المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً

نكبة 1948 للمرة الأولى بالإنجليزية من مصادرها العربية الخالصة

المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً
TT

المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً

المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً

لا تزال فترات شديدة الحساسية من التاريخ العربي الحديث غامضة، والآراء حولها متناقضة. وشخصيات محورية صنعت هذا التاريخ موضع جدل كبير، من بينها فوزي القاوقجي الذي يعتبر بطلاً قومياً بالنسبة لكثيرين، فيما لا يزال البعض يسمه بالخيانة والجاسوسية. كتاب المستشرقة ليلى بارسونز، الصادر حديثاً بالإنجليزية وفي طبعتين، إحداهما عن دار «هيل أند وانغ» في نيويورك، والأخرى عن دار «الساقي» في لندن، يقطع الشك باليقين، فيما يتعلق بمسار هذا القائد العربي. وهو من الكتب النادرة، حول تلك الحقبة بلغة أجنبية اعتمدت المصادر والوثائق العربية بشكل رئيسي، وحاولت أن تقدم الرواية العربية في مواجهة رواية أخرى مختلفة تماماً هي تلك الغربية عن الرجل الذي خاض حروباً لم تتوقف ضد الاستعمار، ولعب أدوراً متناسلة منذ عام 1914 وحتى 1948، وكان أكثر تلك الأدوار شهرة، قيادة جيش الإنقاذ لتحرير فلسطين عام 1947. شخصية القاوقجي تفتح الباب على فهم فترة انهيار الدولة العثمانية، وما رافق اتفاقية «سايكس بيكو» من اضطرابات، وقيام الثورات العربية الكبرى ضد الاستعمار ومن ثم نكبة فلسطين التي كانت اللحظة القاصمة التي تغيرت بعدها المنطقة كلها، إلى غير رجعة.
الباحثة بارسونز بريطانية الجنسية، وهي أستاذة التاريخ والدراسات الإسلامية في «جامعة ماكجيل» الكندية حالياً. خريجة «أكسفورد»، عملت في جامعة «هارفارد» ومن بعدها جامعة «يال». وكتابها الأول كان حول «الدروز بين فلسطين وإسرائيل 1947 - 1949». أما الكتاب الجديد فيحمل اسم «القائد» يعلوه عنوان آخر هو «فوزي القاوقجي وحرب الاستقلال العربية 1914 - 1948».
في جلسة جمعتنا ببارسونز أثناء زيارة لها لبيروت وابن فوزي القاوقجي أسامة، شرحت الباحثة أن «المصادر الاستعمارية التي رجعت إليها، كانت معادية جداً للقاوقجي وتقدمه على أنه مجرم وعدو. لذلك قررت التركيز على المصادر العربية، «وكنت محظوظة بالتعرف على دوان حفيدة القاوقجي التي التقيتها صدفة في بوسطن ماساتشوستس، وتعرفت بعدها بوالدها أسامة الذي سمح لي أن أعود إلى أرشيف فوزي القاوقجي، وكان كريماً معي إلى أقصى حد، مما جعلني أصل إلى كتابة قصة هي أقرب إلى الحقيقة». ومن المصادر التي عادت إليها الباحثة وثائق وجدتها في «معهد الدراسات الفلسطينية»، ومراجع موجودة في «مركز الأبحاث التاريخية» في دمشق، حيث عثرت على ملف كبير عن فوزي القاوقجي ومذكرات القاوقجي التي جمعتها المؤرخة الفلسطينية خيرية القاسمية في السبعينات، إضافة إلى مذكرات آخرين عاصروه مثل سعيد العاص، والصحافي منير الريس وأقرب أصدقائه إليه، وكذلك مصادر بريطانية وإسرائيلية كانت حريصة على ألا تجعلها هي الأساس.
في رأي بارسونز «أن معظم الكتب التي تتحدث عن هذه المرحلة باللغة الإنجليزية تركز بشكل أساسي على الضباط الإسرائيليين والبريطانيين، في الوقت الذي توجد فيه كتب قليلة جداً تعنى بحكاية الضباط العرب». لذلك يأتي الكتاب الذي يتحدث عن واحد من أهم الضباط العرب في تلك المرحلة ليسد ثغرة مهمة في تلك الفترة الحرجة.
ولد فوزي القاوقجي في طرابلس في السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية، وتحديداً في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1894، درس في الأكاديمية العسكرية في إسطنبول، وبعد تخرجه شارك بالقتال في الحرب العالمية الأولى كضابط في الجيش العثماني. ثم حارب في فلسطين في محاولة لوقف التقدم البريطاني. وبعد انتهاء الحرب وانهيار الإمبراطورية العثمانية واصل القاوقجي القتال ضد الاستعمار للأراضي العربية في سوريا وفلسطين والعراق. وتقول بارسونز «في الكتاب أنا أروي قصة هذه العمليات، وأحاول أن اكشف للقارئ عالم القاوقجي من خلال كتابة الأحداث التي عاشها من وجهة نظره. وتنتهي القصة بآخر حرب خاضها ضد الاستعمار، أي حرب فلسطين سنة 48، والتي قام فيها بقيادة قوة عربية من المتطوعين كانت ملتزمة بمنع إقامة دولة إسرائيل».
وحين نسأل إن كان الكتاب هو وجهة نظر القاوقجي أم محاولة لكشف حقيقة مساره؟ تجيب بارسونز: «الأمران معاً. بالطبع القاوقجي ارتكب أخطاء. فقد اعتقد أن الحرب ستكون أسهل مما هي عليه في مواجهة الإسرائيليين عام 48، وهذا كان انطباع الكثير من القادة العرب وقتها، معتمدين على حربهم مجتمعين لمواجهة الجيش المعادي». وتضيف: «من أخطائه أيضاً، أنه عام 1925 كان هو قائد ثورة حماة، ويبدو أنه استخدم استراتيجية قريبة للتي كان يتبعها الجيش العثماني، والمأخذ عليه أنه كان يجب أن يلجأ إلى تكتيكات أكثر ديناميكية».
البطل يصير عميلاً
تقرأ في الكتاب عن المكانة التي احتلها اسم فوزي القاوقجي عام 1936 حين حارب في فلسطين ضد الإنجليز، حيث كان ينشد له الناس أغنيات تتحدث عن بطولاته، وفدوى طوقان كتبت له شعراً يتغنى ببسالته ووصفته بأنه «بطل الأبطال» و«زهرة الشباب». لكن الباحثة تروي لنا إن النظرة للقاوقجي تغيرت بعد هزيمة 48. «وحين ذهبتُ إلى جامعة بيرزيت منذ سنة لأحاضر هناك، كان ثمة نقد كبير للقاوقجي».
انتقادات كثيرة وجهت لهذا القائد. علامات استفهام حول بعض سلوكياته، هناك من اتهمه بأنه جاسوس، ولا تزال المقالات تدبّج متهمة إياه بأنه كان عميلاً. بارسونز تجيب بشكل قاطع: «في كل الوثائق التي بحثت فيها، لم أعثر على أي دليل ولو صغير، يشير إلى أن القاوقجي لعب هذا الدور. بحثت في الأرشيف البريطاني، وفي الملفات البريطانية للمخابرات، ولم أجد ولو قصاصة واحدة يمكن أن تجعلنا نوجه له هذا الاتهام».
معلوم أن القاوقجي وبعد إصابته بجراح بالغة أثناء قتاله ضد الإنجليز عام 1941 نقل إلى برلين للعلاج، وبقي هناك ثم سجن عند دخول الروس، وهرب إلى فرنسا، وقرر العودة إلى بيروت عن طريق القاهرة. لكن لأسباب مفاجئة أعلم الركاب، وهم في الطريق، بأن الطائرة ستهبط في مطار اللد. هناك صعد رجال إلى الطائرة بحثاً عن القاوقجي لكنه بعينيه الزرقاوين وبفضل زوجته الألمانية التي تجلس إلى جانبه وكان يتحدث معها الألمانية لم يلق القبض عليه. ويقال بأنه استخدم اسماً مستعاراً خلال هذه السفرة ونجا بأعجوبة. وهنا تقول بارسونز إنها عثرت على ملف كامل في الأرشيف البريطاني موضوعه هذه الحادثة، وفيه وثائق تظهر غضباً بريطانياً من عدم اعتقال الرجل بسبب خطأ من الموظفين. مما يدل على أنه بالفعل أفلت بمحض الصدفة.
تعتقد بارسونز أن «السبب الرئيسي في تشويه صورة القاوقجي كان مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني لأنه كان يخشى دوره الكبير، ويتوجس منه». وخلافه معه يعود إلى عام 1936، حيث شجع الشباب على عدم الالتحاق بجماعته المقاتلة والذهاب مع جماعة أخرى. ويقول الكتاب إنه بلغ الأمر بالمفتي الذي تصادف وجودهما معاً في برلين أن كتب تقريراً للخارجية الألمانية يتهمه فيها بأنه جاسوس بريطاني.
بارسونز باحثة دقيقة، كتابها مذهل في بساطته وحرصه على التأكد من الوثائق بعد أن جالت في لبنان وسوريا وبريطانيا وحتى إسرائيل بحثاً عن المعلومة الصحيحة، وهي تقول: «أنا باحثة مستقلة، وما وجدته خصوصاً في الوثائق الإسرائيلية والبريطانية التي بحثت فيها أن القاوقجي كان بالنسبة لهم عدواً ومجرماً. وله ملفات في إسرائيل عن دوره في الحرب وكلها تتكلم عنه كإرهابي ومخرب. مما ينفي عنه تهمة التواطؤ معهم.
الرواية العربية مشوشة
الرواية العربية التاريخية حول هذا الفترة مشوشة. وباستثناء المذكرات التي نشرت لعدد من شخصيات تلك المرحلة، فإن الأبحاث غير كافية، يلزمها الكثير من التمحيص. تعزو بارسونز ذلك إلى «أن العرب يرونها فترة فشل وإحباط، ولا يريدون استعادتها أو التركيز عليها. وتضيف «علينا أن نتذكر أيضاً إلى جانب النكبة أن هناك شخصيات ناضلت وحاربت ودفعت أعمارها كلها، لتطرد الجيوش الاستعمارية، وحاولت تأسيس دولة. وهذه قصص تستحق أن تروى ويعرفها الناس».
من الأمور الملتبسة أيضاً في تلك الفترة مسألة غموض الهوية عند سكان المنطقة. فالقاوقجي، بدأ حياته العسكرية مدافعاً عن الدولة العثمانية، ثم أصبح مقاتلاً شرساً في الثورات العربية كمناضل قومي. وهو كان في البدء منسقاً بين الجيشين العثماني والألماني. تعتبر الباحثة أن الأمور كانت واضحة في ذهن القاوقجي. «كان مع وحدة الجيش العثماني. لكنه رأى ما حلّ بتركيا وكيف أنهم صدوا الاستعمار، فشعر أن على العرب أن يفعلوا الشيء نفسه، وقد انهارت الدولة العثمانية. أما اتهامه بتأييد النازية، فالعلاقة مع ألمانيا حينها لم تكن تحالفاً مع الفكر بقدر ما كانت بهدف المساعدة في صد الاستعمار وتحرير البلاد العربية من الإنجليز والفرنسيين».
الباعث الرئيسي الذي كان يحرك هذا المناضل على ما نفهم من براسونز، هو طرد الاستعمار. مشاعر القومية العربية ربما أنها بدأت بالظهور في تلك الفترة بسبب إحساس الضباط العرب بتعالي الضباط الأتراك عليهم، إلا أن الأولوية كانت الانتصار على الجيوش الأجنبية. وتلفت أيضاً إلى أن «الحدود كانت مفتوحة قبل عام 1936، والقاوقجي كما بقية الضباط العرب كانوا يجوبون المنطقة، وهو كان قد وصل في رحلاته حتى عمان، ومن ضمن مهامهم حث الناس على التطوع لتحرير فلسطين. ومن خلال هذا التسفار صار للقاوقجي معارف في كل المنطقة». لذلك نرى أنه قاتل في أماكن كثيرة مشاركاً في الثورات العربية في سوريا والعراق وفلسطين كما ذهب إلى السعودية وشارك في تدريب الجيش السعودي الذي كان في طور التأسيس.
تدريب الجيش السعودي
وتروي لنا الباحثة «أن القاوقجي ذهب إلى الحجاز مع زملاء له بينهم نبيه العظمة، لأن الحكومة الفرنسية كانت قد طردته وكان هناك أيضاً الحاج أمين الحسيني. ودرب الجيش الجديد الذي أنشأه الملك عبد العزيز بن سعود مع مساعدة من نبيه العظمة، وكان واحداً من القادة العرب أيضاً». تقول بارسونز إنها وجدت في الأرشيف البريطاني تقارير تتحدث عن هذا التدريب. ومن بينها تقرير يقول إن «فوزي القاوقجي وصل إلى السعودية لتدريب جيش ابن سعود وهو رجل يتمتع بمهارات جيدة». مما يعني أن البريطانيين كان يراقبون عن كثب حركته، كما تطورات الجيش السعودي الناشئ حينها. لكنه سرعان ما ترك السعودية والتحق بالمدرسة العسكرية البريطانية في بغداد عام 1932 حتى أكتوبر عام 1936. وهو التاريخ الذي سيظهر بعده القاوقجي في الأرشيف البريطاني عدواً يتم رصده ومتابعة أنشطته عن كثب.
تعتبر الباحثة أن كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» بدّل نظرة الدوائر الأكاديمية الغربية إلى العرب، فيما لا تزال المقالات الصحافية والمواقف السياسية على حالها، وكذلك الرأي العام للناس العاديين». من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب عن فوزي القاوقجي، فهو رصد دقيق لمرحلة شديدة الحساسية من خلال سيرة هذا الرجل الاستثنائي، الذي تكاد لا تفهم كيف وجد عند كل مفترق خطر ومفصلي في المنطقة. المؤلف مكتوب بلغة سلسلة وبسيطة، يتوجه للقارئ الغربي العادي، الذي يريد أن يعرف تاريخ الشرق الأوسط في تلك الحقبة الحساسة. ليلى بارسونز ذات الشخصية الخفرة، المتواضعة، والتي تتحدث الفصحى بطلاقة وإتقان، سعيدة لأن رسائل كثيرة وصلتها من أناس عاديين يقولون «إنهم فهموا للمرة الأولى قصة الاستعمار للشرق الأوسط». يبقى أن ترجمة عربية لهذا الكتاب المهم هي أكثر من ملحة، ويبدو أن أي دار نشر لم تأخذ على عاتقها هذه المهمة بعد.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.