«الزيبق» على طريق «رأفت الهجان»

تنويعة شعبية درامية عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي

TT

«الزيبق» على طريق «رأفت الهجان»

عندما رحل محمود عبد العزيز قبل نحو سبعة أشهر، قرأنا وشاهدنا واستمعنا إلى بيان من جهاز المخابرات المصرية ينعي فيه للأمة العربية النجم الكبير، فهو الفنان المصري الوحيد الذي جرى تأبينه من قبل هذا الجهاز السري. على الفور تذكر الناس «رأفت الهجان»، إنه دور عمر نجمنا الذي غاب عن الحياة، ولكنه لم يغب أبداً عن مشاعرنا.
الشخصية الدرامية التي تستند إلى وقائع حقيقية، لو نجحت في تقديمها تحقق جماهيرية غير مسبوقة، وهكذا عاش «رأفت الهجان». الآن نتابع محاولات حثيثة لكي يحقق مسلسل «الزيبق» حالة من التماس والتماهي الجماهيري، تستطيع ببساطة إدراكه من خلال كم ردود الفعل الإيجابية التي حققها هذا الثنائي كريم عبد العزيز وشريف منير، حيث يؤدي كريم دور الشاب الذي يتم تأهيله لكي يزرعه جهاز المخابرات، عيناً لنا في إسرائيل، ونتابع الوجه الآخر من الحكاية، ضابط المخابرات شريف منير، الذكي المنوط به إعداد هذا الشاب بعد أن وضعه تحت عين الاختبار في أكثر من تجربة. هذا الأمر يتم بدرجة عالية من الدقة، إنه يذكرنا بثنائي آخر حقق نجاحاً استثنائياً قبل نحو 30 سنة، محمود عبد العزيز ويوسف شعبان في ملحمة «رأفت الهجان» بأجزائها الثلاثة، حيث لعب محمود دور البطل المصري «رفعت الجمال»، وهو الاسم الحقيقي لرأفت الهجان، بينما أدى يوسف شعبان دور الضابط «محسن ممتاز»، وكان الشارع العربي، ينتظر الحلقات من رمضان إلى رمضان، كل تفاصيل «رأفت الهجان» جعلته أيقونة في الواقع، حيث قطع الخط الفاصل بين الشاشة الصغيرة والجمهور، حتى تصفيفة الشعر التي كانت من ملامح الهجان، وجدناها من فرط نجاح المسلسل وتواصله مع المشاهدين، وقد تحولت إلى موضة بين شباب تلك السنوات.
هذه المرة ومع اختلاف الظرف الزمني، لدينا الثنائي الشاب عمر صلاح الدين وهو يعمل فني كاميرات، والضابط خالد صبري أبو علم والأحداث بين القاهرة وأثينا في اليونان، ما يحققه النجمان كريم وشريف هو حالة من التلقائية أضفاها الأداء العبقري العفوي للنجمين، رسوخ شريف منير الذي يعيش الآن أجمل سنوات إبداعه، حيث يقف بطلاً موازياً، مما لعب دوراً إيجابياً لصالح التجربة الفنية، هناك هامش من الإضافة مقنن بدقة يمنحه كريم عبد العزيز لشخصية الشاب عمر، لتملك مصداقية وحضور أكثر، لتساهم في وصول الرسالة للجمهور، بخفة ظل تتماشى مع روح البطل «عمر»، بالطبع الشخصيات لا تتحرك إلا داخل دائرة اجتماعية وظروف اقتصادية ونفسية تحدد ملامحها وتؤكد دوافعها، نسج السيناريو وليد يوسف ووائل عبد الله من وقائع حقيقية بالمخابرات، هناك بالتأكيد مساحة من الخيال، لكن يظل صدق الحدث هو الذي يسيطر على قانون الدراما، فهي ليست سيرة ذاتية للبطل، ولكن خيال الكاتب لا يمكن أن يتجاوز محددات الواقع، وهو ما حرص عليه المخرج وائل عبد الله في كل التفاصيل حتى الآن.
قد يتصور البعض أنه بصدد عمل فني مضمون النجاح، حيث تتوفر كل الأسباب التي تدفع إلى تحقيق الجماهيرية من عناصر التشويق والترقب، في كل مشهد من الممكن أن تجد البطل وهو مهدد بالموت؛ لأن عميل المخابرات المصرية - كما نراه عندنا - بطل مغوار يضحي بنفسه من أجل وطنه، فإن الوجه الآخر له في إسرائيل يعني بالنسبة لهم جاسوس يستحق الموت، فهو يشي بمعلومات لمن يرونه عدواً لهم، وكلما ازدادت مشاعر الخوف على البطل، أدى إلى التعاطف الذي يزيد من شحنات التماهي.
السيناريو يجعل رجال المخابرات في مصر يرصدون على وجه الدقة ما الذي تفعله إسرائيل من أجل استقطاب جواسيس لها من أثينا، فترسل رجلها إلى هناك بعد أن تدربه، من قبل رجل المخابرات المصري الذي يلقنه مبادئ قوة الملاحظة، لكل التفاصيل، كما أنه يمنحه الدرس الأول، وهو ألا يترك خلفه أي ورقة مكتوبة؛ لأن هناك دائماً عيناً تراقب مهما وثقت إسرائيل فإن من يعمل معها سيظل تحت الاختبار والمراجعة، فهو في نظرهم متهم حتى يثبت براءته، إسرائيل لها طبعاً أسلحتها في التقاط الشخصية التي من الممكن أن تستحوذ عليها لتعمل لحسابها في التجسس على الوطن مقابل مبلغ مالي مغر، ورهان جهاز المخابرات المصرية، يقتضي منها أن تدفع لهم بالطُعم، وهكذا يبدأ زرع المعلومة من القاهرة، بأن هذا الشاب، المحبط مادياً وعائلياً ومطلق، وابنه الوحيد يعيش مع طليقته وزوجها، ولديه دوافعه للهجرة إلى اليونان ويخترع شائعة تؤكد أن أباه كان له أيادي بيضاء على صديق مصري يعيش في اليونان، وهكذا يصبح الطريق ممهداً لكي يشد الرحال إلى هناك ليقف على باب المخابرات الإسرائيلية التي تتصوره صيداً سهلاً، لتبدأ الرحلة الصعبة والشائكة في الأيام المقبلة، ولا أتصور أن ضابط المخابرات المصري سيبتعد عن الأنظار سوف تجده حاضراً بين الحين والأخر.
لا نريد بالتأكيد بطلاً مثل «سوبرمان»؛ لأننا نبحث عن المصداقية، حيث يسأل كريم الضابط شريف منير، عن احتمال افتضاح أمره هناك، فيقول له إنه بالنسبة لمن جندهم لم يحدث أن كشفتهم إسرائيل، أي أنه يريد أن يؤكد أن الخطر بعيد، ولكنه بالطبع قائم.
ويبقي السؤال، عن إحساس الناس بالعدو الإسرائيلي، هناك معاهدات سلام مثل تلك التي وقعتها مصر مع إسرائيل في زمن أنور السادات عام 1979، ولكن مشاعر الغضب الكامنة في الضمير الشعبي لا تعترف بمثل هذه الاتفاقيات التي لا يمكن أن تنفذ لوجدان الناس وتغير من مشاعرهم.
الصراع العربي - الإسرائيلي دائماً ما يثير نهم المبدعين بقدر ما يثير ترقب الناس، وتظل لمصر دائماً خصوصية في هذه المعركة المصيرية. بين مصر وإسرائيل اتفاقية سلام عمرها أكثر 30 سنة، وبيننا تبادل دبلوماسي، ولكن تحت هذا السطح السياسي الأملس، توجد مشاعر غاضبة في أعماق المصريين تجاه كل ما هو إسرائيلي، بدليل أن التطبيع مرفوض تماماً، وهو ما عبر عنه مثلا فيلم «السفارة في العمارة»، وهو ما تراه أيضاً في أغنية «أنا بكره إسرائيل» لشعبان عبد الرحيم.
لا يهم معنى ولا أداء ولا لحن؛ فلقد كان الغضب هو البطل، الأعمال الدرامية التي تُقدم مثل «رأفت الهجان» وقبله جمعة الشوان بطل مسلسل «دموع في عيون وقحة»، جزء كبير من نجاحهما في الشارع يرجع إلى تلك الشحنة الغاضبة التي تعتمل في الصدور وتترقب اللحظة لإعلان الانفجار!
الدراما المصرية عندما تقتحم إسرائيل ومن خلال ضابط مخابرات مصري يزرع عميلاً داخل إسرائيل، تصل إلى ذروة الجماهيرية فهي تعزف نغمة كثيراً ما نتوق إلى سماعها، إلّا أن هذا لا يكفي لضمان النجاح. شاهدنا من قبل نادية الجندي في فيلميهما «مهمة في تل أبيب» و«24 ساعة في إسرائيل»، تدخل إلى تلك المنطقة لاختراق جهاز «الموساد» الإسرائيلي، الأمر لم يكن مصدقاً فصار أقرب إلى نكتة، يجب أن نعترف بقوة الخصم لتزداد قوتنا نحن، ويصبح لانتصارنا قيمة. وأيضا فيلم «الكافير» الذي أخفق في تحقيق أي مصداقية، ولدينا أيضاً فيلم «أولاد العم»، لم يحقق المصداقية لأنه استهان في تقديم جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، باعتباره سهل الاختراق فلم تصل الرسالة.
ملفات المخابرات تخصص فيها الراحل الكاتب الكبير صالح مرسي وبدأت الرحلة سينمائية بفيلم «الصعود للهاوية» للمخرج كمال الشيخ وبطولة مديحة كامل، وهو الدور الذي انسحبت منه في اللحظات الأخيرة سعاد حسني فكان دور عمر مديحة كامل، حتى تصل للمصداقية ينبغي أن تُظهر قوة العدو، وهذا ما أدركه الكاتب صالح مرسي، وأتصور أن مسلسل «الزيبق» سيحرص على ألا يفقد أبدا هذا الميزان الحساس.
من المهم أن يتعامل نجم شباك السينما مع التلفزيون باعتباره وسيلة جماهيرية تصل للملايين، وليس مجرد فرصة لتحقيق مكاسب مادية، وهذا بالفعل ما أدركه كريم عبد العزيز في «الزيبق»، ليتقمص شخصية «عمر صلاح الدين»، أتصور أنه سيكون لها حضورها الطاغي والجماهيري في الشارع العربي؛ فهي تملك حتى الآن كل المقومات التي تدفعها، لكي تسير على خطى «رأفت الهجان»!



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)