضحاً ضد قطر، بعكس المجلس الرئاسي. وتابع الدكتور الزبيدي إن تأخر «الرئاسي» في تحديد موقفه، يرجع إلى أنه ما زال في قبضة المتطرفين، مضيفاً أن تنظيم القاعدة، و«الجماعة الليبية المقاتلة» وجماعة الإخوان، كلهم يدينون بالولاء لقطر، وهم المهيمنون على المجلس الرئاسي حتى الآن.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».