العالم يحبس أنفاسه اليوم مع احتمال ارتفاع ضحايا الهجوم الإلكتروني

استهدف 200 ألف جهة في 150 بلداً... وتحقيقات لمعرفة القراصنة المسؤولين عنه

لوحة إلكترونية في محطة قطارات ألمانية أصابها فيروس الفدية (أ.ب)
لوحة إلكترونية في محطة قطارات ألمانية أصابها فيروس الفدية (أ.ب)
TT

العالم يحبس أنفاسه اليوم مع احتمال ارتفاع ضحايا الهجوم الإلكتروني

لوحة إلكترونية في محطة قطارات ألمانية أصابها فيروس الفدية (أ.ب)
لوحة إلكترونية في محطة قطارات ألمانية أصابها فيروس الفدية (أ.ب)

أوقع الهجوم الإلكتروني الذي ضرب أهدافا في مختلف أنحاء العالم 200 ألف ضحية، هي بشكل رئيسي من الشركات، في 150 بلدا على الأقل، وفق تأكيد مدير «يوروبول» روب وينرايت.
وقال وينرايت في مقابلة مع تلفزيون «اي تي في» البريطاني: إن قلة استجابوا لمطالب القراصنة بدفع فدية لتحرير ملفاتهم حتى الآن، لكنه أعرب عن خشيته من تفاقم المشكلة، ومن انتشار الفيروس أكثر مع عودة الناس إلى أعمالهم اليوم (الاثنين).
وقال وينرايت: «نقوم بعمليات للتصدي لنحو 200 هجوم معلوماتي سنويا، ولكننا لم نر مثل هذا من قبل». وتابع: «الحصيلة الأخيرة هي أكثر من 200 ألف ضحية في 150 بلدا. الكثير منها مؤسسات تشمل شركات كبيرة»، مشيرا إلى أن الانتشار العالمي للفيروس غبر مسبوق.
وأوضح، أن الدافع ما زال مجهولا، لكن الهجمات التي تستهدف الحصول على فدية هي عادة نتاج «عقول إجرامية».
وقال: «اللافت أن عمليات دفع قليلة حصلت حتى الآن؛ لذا فإن الأغلبية من الناس لم يفعلوا». وتابع: «نحن نواجه تهديدا متصاعدا، الأعداد تتزايد».
وأضاف: «أنا أخشى أن تستمر الأعداد في الازدياد عندما يذهب الناس إلى أعمالهم، ويفتحون حواسيبهم صباح الاثنين».
وقال وينرايت خلال المقابلة: إن الهجوم كان عشوائيا، ولم يفرق بين أحد وآخر، وانتشر بشكل سريع ونادر؛ لأن برمجية الفدية استخدمت عبر دمجها مع فيروس؛ ما يعني أن إصابة أي حاسوب قد يؤدي إلى انتشار البرمجية بشكل أوتوماتيكي من خلال الشبكة.
إلى ذلك، كشف باحث بريطاني في أمن الإنترنت لـ«بي بي سي» كيف أنه أوقف «عن طريق الصدفة» انتشار فيروس «الفدية» (رانسوموير) الخبيث الذي ضرب مئات المنظمات، بما في ذلك خدمة هيئة الرعاية الصحية البريطانية.
وكان الرجل، البالغ من العمر 22 عاما، والمعروف بالاسم المستعار مالويرتك، قد حصل على إجازة لمدة أسبوع من العمل، لكنه قرر التحقيق في «رانسوموير» بعد سماعه عن الهجوم السيبراني العالمي. وقد تمكن من وقف انتشاره عندما وجد ما يبدو أنه «مفتاح قتل» في تعليمات البرمجيات الخبيثة.
وقال لـ«بي بي سي»: «في الواقع تم الأمر جزئيا عن طريق الصدفة»، بعد قضاء الليلة في التحقيق: «فأنا لم يغمض لي جفن». وعلى الرغم من أن اكتشافه لم يصلح الأضرار التي سببها «رانسوموير»، فإنه منعها من الانتشار إلى أجهزة كومبيوتر جديدة، وتمت الإشادة به باعتباره «بطل الصدفة».
ومن جهته، قال وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون إن بلاده تنفق نحو 50 مليون جنيه إسترليني (64 مليون دولار) لتحسين أمن نظم المعلومات المتعلق بهيئة الصحة الوطنية، وحذرت من تعرض الهيئة لتهديدات إلكترونية.
وقال فالون بعدما أجبر هجوم إلكتروني مستشفيات على صرف مرضى يوم الجمعة: «خصصنا 1.9 مليار جنيه إسترليني لتعزيز حمايتنا من الهجمات الإلكترونية. وجزء كبير من ذلك ذهب إلى هيئة الصحة الوطنية».
وتأثر بهذه العملية عدد من الشركات مثل مجموعة «فيديكس» الأميركية العملاقة للبريد أو شركة الاتصالات الإسبانية «تلفونيكا» التي دعي موظفوها بمكبرات الصوت إلى وقف تشغيل أجهزة الكومبيوتر فورا.
لكن القرصان الإسباني السابق شيما ألونسو الذي أصبح مسؤولا عن أمن المعلوماتية في الإسبانية «تلفونيكا» كتب على مدونته أنه على الرغم «من الضجة الإعلامية التي أثارها، هذا البرنامج للحصول على فدية لم يكن له تأثير حقيقي» لأنه «يظهر على محفظة العملة المستخدمة أن عدد الصفقات» ضئيل.
وتابع أن آخر أرقام السبت تشير إلى أن «ستة آلاف دولار فقط» دفعت إلى طالبي الفديات. وهذا المبلغ المتواضع دفع عمار زنديق المسؤول في شركة الأمن المعلوماتي «مايند تكنولوجيز» إلى ترجيح كفة هجوم شنه قراصنة أرادوا إثارة ضجة أكثر من جمع أموال.
وفي مبادرة غير معهودة، قررت مايكروسوفت تفعيل تحديث لبعض برامجها لمواجهة هذا الفيروس. ويهاجم هذا الفيروس خصوصا نسخة «ويندوز إكس بي» التي لم تعد ماكروسوفت تؤمن متابعتها التقنية. ولم يستهدف نظام التشغيل «ويندوز 10» بالهجوم. نصحت السلطات الأميركية والبريطانية والفرنسية الأفراد والشركات والمنظمات التي طالتها عملية الاختراق بعدم دفع أموال إلى القراصنة.
وقال فريق الرد العاجل في وزارة الأمن الداخلي الأميركية إن «دفع الفدية لا يضمن استعادة الوثائق المشفرة». وأضاف أن «ذلك يضمن حصول الهاكرز على مال الضحية وفي بعض الحالات على المعلومات المصرفية المتعلقة به».
وكان لانس كوتريل المدير العلمي لمجموعة «إنتريبيد» الأميركية التكنولوجية صرح بأنه «خلافا للفيروسات العادية، هذا الفيروس ينتقل من كومبيوتر إلى آخر عبر الخوادم المحلية وليس العناوين الإلكترونية».
وأضاف أن «هذا البرنامج يمكن أن ينتقل من دون أن يقوم أحد بفتح رسالة إلكترونية أو النقر على رابط ما».
وفي تغريدة علق إدوارد سنودن المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية الذي كشف في 2013 عمليات مراقبة واسعة النطاق تقوم بها الوكالة: «لو تباحثت (إن إس إيه) في هذه الثغرة المستخدمة لمهاجمة المستشفيات عند (كشفها) وليس عند سرقة الوثائق التي ترد فيها لكان من الممكن تفادي ما يحصل».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)