مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»

كوريا الجنوبية بلد الصراع الدائم بين قوى التسلط وقوى المجتمع المدني

مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»
TT
20

مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»

مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»

انتخبت كوريا الجنوبية أخيراً رئيساً جديداً للجمهورية خلفاً للرئيسة المعزولة بعد إدانتها بالفساد بارك غيون هي. ويشكل الرئيس الجديد مون جاي إن، المحامي والناشط السابق في مجال حقوق الإنسان، نقيضاً سياسياً كاملاً للرئيسة السابقة التي هي ابنة الديكتاتور العسكري بارك تشونغ هي الذين حكم البلاد بقبضة من حديد إبان حقبة «الحرب الباردة» لمدة تقرب من 16 سنة حتى اغتياله في أكتوبر (تشرين الأول) 1979.
الديمقراطية ما كانت بالضرورة صفة ملازمة للحياة السياسية لكوريا الجنوبية، منذ أبصرت النور في أعقاب تقسيم شبه الجزيرة الكورية. ولئن كانت الديكتاتورية الصارمة غدت الهوية الثابتة للشطر الشمالي من كوريا، حيث التقت الشعارات والممارسات الشيوعية المفرطة بالتوريث العائلي وعبادة الفرد، وكله على حساب العافية الاقتصادية ورخاء المواطن، فإن الشطر الجنوبي ألف الديكتاتورية لسنوات.
الواقع أن أطول فترتي حكم شهدتهما كوريا الجنوبية كانتا فترتي قائدين يمينيين متشددين هما سينغ مان ري (أو ري سينغ مان) والجنرال بارك تشونغ هي. الأول هو الزعيم التاريخي المثقف الحاصل على أعلى الدرجات العلمية من أرقى جامعات الولايات المتحدة، الذي كان في أيامه رمزاً من رموز اليمين العالمي إبان فترة الحرب الباردة، وبالأخص، فترة الحرب الكورية (1950 - 1953)، وهو رغم ثقافته ووزنه السياسي لم يتردد في اللجوء إلى القمع وممارسة التسلط. أما الثاني فكان الجنرال «الانقلابي» الصارم، الذي مثّل في حقبة ما من تاريخ الشرق الأقصى جيلاً من الزعماء الذي ارتبط بمحاربة الشيوعية في دول الهند الصينية من فيتنام إلى لاوس وكمبوديا. ومن ثم أسهم في بناء سد «تسلّطي» كبح الديمقراطية والحريات العامة تحت ذريعة مواجهة زحف اليسار في أعقاب انتصاره الكبير في الهند الصينية عام 1975... وضم هذا الجيل، بجانب بارك (1963 - 1979)، الرئيس الإندونيسي سوهارتو (1968 - 1998) والرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس (1965 - 1986).
ثم إن الديكتاتورية العسكرية في كوريا الجنوبية لم تنته باغتيال بارك تشونغ هي، الذي هو والد الرئيسة المعزولة بارك غيون هي، التي يخلفها اليوم الرئيس الجديد، يوم 26 أكتوبر 1979.
عهد تشون القمعي
إذ خلال أقل من شهرين من تولي تشوي كيو هاه - الذي كان رئيساً للحكومة - رئاسة الجمهورية بالوكالة في أعقاب اغتيال الرئيس بارك، تحرك الجيش مجدداً. وقاد جنرال آخر هو الجنرال تشون دو هوان انقلاباً عسكرياً أطاح بالسلطتين السياسية والعسكرية في البلاد.
ومن ثم تولى تشون الحكم حتى سبتمبر 1980، عندما غدا رئيساً للجمهورية واحتفظ بمنصب الرئاسة في فترة أحكام عرفية واضطرابات وقمع دام شهدت ذلك العام ارتكاب مجزرة غوانغجو (في جنوب البلاد) - التي سقط فيها أكثر من 600 قتيل خلال مظاهرات سياسية - إلى أن أُجبر على التنحي عام 1988.
وتأخرت عودة الديمقراطية إلى البلاد، مع أنها كانت تخطو خطوات جبارة في مجالي التقدم العلمي والتفوق الصناعي، إذ انتخب الجنرال نوه تاي وو - زميل تشون وحليفه السابق - المدعوم من المؤسسة العسكرية وحزب العدالة الديمقراطي رئيساً للجمهورية في الانتخابات الرئاسية. ويومذاك استفاد نوه، أولاً من الابتعاد - ظاهرياً على الأقل - عن القمع الشديد الذي مارسه زميله وسلفه، وثانياً من انقسام قوى المعارضة الديمقراطية بين تيارين معتدل وبراغماتي مثله كيم يونغ سام (تولى الرئاسة لاحقاً بين 1993 و1998) وتيار نضالي ومثالي مثله كيم داي جونغ (الملقب بـ«نيلسون مانديلا كوريا» الذي تولى أيضاً فيما بعد الرئاسة بين 1998 و2003).

الحالة الكورية الجنوبية
خلاصة القول إن الحالة الكورية الجنوبية تستحق الدراسة في جمعها عدة ظواهر لافتة، أبرزها:
- إشكالية الهوية القومية التي فاقمها انقسام شبه الجزيرة الكورية بين جنوب رأسمالي غني وشمال شيوعي فقير.
- تداخل النوازع الديمقراطية مع ميل العسكر للتدخل في السياسة، لا سيما إبان حقبة الباردة، عندما كانت كوريا الجنوبية تجاور 3 دول شيوعية هي كوريا الشمالي والصين الشعبية والاتحاد السوفياتي.
- التطور التقني والازدهار الاقتصادي، الذي خدمه لفترة الاستقرار الذي فرضته الديكتاتوريات العسكرية لبعض الوقت، قبل أن يضحي من المستحيل الإبقاء على معادلة القمع والتطور.

بطاقة هوية
الرئيس الجديد مون جاي إن، المولود يوم 24 يناير (كانون الثاني) 1953، يأتي من «معسكر الديمقراطيين»، ولقد جاء انتخابه أخيراً في أعقاب فترة حكم بارك غيون هي أول امرأة ترأس البلاد، التي يربطها في المعسكر المقابل كونها ابنة الجنرال، ووارثة تركتها السياسية وقاعدته الشعبية.
مون مسيحي كاثوليكي من مواليد مدينة جيو جيه في أقصى جنوب البلاد، وهو ابن لاجئ من مدينة هامهونغ في كوريا الشمالية وكبير أربعة أولاد للعائلة. وبعد فترة قصيرة من تاريخ مولده انتقلت العائلة للإقامة في مدينة بوسان المجاورة، ثاني كبرى مدن البلاد بعد العاصمة سيول. وفي بوسان أكمل مون دراسته الثانوية. ومن ثم التحق بكلية الحقوق في جامعة كيونغ هي. وإبان فترة دراسته الجامعية، التقى بزوجة المستقبل، وكذلك ظهرت ميوله السياسية، وانخرط في الحراك الطلابي والمظاهرات السياسية ضد ديكتاتورية الرئيس بارك. وأدى حراكه الطلابي السياسي إلى سجنه، ثم طرده من الجامعة.
بعد ذلك جرى تجنيده في القوات المسلحة، وألحق بـ«القوات الخاصة». وفي أعقاب إنهاء خدمته العسكرية عاد إلى دراسة الحقوق، ونال إجازة في القانون، ودخل معهد الأبحاث والتدريب القضائي. ومع أنه تفوق في المعهد، لم يقع عليه الاختيار لكي يعين قاضياً أو مدعياً حكومياً وذلك بالنظر إلى تاريخه الطلابي النشط ومعارضته الشديدة سياسات الرئيس بارك. وبناءً عليه، شق طريقه المهني كمحامٍ.
في هذه المرحلة من حياته المهنية تعرّف مون إلى نوه موو هيون – الذي قيّض له أن يغدو رئيساً للجمهورية عام 2003، وتشارك معه في العمل كما ظلا صديقين حتى انتحار نوه عام 2009، بعد عام واحد من انتهاء فترة رئاسته. ونجح مون كمحامٍ متخصص في قضايا الحريات وحقوق الإنسان، كما انضم لجماعة «مينبيون» (التي يختصر اسمها باللغة الكورية كلمات «محامون من أجل مجتمع ديمقراطي») للمحامين التقدميين، وترأس مجموعة حقوق الإنسان في نقابة محامي بوسان. وأسهم خلال عام 1988 في تأسيس صحيفة «هانكيوريه» صوت التقدميين والليبراليين المناوئين للسلطات العسكرية وتسلط الرئيس تشون دو هوان.

الطريق إلى الرئاسة
بناء على إلحاح نوه موو هيون، الشريك والصديق، تولّى مون إدارة حملة نوه الانتخابية الرئاسية. وإثر فوز نوه بالرئاسة عينه الرئيس الجديد رئيساً لجهاز موظفي الرئاسة ومستشاراً له. وشملت صلاحياته كثيراً من المسؤوليات الحساسة، وبالأخص في مجالات الشؤون المدنية والترويج للتفاهم بين شطري شبه الجزيرة الكورية بما في ذلك القمة بين الكوريتين.
ومن ثم، عندما باشر الادعاء العام تحقيقاً في تهم فساد مزعومة بحق الرئيس نوه كان مون مستشاره القانوني. وبعد انتحار نوه كان صديقه ورفيق دربه وشريك خطه السياسي هو من أشرف على ترتيبات المأتم وقضاياه الخاصة. وبالتالي، حظي بحضور وهالة أكبر في الشارع السياسي المحسوب على خط نوه، وكسب شعبية واسعة في صفوف التقدميين والليبراليين المناوئين لمعسكر اليمين. وطرح جدياً كمرشح التقدميين في وجه مرشحة اليمين المحافظ بارك غيون هي.
وبالفعل، أخذ مون موضوع اقتحام الحلبة السياسية جدياً، وأخذت أسهمه ترتفع كأبرز الشخصيات المناوئة للمحافظين. وفي عام 2012 نجح في دخول البرلمان عن الحزب الديمقراطي المتحد ممثلاً إحدى دوائر مدينة بوسان الانتخابية. ولم يلبث أن حظي بترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة، إلا أنه خسر تلك المعركة أمام بارك التي صارت بفوزها أول امرأة تقود كوريا الجنوبية.
لكن هذه النكسة لم تَفُتّ في عضد مون، بل نشط في إعادة تشكيل قوى المعارضة وتحالفاتها بين التقدميين والليبراليين والوسطيين. وأثمرت مساعيه تأسيس الحزب الديمقراطي (مينجوو). وفي وقت سابق من العام الحالي، مع تجمع السحب السوداء فوق رئاسة الرئيسة بارك، ومن ثم اتهامها بالفساد وإدانتها وعزله، صار مون أبرز المرشحين المتنافسين لخول «البيت الأزرق» (مقر الرئيس الكوري)
وحقاً، في المعركة الانتخابية الحاسمة يوم 10 مايو (أيار) الحالي، فاز مون جاي إن متغلباً بفارق كبير على منافسيه المرشح المحافظ هونغ جون بيو ومرشح حزب الشعب وزميل مون السابق آهن شيول سو.

أبرز رؤساء كوريا الجنوبية
* سينغ مان ري (1948 - 1960): رجل دولة بارز والمؤسس الحقيقي لكوريا الجنوبية. من أسرة قروية تدين بالكونفوشية، إلا أنه اعتنق المسيحية البروتستانتية النظامية في ما بعد. بدأ حياته ناشطاً سياسياً وتولى مسؤوليات قيادية في مرحلة مبكرة من عمره. ثم استقر في الولايات المتحدة. فدرس بجامعة جورج واشنطن ونال منها البكالوريوس، ثم حاز الماجستير من جامعة هارفارد، فالدكتوراه من جامعة برينستون. تنحى عن السلطة إثر مظاهرات ضد الانتخابات التي اتهم بتزويرها وتوفي في هونولولو (هاواي) منفياً عن 90 سنة.
* بارك تشونغ هي (1962 - 1979): جنرال وسياسي قاد الانقلاب العسكري على الرئيس يون بو سيون عام 1962. ومن ثم حكم كوريا بيد من حديد طيلة 16 سنة، كان خلالها أحد أقوى زعماء دول الشرق الأقصى، وألد أعداء الشيوعية. اغتاله مدير وكالة الاستخبارات الكورية الجنوبية خلال حفل، وكان في سن الـ61. ابنته بارك غيون هي انتُخِبَت رئيسة عام 2013. وحكمت لأربع سنوات قبل إدانتها بالفساد وعزلها.
* تشون دوو هوان (1980 - 1988): جنرال آخر قاد كوريا الجنوبية - مثل بارك - في فترة نهضة اقتصادية وصناعية، وكذلك فترة قمع واسع النطاق ضد المعارضة السياسية. حكم البلاد لمدة ثماني سنوات بين الانقلاب العسكري الذي قاده وتخليه عن السلطة، واتهم بارتكاب كثير من التجاوزات وعمليات القمع.
* نوه تاي وو (1988 - 1993): جنرال وزميل للرئيس تشون دوو هوان. حاول في المرحلة اللاحقة من مسيرته السياسية اعتماد المهادنة مع قوى المعارضة. وتمكن من الفوز بالرئاسة في انتخابات تجمعت خلال القوى المحافظة خلفه، أمام انقسام أصوات المعارضة بين زعيمي بارزين، ولي كل منهما لاحقاً الرئاسة.
* كيم يونغ سام (1993 - 1998): زعيم سياسي كوري إصلاحي وديمقراطي عارض بعناد الديكتاتوريات العسكرية طيلة 30 سنة. دخل البرلمان نائباً عن حزب الرئيس الأول سينغ مان ري، غير أنه انشق عنه بعدما بدأ ينحرف نحو التسلط. ومن ثم صار من قادة المعارضة الديمقراطية.
* كيم داي جونغ (1998 - 2003): أبرز زعماء المعارضة الديمقراطية وأعندهم وأشدهم راديكالية في مقارعة الحكم العسكري. تعرّض للسجن وحُكِم عليه بالإعدام عام 1980. تولى الرئاسة بعد فترة حكم كيم يونغ سام. حائز جائزة نوبل عام 2000. أول كاثوليكي يتولى رئاسة كوريا.
* نوه موو هيون (2003 - 2008): رئيس إصلاحي وتقدمي. وناشط حقوقي من أجل الحقوق المدنية والحريات العامة. توفي منتحراً بعد سنة من مغادرته منصبه.
* بارك غيون هي (2013 - 2017): أول امرأة تتولى رئاسة كوريا الجنوبية. ابنة الرئيس الديكتاتور بارك تشونغ هي. انتخب رئيسة للجمهورية عن أبرز أحزاب التيار المحافظ. ولكن بعد بضع سنوات وُجّهت إليها تهم فساد ومحاباة لصديقة لها. وبعد إدانتها عزلت من منصبها وحكم عليها بالسجن.



«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

من القمة (رويترز)
من القمة (رويترز)
TT
20

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

من القمة (رويترز)
من القمة (رويترز)

الدورة غير العادية من اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى القمة، عقدت في القاهرة، بناء على طلب دولة فلسطين، لمواجهة تحدي «التهجير» الذي زادت خطورته مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن مقترح لتهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي. ولقد أعقبه كلام عن عزمه على السيطرة على القطاع وتحويله إلى ما وصفه بـ«ريفييرا الشرق الأوسط»، وهو المقترح الذي قوبل بانتقادات عربية ودولية واسعة.

تنسيق عربي واسع

ورغم الرفض العربي الواضح منذ اليوم الأول لمقترح ترمب، فإن انعقاد القمة استدعى كثيراً من التحضيرات والاتصالات بدأت باجتماع «خماسي عربي» في القاهرة مطلع فبراير (شباط) الماضي، شارك فيه وزراء خارجية المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والأمين العام لجامعة الدول العربية، وخلصت الجهود العربية إلى توجيه رسائل عدة إلى ترمب على رأسها «رفض التهجير».

لم تتوقف الأمور هنا، بل استمرّت البيانات والمباحثات بشأن مستجدات القضية الفلسطينية مع تفاقم «تحدي التهجير»، حتى أعلنت وزارة الخارجية المصرية عن «اتصالات مكثفة مع دول عربية عدة لبحث مستجدات القضية الفلسطينية».

وتلا ذلك الإعلان عن استضافة القاهرة قمة عربية «طارئة» هدفها بحث التطورات «المستجدة والخطيرة» للقضية الفلسطينية. وكان مقرراً عقدها في 27 فبراير الماضي، لكنها أرجئت إلى 4 مارس (آذار) الحالي لـ«استكمال التحضير الموضوعي واللوجيستي»، بحسب إفادة رسمية للخارجيّة المصرية.

التحضير لـ«القمة الطارئة»

تطلّب التحضير تنسيقاً للمواقف العربية - العربية واتصالات واجتماعات على مدار الساعة، كان أبرزها لقاء أخوي تشاوري جمع قادة دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر، الشهر الماضي في الرياض، رحّب بعقد «القمة العربية الطارئة». وجرى خلاله تبادل وجهات النظر حيال مختلف القضايا الإقليمية والدولية، خصوصاً الجهود المشتركة الداعمة للقضية الفلسطينية، وتطورات الأوضاع في قطاع غزة.

التزام بدعم القضية

وتأكيداً على قضية العرب المركزية حملت هذه الدورة غير العادية اسم «قمة فلسطين»، وعكست كلمات القادة والزعماء المشاركين فيها موقفاً موحداً رافضاً للتهجير داعماً لإعادة إعمار قطاع غزة، والأهم كونه مؤيداً لخيار السلام، مع توجيه دعوات للرئيس الأميركي لدعم مسار السلام، استناداً إلى مبدأ «حل الدولتين».

وجاء «بيان القاهرة» في ختام فعاليات القمة الطارئة متضمناً 23 بنداً، من بينها «اعتماد الخطة المقدّمة من مصر، بالتنسيق الكامل مع دولة فلسطين والدول العربية واستناداً إلى الدراسات التي أُجريت من قبل البنك الدولي والصندوق الإنمائي للأمم المتحدة، بشأن التعافي المبكّر وإعادة إعمار غزة باعتبارها خطة عربية جامعة». وأيضاً، حمل البيان تحذيراً واضحاً من «أي محاولات لتهجير الشعب الفلسطيني»، وعدّها «تهديداً لأسس السلام في الشرق الأوسط، وينسف آفاقه المستقبلية ويقضي على طموح التعايش المشترك بين شعوب المنطقة».

لبّت مخرجات «قمة فلسطين» العربية الطارئة، الكثير من «التطلعات والآمال التي كانت معقودة عليها»، بحسب خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط».

إذ قال السياسي والحقوقي الجزائري، محمد آدم المقراني، إنها «عكست التزاماً عربياً جماعياً بدعم القضية الفلسطينية». ورأى الدكتور عبد الحكيم القرالة أستاذ العلوم السياسية بالأردن أنها كانت «متوائمة مع حجم الظرف الطارئ الذي تمر به القضية الفلسطينية من أطروحات للتهجير وتصفية القضية». وبينما ذكر السياسي الفلسطيني الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، أنها تضمنت «حلولاً سياسية وأمنية عملية تلبي كثيراً من التطلعات»، لفت أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور، أحمد يوسف أحمد، إلى أن قرارات القمة جاءت «متناسبة مع التحديات، لا سيما تبنيها الخطة المصرية لإعادة الإعمار وتصورها لإدارة وحكم قطاع غزة وطرحها لقضية الإصلاح الداخلي الفلسطيني».

معضلة «حماس»

في بيانها الختامي، أكدت القمة أن خيار العرب الاستراتيجي هو «تحقيق السلام العادل والشامل». ودعت إلى «تكثيف التعاون مع القوى الدولية والإقليمية، بما في ذلك مع الولايات المتحدة، من أجل تحقيق السلام». ولكن بعد ساعات من اعتماد جامعة الدول العربية خطة مصر لإعادة إعمار قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، رفضت كل من أميركا وإسرائيل المقترح. وفي حين ادعى البيت الأبيض أن الخطة «لا تعالج الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع»، عدّت إسرائيل عبر وزارة خارجيتها أن القمة «لم تعالج واقع ما بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023».

في المقابل، بينما حثّت القمة على توحيد الصف الفلسطيني، ورحبت بـ«تشكيل لجنة إدارة غزة تحت مظلة الحكومة الفلسطينية» و«بجهود دولة فلسطين المستمرة في إطار الإصلاح الشامل»، لم يشر البيان الختامي إلى مصير حركة «حماس» في قطاع غزة، وهذه «معضلة» وضعتها إسرائيل والولايات المتحدة شرطاً لأي اتفاق مستقبلي، كما شددت دول أوروبية عدة في أعقاب اجتماع لمجلس الأمن الدولي، الأربعاء الماضي، على رفض أن يكون لـ«حماس» أي دور في قطاع غزة مستقبلاً.

غير أن رئيس الوزراء وزير الخارجية الفلسطيني، محمد مصطفى، أبدى تفاؤلاً إزاء هذه النقطة، وقال في مؤتمر صحافي ختامي للقمة: «لا نريد أن نعطي لأحد الذرائع... مطلوب من الجميع تقديم أفضل ما عنده لتجاوز العقبات... والمسؤول الأول عن الوضع الحالي هو إسرائيل». وأضاف مصطفى: «ضمن التوافقات الفلسطينية نحن كفيلون بتجاوز هذه القضايا ونعتمد على وطنية الجميع لحل أي خلاف».

من جهة ثانية، مع تأكيد الدكتور أحمد أن تحقيق وحدة الصف الفلسطينية «أمر ليس بالسهل»، لفت إلى «مؤشرات إيجابية» من بينها ترحيب «حماس» بقرارات القمة، وتحميل إسرائيل المسؤولية. واتفق معه الدكتور الرقب بقوله إن «المؤشرات الحالية توحي بقدر من البراغماتية الفلسطينية في التعامل مع الموضوع ورغبة في حل القضايا الداخلية العالقة».

بالتوازي، وفق أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، قدمت القمة «بديلاً واضحاً وعملياً وواقعياً لمقترح إخراج الفلسطينيين من أراضيهم». وأشار في مؤتمر صحافي في ختام أعمال القمة، إلى أن الخطة «ليست فنية فقط، بل ترسم مساراً لسياق أمني وسياسي جديد في غزة، يتضمن تشكيل لجنة تكنوقراط غير فصائلية، تتولى إدارة القطاع لمدة 6 أشهر تحت إشراف السلطة الفلسطينية... وهذه خطة مرنة وقابلة للتطوير حسب مقتضيات الواقع».

التحدي الصعب

في المقابل، عدّ الرقب أنه بقدر قوة قرارات القمة فإنها «تحتاج إلى خطوات إجرائية لتنفيذها على أرض الواقع... ومعظم القرارات بما في ذلك إعادة الإعمار تتطلب التزاماً إسرائيلياً بمراحل اتفاق وقف إطلاق النار وانسحاباً كاملاً من قطاع غزة». وأكد السياسي الفلسطيني «ضرورة تحرك الدبلوماسية العربية للتأثير على الإدارة الأميركية وإقناعها بالخطة المصرية لإعادة الإعمار... كيلا تكون قرارات القمة ككثير من القرارات السابقة حبراً على ورق». وأردف: «نحتاج لخطوات إجرائية فعلية وعمل دؤوب كيلا نكون أمام خيارات صفرية». وفي هذا السياق، دعا الدكتور القرالة لحشد الدعم الدولي من أجل أفق سياسي واضح للقضية الفلسطينية... «لأن مخرجات القمة تحتاج إلى دعم وإسناد خلال الأيام المقبلة، بهدف البناء على الرؤية العربية والموقف الجامع لحل القضية الفلسطينية وانتشال المنطقة من براثن العنف».

من زاوية أخرى يبدو أن وضع مقررات القمة موضع التنفيذ «هو التحدي الأساسي الأصعب أمام القمة»، بحسب الدكتور أحمد، لا سيما مع رفض إسرائيل والولايات المتحدة لها، إذ قال: «القمة خطوة أولى تستتبعها خطوات أكثر صعوبة». وهذا تحد أشار إليه أيضاً أبو الغيط بقوله إن «القمة محطة أولى في مسار طويل أتمنى ألا يكون شاقاً». أما المقراني فرهن فعالية مخرجات القمة بـ«مدى التنسيق المستقبلي بين الدول العربية، وقدرتها على تجاوز الخلافات وتوحيد الصفوف في مواجهة التحديات المشتركة».

الواقع أن البيان الختامي يشير إلى «التنسيق في إطار اللجنة الوزارية العربية - الإسلامية المشتركة لإجراء الاتصالات والقيام بالزيارات اللازمة للعواصم الدولية من أجل شرح الخطة العربية لإعادة إعمار قطاع غزة، والتعبير عن الموقف المتمسك بحق الشعب الفلسطيني بالبقاء على أرضه وحقه في تقرير مصيره». لكن الدكتور يوسف يلفت إلى «سير الإدارة الأميركية الحالية في اتجاهات متضاربة»، ويقول: «هذا لا يعني أنه لا مجال للتحرك، ولكن تبقى مواقف الإدارة الأميركية الحالية صعبة وتحتاج إلى مجهود لتغييرها ودفعها لدعم الخطة العربية».

وهكذا، انتهت القمة لكن العمل العربي لمواجهة تحدي «التهجير» وتصفية القضية لم ينته بعد، وهو ما يستدعي البدء في «مرحلة كسب المزيد من الدعم للخطة العربية».