هوبزباوم: التقدم العلمي أخفى انهيار الحقائق الفكرية

كان يقدم كل كتاب له على طريقة فنان يعزف سيمفونية عن تاريخ البشرية

إريك هوبزباوم
إريك هوبزباوم
TT

هوبزباوم: التقدم العلمي أخفى انهيار الحقائق الفكرية

إريك هوبزباوم
إريك هوبزباوم

على وقع الثورة البلشفية في روسيا 1917 ولد بالإسكندرية المؤرخ الأبرز في العصر الحديث إيريك هوبزباوم.. ولد بقلب مصري ولأب بريطاني وأم نمساوية. بجسده النحيل ورؤيته الثاقبة وذوقه الموسيقي الرفيع شرع في التاريخ لانعطافات العصور، سكنتْه الأحداث والتحولات الكبرى، وبالأخص تلك التي حدثت في القرن العشرين، القرن الذي يعده، كما في مذكراته، «عصر مثير»، الأكثر تأثيرا في حياة البشرية، فإلى جانب الحربين العالميتين، ثمة منجزات حضارية ومتغيرات عاصفة في العلوم والفنون والآداب، واختراق الفضاءات البعيدة وأعماق الأرض، ورغم الرؤية الماركسية التي دغدغت عاطفة هوبزباوم في كتابته وتاريخه للواقع فإنها تجاوزت الماركسية بقالبها المصمت لتكون آلية «هوبزباوم» الخاصة وبصمته.
من أهم ما قدمه على الإطلاق تلك «الرباعية» («عصر الثورة»، «عصر رأس المال»، «عصر الإمبراطورية»، «عصر التطرفات»). ترجمها إلى العربية عالم الاجتماع الأردني فايز الصايغ، بترجمة فريدة، يكفي أن نستعرض أفكارا عامة ومختصرة عن الرباعية. في تلك المدونات الكبيرة والضخمة يستعرض هوبزباوم موسوعيا تاريخ العالم المعاصر، بدأه بـ«عصر الثورة». وبه يتحدث عن «الثورة المزدوجة» التي خلقت العالم الحديث، إذ تزامنت الثورة الفرنسية مع الثورة الصناعية، بعدها سرعان ما تغيرت نواحي الحياة في أوروبا في مجالات الحرب والدبلوماسية، وفي المناطق الصناعية الجديدة وعلى الأرض ووسط طبقات الفلاحين والبرجوازية والأرستقراطية، في أساليب الحكم والثورة، وفي مجالات العلوم والفلسفة والدين. في هذا الكتاب يعيد المؤرخ معاني كثيرة ارتبطت بالثورة، ويمكن للقارئ أن يكتشف الثغرات المفهومية العربية التي استخدمت في الأوساط العربية.
في كتابه «عصر رأس المال»، وهو الجزء الثاني من تاريخه الموسوعي، واصل هوبزباوم تحليله الموسوعي للأحداث والأفكار الكبرى في العالم، إذ ناقش صعود الرأسمالية الصناعية التي رسخت الثقافة البرجوازية، وفيه يتحدث عن أن امتداد الاقتصاد الرأسمالي وتوسعه شمل كل بقاع الأرض. ثم يتعرض للربط بين الاقتصاد والتطورات السياسية والفكرية ليسرد تاريخا واقعيا عن الثورة وعن إخفاقاتها وتبخر رهاناتها.
في كتابه الثالث «عصر الإمبراطورية» ينطلق هوبزباوم بمعاوله الماركسية لمناقشة موسوعية إزاء «الهيمنة الإمبريالية الغربية» وتمددها في أنحاء الأرض. جاءت صرخته مدوية حين كتب: «إن ما تجلى في العالم الغربي من مظاهر التوسع الاقتصادي والتقدم العلمي والتقني والارتقاء وشيوع السلام إنما كان يخفي انهيار الحقائق الفكرية واليقينية القديمة التي بشر بها وأكدها المفكرون والفنانون والعلماء والمبدعون بمغامراتهم الاستكشافية في أصقاع العقل البشري وأعماق النفس الإنسانية».
في الجزء الرابع «عصر التطرفات» رأى أن القرن العشرين «الوجيز» كما يعبر هو عن ذلك، قسم العصور إلى أقسام ثلاثة، بدأها بعصر الكارثة، حيث عصر الحروب الشاملة، والثورة العالمية، والهوة الاقتصادية، وسقوط الليبرالية. ثم في قسم تلاه تحدث عن العصر الذهبي حيث الحرب الباردة، والثورة الثقافية، والاشتراكية الحقة، في القسم الأخير من الكتاب تحدث عن الانهيار، عن العالم الثالث والثورة، وفي آخر الكتاب حوار نفيس بعنوان «عقدان حافلان بالأزمات ومواطن الخلل: العالم بين 1991 و2010».
انشغل هوبزباوم باللحظات الخارقة، وبالحدود الفاصلة، وبالأحداث المتفجرة كالبراكين، كان يتابعها بمجرية فذة، كان يبحث عن الأحداث ليتخيلها على الواقع جارية، ويتناول الحدث مربوطا بغيره لا مستقلا عنه، فبينما يتحدث عن الثورة الفرنسية يستحضر الثورة الصناعية، يرى أن في التاريخ لحظات مثل اندلاع الحربين العالميتين تعد «كارثية»، ومن ثم يستعير الاستعارات التشبيهية «الجيولوجية»، سنجد أن هناك لحظات يمكن مقارنتها بالحدود الفاصلة، وفي أحاديثه عن نفسه يربط الأحداث الكبرى بحياته بأحداث تاريخية متزامنة، كما في ولادته مع بدء الثورة البلشفية، بينما تزوج من مارلين خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
من الناحية المنهجية وجد هوبزباوم نفسه متابعا لمعركة بين القديم والحديث، ليجد طريقه مع «الماركسيين» الشبان في المزج بين القديم والحديث، وفي خضم بحثه عن منهجه يكتب: «الابتكار الجديد الذي وجدت نفسي فيه بشكل مباشر هو القسم الذي أنشئ حول (التاريخ الاجتماعي) وعلى الأرجح هو الأول من نوعه في أي مؤتمر تاريخي». ومن ثم يحمل على المؤرخين التقليديين الذين كتبوا في السنوات الثلاثين بعد الحرب العالمية الثانية، الذين كانوا يخوضون معركة دفاعية في حرب خاسرة ضد تقدم الحداثيين في معظم الدول الغربية التي ازدهر فيها التاريخ بحرية.
في 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2012 رحل هوبزباوم، كانت حياته العلمية حياة فنية أيضا، لا ينسى هوبزباوم حواراته مع صديقه بورديو الذي قال له مرة: «أرى الحياة الفكرية شيئا أقرب إلى حياة الفنان من روتين العمل الأكاديمي».
كان في كل كتاب له يقدمه على طريقة فنان يعزف سيمفونية عن تاريخ البشرية.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!