المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً

نكبة 1948 للمرة الأولى بالإنجليزية من مصادرها العربية الخالصة

المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً
TT

المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً

المستشرقة بارسونز : فوزي القاوقجي بطل عربي وليس جاسوساً

لا تزال فترات شديدة الحساسية من التاريخ العربي الحديث غامضة، والآراء حولها متناقضة. وشخصيات محورية صنعت هذا التاريخ موضع جدل كبير، من بينها فوزي القاوقجي الذي يعتبر بطلاً قومياً بالنسبة لكثيرين، فيما لا يزال البعض يسمه بالخيانة والجاسوسية. كتاب المستشرقة ليلى بارسونز، الصادر حديثاً بالإنجليزية وفي طبعتين، إحداهما عن دار «هيل أند وانغ» في نيويورك، والأخرى عن دار «الساقي» في لندن، يقطع الشك باليقين، فيما يتعلق بمسار هذا القائد العربي. وهو من الكتب النادرة، حول تلك الحقبة بلغة أجنبية اعتمدت المصادر والوثائق العربية بشكل رئيسي، وحاولت أن تقدم الرواية العربية في مواجهة رواية أخرى مختلفة تماماً هي تلك الغربية عن الرجل الذي خاض حروباً لم تتوقف ضد الاستعمار، ولعب أدوراً متناسلة منذ عام 1914 وحتى 1948، وكان أكثر تلك الأدوار شهرة، قيادة جيش الإنقاذ لتحرير فلسطين عام 1947. شخصية القاوقجي تفتح الباب على فهم فترة انهيار الدولة العثمانية، وما رافق اتفاقية «سايكس بيكو» من اضطرابات، وقيام الثورات العربية الكبرى ضد الاستعمار ومن ثم نكبة فلسطين التي كانت اللحظة القاصمة التي تغيرت بعدها المنطقة كلها، إلى غير رجعة.
الباحثة بارسونز بريطانية الجنسية، وهي أستاذة التاريخ والدراسات الإسلامية في «جامعة ماكجيل» الكندية حالياً. خريجة «أكسفورد»، عملت في جامعة «هارفارد» ومن بعدها جامعة «يال». وكتابها الأول كان حول «الدروز بين فلسطين وإسرائيل 1947 - 1949». أما الكتاب الجديد فيحمل اسم «القائد» يعلوه عنوان آخر هو «فوزي القاوقجي وحرب الاستقلال العربية 1914 - 1948».
في جلسة جمعتنا ببارسونز أثناء زيارة لها لبيروت وابن فوزي القاوقجي أسامة، شرحت الباحثة أن «المصادر الاستعمارية التي رجعت إليها، كانت معادية جداً للقاوقجي وتقدمه على أنه مجرم وعدو. لذلك قررت التركيز على المصادر العربية، «وكنت محظوظة بالتعرف على دوان حفيدة القاوقجي التي التقيتها صدفة في بوسطن ماساتشوستس، وتعرفت بعدها بوالدها أسامة الذي سمح لي أن أعود إلى أرشيف فوزي القاوقجي، وكان كريماً معي إلى أقصى حد، مما جعلني أصل إلى كتابة قصة هي أقرب إلى الحقيقة». ومن المصادر التي عادت إليها الباحثة وثائق وجدتها في «معهد الدراسات الفلسطينية»، ومراجع موجودة في «مركز الأبحاث التاريخية» في دمشق، حيث عثرت على ملف كبير عن فوزي القاوقجي ومذكرات القاوقجي التي جمعتها المؤرخة الفلسطينية خيرية القاسمية في السبعينات، إضافة إلى مذكرات آخرين عاصروه مثل سعيد العاص، والصحافي منير الريس وأقرب أصدقائه إليه، وكذلك مصادر بريطانية وإسرائيلية كانت حريصة على ألا تجعلها هي الأساس.
في رأي بارسونز «أن معظم الكتب التي تتحدث عن هذه المرحلة باللغة الإنجليزية تركز بشكل أساسي على الضباط الإسرائيليين والبريطانيين، في الوقت الذي توجد فيه كتب قليلة جداً تعنى بحكاية الضباط العرب». لذلك يأتي الكتاب الذي يتحدث عن واحد من أهم الضباط العرب في تلك المرحلة ليسد ثغرة مهمة في تلك الفترة الحرجة.
ولد فوزي القاوقجي في طرابلس في السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية، وتحديداً في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1894، درس في الأكاديمية العسكرية في إسطنبول، وبعد تخرجه شارك بالقتال في الحرب العالمية الأولى كضابط في الجيش العثماني. ثم حارب في فلسطين في محاولة لوقف التقدم البريطاني. وبعد انتهاء الحرب وانهيار الإمبراطورية العثمانية واصل القاوقجي القتال ضد الاستعمار للأراضي العربية في سوريا وفلسطين والعراق. وتقول بارسونز «في الكتاب أنا أروي قصة هذه العمليات، وأحاول أن اكشف للقارئ عالم القاوقجي من خلال كتابة الأحداث التي عاشها من وجهة نظره. وتنتهي القصة بآخر حرب خاضها ضد الاستعمار، أي حرب فلسطين سنة 48، والتي قام فيها بقيادة قوة عربية من المتطوعين كانت ملتزمة بمنع إقامة دولة إسرائيل».
وحين نسأل إن كان الكتاب هو وجهة نظر القاوقجي أم محاولة لكشف حقيقة مساره؟ تجيب بارسونز: «الأمران معاً. بالطبع القاوقجي ارتكب أخطاء. فقد اعتقد أن الحرب ستكون أسهل مما هي عليه في مواجهة الإسرائيليين عام 48، وهذا كان انطباع الكثير من القادة العرب وقتها، معتمدين على حربهم مجتمعين لمواجهة الجيش المعادي». وتضيف: «من أخطائه أيضاً، أنه عام 1925 كان هو قائد ثورة حماة، ويبدو أنه استخدم استراتيجية قريبة للتي كان يتبعها الجيش العثماني، والمأخذ عليه أنه كان يجب أن يلجأ إلى تكتيكات أكثر ديناميكية».
البطل يصير عميلاً
تقرأ في الكتاب عن المكانة التي احتلها اسم فوزي القاوقجي عام 1936 حين حارب في فلسطين ضد الإنجليز، حيث كان ينشد له الناس أغنيات تتحدث عن بطولاته، وفدوى طوقان كتبت له شعراً يتغنى ببسالته ووصفته بأنه «بطل الأبطال» و«زهرة الشباب». لكن الباحثة تروي لنا إن النظرة للقاوقجي تغيرت بعد هزيمة 48. «وحين ذهبتُ إلى جامعة بيرزيت منذ سنة لأحاضر هناك، كان ثمة نقد كبير للقاوقجي».
انتقادات كثيرة وجهت لهذا القائد. علامات استفهام حول بعض سلوكياته، هناك من اتهمه بأنه جاسوس، ولا تزال المقالات تدبّج متهمة إياه بأنه كان عميلاً. بارسونز تجيب بشكل قاطع: «في كل الوثائق التي بحثت فيها، لم أعثر على أي دليل ولو صغير، يشير إلى أن القاوقجي لعب هذا الدور. بحثت في الأرشيف البريطاني، وفي الملفات البريطانية للمخابرات، ولم أجد ولو قصاصة واحدة يمكن أن تجعلنا نوجه له هذا الاتهام».
معلوم أن القاوقجي وبعد إصابته بجراح بالغة أثناء قتاله ضد الإنجليز عام 1941 نقل إلى برلين للعلاج، وبقي هناك ثم سجن عند دخول الروس، وهرب إلى فرنسا، وقرر العودة إلى بيروت عن طريق القاهرة. لكن لأسباب مفاجئة أعلم الركاب، وهم في الطريق، بأن الطائرة ستهبط في مطار اللد. هناك صعد رجال إلى الطائرة بحثاً عن القاوقجي لكنه بعينيه الزرقاوين وبفضل زوجته الألمانية التي تجلس إلى جانبه وكان يتحدث معها الألمانية لم يلق القبض عليه. ويقال بأنه استخدم اسماً مستعاراً خلال هذه السفرة ونجا بأعجوبة. وهنا تقول بارسونز إنها عثرت على ملف كامل في الأرشيف البريطاني موضوعه هذه الحادثة، وفيه وثائق تظهر غضباً بريطانياً من عدم اعتقال الرجل بسبب خطأ من الموظفين. مما يدل على أنه بالفعل أفلت بمحض الصدفة.
تعتقد بارسونز أن «السبب الرئيسي في تشويه صورة القاوقجي كان مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني لأنه كان يخشى دوره الكبير، ويتوجس منه». وخلافه معه يعود إلى عام 1936، حيث شجع الشباب على عدم الالتحاق بجماعته المقاتلة والذهاب مع جماعة أخرى. ويقول الكتاب إنه بلغ الأمر بالمفتي الذي تصادف وجودهما معاً في برلين أن كتب تقريراً للخارجية الألمانية يتهمه فيها بأنه جاسوس بريطاني.
بارسونز باحثة دقيقة، كتابها مذهل في بساطته وحرصه على التأكد من الوثائق بعد أن جالت في لبنان وسوريا وبريطانيا وحتى إسرائيل بحثاً عن المعلومة الصحيحة، وهي تقول: «أنا باحثة مستقلة، وما وجدته خصوصاً في الوثائق الإسرائيلية والبريطانية التي بحثت فيها أن القاوقجي كان بالنسبة لهم عدواً ومجرماً. وله ملفات في إسرائيل عن دوره في الحرب وكلها تتكلم عنه كإرهابي ومخرب. مما ينفي عنه تهمة التواطؤ معهم.
الرواية العربية مشوشة
الرواية العربية التاريخية حول هذا الفترة مشوشة. وباستثناء المذكرات التي نشرت لعدد من شخصيات تلك المرحلة، فإن الأبحاث غير كافية، يلزمها الكثير من التمحيص. تعزو بارسونز ذلك إلى «أن العرب يرونها فترة فشل وإحباط، ولا يريدون استعادتها أو التركيز عليها. وتضيف «علينا أن نتذكر أيضاً إلى جانب النكبة أن هناك شخصيات ناضلت وحاربت ودفعت أعمارها كلها، لتطرد الجيوش الاستعمارية، وحاولت تأسيس دولة. وهذه قصص تستحق أن تروى ويعرفها الناس».
من الأمور الملتبسة أيضاً في تلك الفترة مسألة غموض الهوية عند سكان المنطقة. فالقاوقجي، بدأ حياته العسكرية مدافعاً عن الدولة العثمانية، ثم أصبح مقاتلاً شرساً في الثورات العربية كمناضل قومي. وهو كان في البدء منسقاً بين الجيشين العثماني والألماني. تعتبر الباحثة أن الأمور كانت واضحة في ذهن القاوقجي. «كان مع وحدة الجيش العثماني. لكنه رأى ما حلّ بتركيا وكيف أنهم صدوا الاستعمار، فشعر أن على العرب أن يفعلوا الشيء نفسه، وقد انهارت الدولة العثمانية. أما اتهامه بتأييد النازية، فالعلاقة مع ألمانيا حينها لم تكن تحالفاً مع الفكر بقدر ما كانت بهدف المساعدة في صد الاستعمار وتحرير البلاد العربية من الإنجليز والفرنسيين».
الباعث الرئيسي الذي كان يحرك هذا المناضل على ما نفهم من براسونز، هو طرد الاستعمار. مشاعر القومية العربية ربما أنها بدأت بالظهور في تلك الفترة بسبب إحساس الضباط العرب بتعالي الضباط الأتراك عليهم، إلا أن الأولوية كانت الانتصار على الجيوش الأجنبية. وتلفت أيضاً إلى أن «الحدود كانت مفتوحة قبل عام 1936، والقاوقجي كما بقية الضباط العرب كانوا يجوبون المنطقة، وهو كان قد وصل في رحلاته حتى عمان، ومن ضمن مهامهم حث الناس على التطوع لتحرير فلسطين. ومن خلال هذا التسفار صار للقاوقجي معارف في كل المنطقة». لذلك نرى أنه قاتل في أماكن كثيرة مشاركاً في الثورات العربية في سوريا والعراق وفلسطين كما ذهب إلى السعودية وشارك في تدريب الجيش السعودي الذي كان في طور التأسيس.
تدريب الجيش السعودي
وتروي لنا الباحثة «أن القاوقجي ذهب إلى الحجاز مع زملاء له بينهم نبيه العظمة، لأن الحكومة الفرنسية كانت قد طردته وكان هناك أيضاً الحاج أمين الحسيني. ودرب الجيش الجديد الذي أنشأه الملك عبد العزيز بن سعود مع مساعدة من نبيه العظمة، وكان واحداً من القادة العرب أيضاً». تقول بارسونز إنها وجدت في الأرشيف البريطاني تقارير تتحدث عن هذا التدريب. ومن بينها تقرير يقول إن «فوزي القاوقجي وصل إلى السعودية لتدريب جيش ابن سعود وهو رجل يتمتع بمهارات جيدة». مما يعني أن البريطانيين كان يراقبون عن كثب حركته، كما تطورات الجيش السعودي الناشئ حينها. لكنه سرعان ما ترك السعودية والتحق بالمدرسة العسكرية البريطانية في بغداد عام 1932 حتى أكتوبر عام 1936. وهو التاريخ الذي سيظهر بعده القاوقجي في الأرشيف البريطاني عدواً يتم رصده ومتابعة أنشطته عن كثب.
تعتبر الباحثة أن كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» بدّل نظرة الدوائر الأكاديمية الغربية إلى العرب، فيما لا تزال المقالات الصحافية والمواقف السياسية على حالها، وكذلك الرأي العام للناس العاديين». من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب عن فوزي القاوقجي، فهو رصد دقيق لمرحلة شديدة الحساسية من خلال سيرة هذا الرجل الاستثنائي، الذي تكاد لا تفهم كيف وجد عند كل مفترق خطر ومفصلي في المنطقة. المؤلف مكتوب بلغة سلسلة وبسيطة، يتوجه للقارئ الغربي العادي، الذي يريد أن يعرف تاريخ الشرق الأوسط في تلك الحقبة الحساسة. ليلى بارسونز ذات الشخصية الخفرة، المتواضعة، والتي تتحدث الفصحى بطلاقة وإتقان، سعيدة لأن رسائل كثيرة وصلتها من أناس عاديين يقولون «إنهم فهموا للمرة الأولى قصة الاستعمار للشرق الأوسط». يبقى أن ترجمة عربية لهذا الكتاب المهم هي أكثر من ملحة، ويبدو أن أي دار نشر لم تأخذ على عاتقها هذه المهمة بعد.



«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».