دبلوماسي بريطاني سابق ينعى النظام الديمقراطي

يرى في كتاب له أنه تم اختطافه من قبل الرأسماليين

كارن روس  --  «الثورة بلا قيادات» - تأليف: كارن روس - ترجمة: فاضل جتكر ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية - مارس 2017
كارن روس -- «الثورة بلا قيادات» - تأليف: كارن روس - ترجمة: فاضل جتكر ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية - مارس 2017
TT

دبلوماسي بريطاني سابق ينعى النظام الديمقراطي

كارن روس  --  «الثورة بلا قيادات» - تأليف: كارن روس - ترجمة: فاضل جتكر ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية - مارس 2017
كارن روس -- «الثورة بلا قيادات» - تأليف: كارن روس - ترجمة: فاضل جتكر ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية - مارس 2017

صدرت في شهر مارس (آذار) الماضي ترجمة لكتاب بعنوان: «الثورة بلا قيادات» للمؤلف كارن روس، قام بها فاضل جتكر ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية. ويعد الكتاب طريفا جدا لأن به دعوة تبشيرية بمستقبل سياسي كوني مختلف يلوح في الأفق، فالسياسة القائمة على الحكومات التمثيلية التي ألفناها بدأت تتآكل ولا تجدي نفعا في حل مشكلات الناس، ولا خلاص إلا بأن يعود العموم إلى أنفسهم من جديد ويبتكروا حلولا هم الأجدر باكتشافها من الساسة.
إن الكتاب يسعى في مجمله إلى إقناع القارئ أن الناس والعموم، يمكنهم أن يقودوا أنفسهم دون قيادات وأن يسترجعوا سلطتهم المفقودة، لكن هذه الثورة المتحدث عنها فيها نفحة «غاندية»، إذ يجب أن تكون لطيفة وسلمية ومبنية على إجراءات عملية صبورة وصادقة، وتشتغل بمنطق «النملة» أي باتخاذ خطوة صغيرة تلو أخرى.
لقد كتب كارن روس كتابه هذا وهو يائس من الحكم الديمقراطي، وهو الشخص الذي عمل في السلك الدبلوماسي البريطاني إبان الغزو الأميركي - البريطاني على العراق، وكان كاتب خطب لوزراء الخارجية، فأيقن عن خبرة، كما يقول، بأن الديمقراطية في الغرب مزعزعة وتقدم في غالب الأحيان ادعاءات وتتظاهر بغير الحقيقة، وهي قادرة على الكذب على شعوبها بسهولة، خدمة لمصالح فئة قليلة العدد وجماعات ضغط محددة على حساب المجموع، هذا الأخير الذي من المفروض أن يكون المستفيد الأول والنهائي، لأن الديمقراطية كما تم إرساء قواعدها في عصر الأنوار (وهنا نستحضر بالخصوص جون جاك روسو) قائمة على تنازل الكل للكل، أي أن الشعب يطرح أسلحته وقوته وصلاحياته للإرادة العامة.
وجراء خيبة الأمل هذه، ينادي كارن روس بضرورة الكف عن انتظار انبثاق الحلول والتغيير من الساسة، فهم لم يعودوا موضع ثقة. إنهم عاجزون تماماً، فتمثيلهم للمجموع برلمانيا أمر لا يخدم إلا مصلحة القلة، ناهيك من أن النظام الرأسمالي أصبح من الشراسة، حيث اندمج بقوة مع السياسة إلى درجة دفع الأموال لتحوير التشريعات لصالح أربابها، وكل ذلك طبعاً ينسف الطبقة المتوسطة والفقيرة، وهنا يذكر كارن روس بأن حتى الانهيار المالي لعام 2008 تم تحمل تكلفته من طرف الطبقات المسحوقة.
إن النظام الديمقراطي ومعه النظام الرأسمالي أصبحا مفلسين ويفرزان مآزق تزداد تفاقما، بل هما يورطان البشرية على صعيد الكوكب ككل، فالمجتمع يزداد تمزقا والأفراد يعيشون في اغتراب كلي، إضافة إلى تنامي الشرخ الطبقي بين قلة محظوظة تغنم الأرباح وأكثرية بئيسة لا يصل إليها النصيب، أما شراهة الشركات العالمية الكبرى فهي تحدث تغييرا مناخيا يهدد أرضنا ويجعله أكثر تسمما، أفلا يتحدث العلماء الآن عن حقبة جيولوجية جديدة سميت بـ«الأنثروبوسين» تتشكل جراء المخلفات الإنسانية (التجارب النووية، انبعاث الكربون، إنتاج المعادن والبلاستيك)؟!
إن كل هذه المآزق التي أصبحت تتكرر وتعيد إنتاج نفسها باستمرار لن تُحَلّ، بحسب كارن روس، بالعمل السياسي الكلاسيكي المعتاد، بل هي تتطلب إبداعا جديدا وتحركا جماعيا كوكبيا مستقلا تماما عن الأساليب التقليدية. وما الكتاب إلا إرشادات تقدم بعض الخطوات العملية، التي يراها المؤلف كفيلة بإخراج العالم من أزمته، لهذا نجد الكتاب به طغيان للأسلوب التبليغي والدعوي فمثلا نجد عبارة «تبنوا هذه الأفكار، أو اعملوا على تطبيقها وسيتغير كل شيء...» فهناك شحن وتحريض وقناعة راسخة يريد الكاتب إيصالها للقارئ.
يشير كارن روس إلى أنه بعد نهاية الحرب الباردة انتشرت دعوة كبرى بكون البشرية ستحظى بالاستقرار وتنعم بالمآل الأخير لها: الديمقراطية والرأسمالية كسقف نهائي للبشرية، وبعضهم كما نعلم أطلق على ذلك اسم «نهاية التاريخ»، حيث سينعم الكل بالخيرات، وهنا يبدو أن سهام النقد موجهة للمثير للجدل فوكوياما صاحب تلك الدعوى، التي لا يوافق عليها الكاتب أبداً، فالتاريخ عنده هو بصدد تشكيل عصر جديد بسواعد العموم.
ونظرا للخيبة طويلة الأمد، يدعو كارن روس في كتابه إلى عدم التعويل على الخطط الحكومية لحل المشكلات المستعصية ففيها مضيعة للوقت، ولن تجدي نفعا إذ يقول حرفياً: «أما المطلوب فهو نهج جديد كليا في التعامل مع الأشياء. لا بد لنا أن نكف عن انتظار انبثاق التغيير من سياسيين غير موثوقين، يتحاورون في غرف بعيدة... فإن هذه المؤسسات لن تقوم بإصلاح ذاتها. يتعين علينا أن نسلم بالواقع المؤلم المتمثل في أننا لم نعد قادرين على التعويل على الخطط الحكومية في حل مشكلاتنا المتجذرة المستعصية، من التغير المناخي إلى الاغتراب الاجتماعي، بدلاً من ذلك، لا بد لنا من دعوة أنفسنا إلى الإقدام على التحرك الضروري». لقد قام كارن روس ببناء كتابه «ثورة بلا قيادات» على أربعة أفكار مفتاحيه تشكل فلسفته المتوخاة، لكي ينقذ الناس أنفسهم بأنفسهم وهي: * الفكرة الأولى: وهي أن كل تحرك لفرد واحد أو لجماعة صغيرة قادر على تحريك الكل والتأثير على النظام بسرعة فائقة، فالعالم أصبح يشبه ملعباً رياضياً، حيث يمكن لشخص واحد أن يطلق «موجة» ليجر خلفه كل الحشد. إن السلوك الفردي سواء كان إيجابياً (عمل تطوعي مثلاً) أو سلبياً (عملية انتحارية مثلاً) لا ينبغي الاستهانة به، فقد يُحدِث تأثيراً كيفياً مذهلاً وبإمكانه تغيير مسار الجماعة كلياً.
* الفكرة الثانية: وهي أن الفعل أقوى من القول، وهو ما يحدث الفرق، فكلما تم إنجاز أعمال ملموسة كان الإقناع أكثر، فالفرد لا يجب أن يكثر من وضع المثل أو الشعارات دون تنفيذ، بل عليه أن يكون هو التغيير نفسه، فإن كنت مثلاً من دعاة المساواة فطبق في مجالك أولاً، ولتترك كرة الجليد تتضخم لوحدها لتحدث تأثيراً أوسع، وإذا كان الناس في ضائقة مالية فليدبروا شأنهم بشكل تضامني وتشاركي، وليحلوا مأزقهم بأنفسهم وهكذا فعوض الكلام لا بد من التنفيذ.
* الفكرة الثالثة: إن الناس الأكثر تضرراً هم الأجدر على حل مشكلاتهم بأنفسهم، فالنموذج الغربي للديمقراطية التمثيلية تآكل ولا يحل المعضلات، لهذا وجب على الجماعة أن تعتمد على نفسها، بأن ترجع لنفسها حريتها المفقودة وأن تجتهد في صنع مصيرها كي تتحمل المسؤولية من جديد، التي تم ضياعها من طرف الساسة.
* الفكرة الرابعة: وهي الفكرة الجامعة لكل تفاصيل الكتاب، التي مفادها أن على العموم استرجاع الوكالة التي تم العبث بها من طرف النواب البرلمانيين، الذين ابتعدوا عن مصير الكل لخدمة مصير أقلية مستفيدة، وهو ما أفقد الناس المعنى وأدخلهم في اليأس والخيبة، وربما حين استعادة هذه الوكالة، واتخاذ زمام الإدارة من جديد، يجري يخلق التوازن المفقود وتُحذف الفوضى العارمة الطاحنة.
عموما يريد الكتاب أن يعلن للقارئ أن الديمقراطية في الغرب قد تم اختطافها من طرف من يسيطرون على الأرباح، لهذا فهي فقدت بريقها ولم تعد نافعة لحل مشكلات العموم، وما بقي سوى العمل والاجتهاد من طرف الأفراد أنفسهم لاستعادة سلطتهم وحريتهم، وذلك لن يتم إلا بمبادرات خلاّقة وعبر تنظيمات صغرى يكون أفرادها صادقين ومدفوعين بهواجس حقيقية تفرض وجودها وتجعل السياسة تنحني أمامها.



الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم