ما إن يحل شهر رمضان، حتى تغدو المنطقة التاريخية في مدينة جدة، وجهة الباحثين عن حكايات التاريخ الموغل في القدم، خصوصاً مع تزيينها بطريقة تراثية جميلة، وانتشار الأكلات الشعبية والألعاب القديمة.
ويجد الزائر للمنطقة التاريخية نفسه أمام تاريخ يمتد إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وفقاً لروايات عدة تشير إلى أن من بنى جدة في تلك الحقبة كانوا مجموعة من الصيادين، لتستوطن قبيلة قضاعة المدينة بعد ذلك التاريخ بـ500 عام.
وترسم بيوت الطين والأزقة والحواري داخل المنطقة التاريخية بجدة، ملامح الحكاية الأولى التي تلاها بناء سور شيّده حسين الكردي أحد أمراء المماليك لتحصينها من هجمات البرتغاليين، وكان للسور ستة أبراج وله ستة أبواب «باب مكة، وباب المدينة، وباب شريف، وباب جديد، وباب البنط، وباب المغاربة»، وأُزيل السور عام 1947 مع توسع العمران في العهد السعودي.
هذه الحقبة، أي قبل ما يزيد عن 100 عام، تستذكرها المنطقة التاريخية الآن بكل تفاصيلها معتمدة على التقنية في ربط مشهدي الحاضر بالماضي، من خلال الترويج لبعض الأكلات الشعبية القديمة، وإعادة إحياء بعض الألعاب القديمة، وتعليق الفوانيس الرمضانية، وانتشار البسطات التي تروج لـ«البليلة»، و«الكبدة» التي تلقى رواجاً كبيراً في هذه الأيام، مع تزايد أعداد المهتمين بلعبة «الضومنه» أحجار الدومينو، ولعبة الكيرم.
وأثناء التجول في المنطقة التاريخية من المظلوم إلى حارة الشام، يلفت ناظرك وأنت تجوب في أسواق المدينة وتقف أمام أبنيتها الشامخة التي يغلفها الطراز القديم، انتشار الشباب بالزي الشعبي التقليدي المكوَّن من الثوب، والسديرية، والعمة الحلبي، وغالبيتهم من يبيع في السوق أو من يتطوّع لدعم الزائرين، مع تزايد مرتادي المدينة القديمة للتمتع بأجواء رمضان، خصوصاً مع استقبال مسجد الشافعي الواقع في حارة المظلوم أكثر من 600 مصلٍ بعد ترميمه، إذ يعد من أهم المساجد التاريخية التي بنيت منارته في القرن السابع الهجري.
وتحكي المساجد التاريخية في المدينة القديمة ومنها مسجد عثمان بن عفان الذي يطلق عليه مسجد الأبنوس، ومسجد الباشا الذي يقع في حارة الشام وبناه بكر باشا، واقع المدينة في تلك الحقبة وتسامحهم، إذ تعد هذه المساجد الملاذ الحقيقي في تدبير أمور أبناء المنطقة وحل قضاياهم.
وعلى الرغم من الحداثة، وما فرضته التقنية على المجتمع، وانتشار المراكز التجارية المغلقة، ظلت منطقة البلد تواجه هذه التحديات، إذ يقبل عليها المستهلك المحلي في شهر رمضان لشراء حاجاته من سوق الخاسكية الذي يقع إلى جانب السوق الكبير، إلى سوق الصاغة لتجارة الحلي والأحجار الكريمة، وهو كذلك يتنقل لا شعورياً مع جماليات المكان إلى أسواق شارع قابل الذي يعد من أهم الأسواق التجارية، وسوق الندى، وسوق البدو، ليخرج المتسوق بعد ذلك بحصيلة كبيرة من المشتريات، والكثير من المعرفة عن المنطقة التاريخية.
وأشار خالد سلوم إلى محاولات جادة لإعادة شيء من تاريخ جدة في شهر رمضان، لأنه يصعب سرد كل الحكايات والتفاصيل الدقيقة عن تلك الحقبة، خصوصاً أنّ هناك أنواعاً كثيرة من الأطعمة اندثرت ولم تعد منتشرة في الوقت الراهن ومنها «السقدانة» التي تُحضَّر بماء ونشاء وشيء من الحليب، إضافة إلى الأكلة الأكثر انتشار في رمضان بجانب السمك (كباب ميرو) والخشاف.
وتحدث عن ألعاب كثيرة يعول على الشباب في إعادتها للواجهة بعد أن انقرضت، وفي مقدمتها لعبة «العصفور»، التي تتمثل في وضع أحد الشباب في حفرة ودفنه بقليل من التراب، ثم يسأل من الطرف الآخر: «معنا ولا مع القوم»، وإن أجاب «مع القوم» تزداد كمية التراب حتى ينطق بأنّه معهم، ولعبة «الكبش» التي تُلعَب بعظام المواشي، وتعتمد على فريقين في لعبها. في المقابل، تشهد بعض الأحياء الشعبية وسط وجنوب جدة، محاولات لإعادة ذكريات رمضان القديمة الذي ارتبط بالمسحراتي والفوانيس المعلَّقَة على أعمدة الحارة، وجلسات العمدة، وبعض الوجبات التي كانت تعد في هذا الشهر الكريم، ولعل ما يذيب هذه الذكريات التي اندثرت بمرور الوقت وتعاقب الأجيال كبر المساحات ورحيل سكان الحي القدماء إلى شمال المحافظة بغية التوسع والتطور.
وهنا يقول المهندس سامي نوار رئيس بلدية جدة التاريخية لـ«الشرق الأوسط»، إنّ أمانة جدة عملت جاهدة على مدار الأعوام الثلاثين الماضية للمحافظة على المباني رغم التحديات وعدم إزالتها من قبل ملاكها، موضحاً أن وجودها اليوم يشكل أكثر من 50 في المائة من التاريخ، وإعادة الكثير من الحكايات التي يبحث عنها الزوار بين أزقة المباني وما يباع في الطرقات.
وأضاف أن عودة بعض ما كان يدور في تلك الحقبة، من المسحراتي وانتشار الفوانيس ومنافذ البيع «البسطات» في المنطقة التاريخية جذبت كثيراً من سكان المدينة والزوار لمشاهدة بعض ملامح رمضان، قبل أكثر من 80 سنة، وهي عوامل مهمة في استقطاب الباحثين عن الماضي وما كان يدور في تلك الحقبة.
رمضان يعيد حكايات الماضي إلى «تاريخية جدة»
الأكلات الشعبية والألعاب القديمة تستهوي الزائرين
رمضان يعيد حكايات الماضي إلى «تاريخية جدة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة