ماركاريان تحول إلى مصور الملك حسين باللجوء والصدفة

زهراب لـ«الشرق الأوسط»: تخليت عن الموسيقى وامتهنت التصوير لأمضي 22 عاماً في حضرة العاهل الأردني

الملك حسين مع الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز ويظهر في الصورة الملكان الراحلان فهد وعبدالله بن عبد العزيز والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز
الملك حسين مع الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز ويظهر في الصورة الملكان الراحلان فهد وعبدالله بن عبد العزيز والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز
TT

ماركاريان تحول إلى مصور الملك حسين باللجوء والصدفة

الملك حسين مع الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز ويظهر في الصورة الملكان الراحلان فهد وعبدالله بن عبد العزيز والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز
الملك حسين مع الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز ويظهر في الصورة الملكان الراحلان فهد وعبدالله بن عبد العزيز والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز

وسط زحمة دوار عبدون غرب العاصمة الأردنية عمان، يقبع استوديو لمصور أرمني أمضى أكثر من عقدين من عمره في القصر الملكي. زهراب ماركاريان كان المصور الخاص للملك الأردني الراحل الحسين بن طلال. لجأ من الحرب والدمار في بلاده إلى الأردن وتحوّلت حياته إلى مسيرة حافلة أرخ فيها سيرة زعيم عربي عظيم. صور الملك حسين تعتلي جميع جدران الاستوديو، لقطات تصور الملك الحكيم، ورجل العائلة المحب والصديق المتواضع.
وإن كانت الصورة العادية بألف كلمة، فما مقدار الجمل التي تحملها كل صورة ملكية؟ في جعبة زهراب أرشيف من اللقطات التي اختلستها عدسته التي لم تترك جنب الملك الراحل في يومياته وزياراته الرسمية، لذا قررت التقاءه شخصيا ليحدثني عن ذكريات عقدين من الزمان في حضرة الحسين ويطلعني على تفاصيل مجرياتها من وراء الكاميرا. بشوش ملؤه الطاقة الإيجابية والتفاؤل وفي قلبه كم هائل من الذكريات، لم تخذلني توقعاتي عندما حاورته..
لم ألتق الملك الراحل، لكنني خلال ساعتين أمضيتهما مع مصوره الخاص، تلمسته وشعرت أنني بحضرته من خلال تأثر زهراب الجم به، وعشرات القصص التي رواها ولمعت عيناه عند تذكرها... والصور.
* بدايات متواضعة
لجأ الأرمني زهراب ماركاريان إلى الأردن مع عائلته واستقروا في منطقة سيل عمان المتواضعة. وعاش طفولة قاسية بعدما توفي والده وهو لا يزال طفلا. لكنه تحدى الصعاب ولجأ إلى الموسيقى لنسيان همومه، لكن حلمه الأكبر كان الاقتراب مع الملك حسين بن طلال الراحل فقرر التخلي عن الموسيقى وامتهان التصوير أملا بأن يكون يوما مصور الملك الخاص.
وقال في حواره مع «الشرق الأوسط»، «الفضل في تحقيق حلمي يعود للملكة علياء الراحلة زوجة الملك حسين التي تعرفت عليها في معرض لمصور بريطاني في عمان بسبعينات القرن الماضي». وأضاف، «طلبت منها أن تدعمني وترعى مشروعي وبالفعل قدمتني للملك حسين». وتوفيت الملكة علياء في التاسع من فبراير (شباط) من عام 1977 عندما سقطت المروحية التي كانت تقلها أثناء توجهها إلى جنوب الأردن في رحلة تفقدية للمناطق النائية. ويكشف زهراب أنه التقط آخر صورة للملكة الرحالة يوم قبل وفاتها. وكانت وصية الملكة للملك حسين أن يقوم بإرسال زهراب لدراسة التصوير في نيويورك، الأمر الذي تأكد عند قراءة الملك لمذكراتها. وقال، «بالفعل، نفذ الملك وصيتها وأرسلني لأميركا للدراسة مع أنني لم أكن أتكلم الإنجليزية عندها، إلا أنني عملت بالوصية وعدت لخدمة الملك».
وكان المصور يرافق الأسرة الملكية في زياراتها إلى مختلف مناطق العالم، ويعيش يومياتهم بتفاصيلها. واسترجع أجمل الذكريات في القصر وبشتى بقاع الأرض مع الملك حسين وأولاده في كل صورة عرضها لـ«الشرق الأوسط». وعند الوصول إلى صور جنازة الملك الراحل أدمعت عيناه، وقال، «تربيت على يد الملك حسين وخدمته على مدار 22 عاما. وعندما رحل لم أعد أهاب الموت لأن في حضرته تعلمت القوة وجوهر الحياة التي نعيشها لكنني ابكيه كل يوم». وتأكد الصور أن الملك كان رجل أسرة بامتياز وتظهر علامات «الكاريزما» والطيبة والحكمة في كل لقطة. واستطرد زهراب، «كان الملك حسين يحب ولي العهد الأمير حسين حبا جما، وأرى في ولي العهد صفات قريبة جدا من الملك الراحل». كما رأى زهراب طيبة وتواضع الملكة علياء في ابنتها الأميرة هيا التي عرفها منذ إن كانت لم تتعدى الأربعة شهور.
* أن تصور ملكا
خلال دراسة زهراب التصوير في نيويورك نبهه أحد أستاذته أن أمامه مسؤولية كبيرة كمصور للملك، وأن عليه التقاط صور توثق للمستقبل شخصية قائد البلاد. وعن ذلك قال، «الملك حسين حتى ولو صورته وأنا مغمض العينين ستطغى على اللقطة هيبته وطيبته ومحبته».
وأضاف، «لم أكن أعطي الملك مجالا ليلاحظ أنني سألتقط له صورة، بل كنت أتطاير حوله وبيدي الكاميرا كالفراشة، وأحيانا كنت أتعمق في النظر إليه لأنسى نفسي فشخصيته قوية وتعلقت به كثيرا». وكشف المصور أنه في عدة مرات فقد تركيزه لدرجة أن احتاج الملك لتنبيهه لالتقاط صورة مع من كان يجتمع معهم وقال، «أعرف أنني كانت علي مهمة التصوير، لكن من يوجد مع الملك ينسى مهامه وهو يستمع للكلام المميز الذي يقوله».
وعن شخصية الملك قال زهراب إنه كان لا يحب الروتين، ولم تتألف حاشيته ومرافقوه من الأشخاص العاديين، بل كان محاطا بمفكرين خارجين عن المألوف. وأضاف، «كان الملك متواضعا ولم يعاملنا بتعالي، بل كأنداد له ولم تكن أي لحظة في حضرته مكررة أو مملة».
وأكد زهراب أن اهتمامات الملك كانت متركزة على متابعة شؤون الناس ومطالبهم، إذ قال، «كان يذهب بنفسه للقاء المواطنين وكان يجلس على الأرض معهم ويساعدهم في الوصول إلى حلول لقضاياهم».
واستذكر المصور زيارة للملك إلى مدينة العقبة الأردنية. وقال، «أردنا العودة إلى العاصمة على متن الطائرة لكنها كانت معطلة، فقرر الملك أن نعود إلى عمان بالسيارات». وأضاف، «وفي منتصف الطريق احتجنا أن نقف لتعبئة الوقود في السيارات إلا أن جميع محطات البنزين كانت مغلقة، ووجدنا أخيرا محطة بقرب مدينة الكرك لكن صاحبها كان نائما». واستطرد، «عندها ترجل الملك من سيارته وقام بتزويدها بالوقود بنفسه فاستغليت الفرصة وصورته، وعندها تنبه مالك المحطة وأتى راكضا ومحرجا لكن الملك لم ينزعج أبدا وسلم عليه ببشاشة». وقال، «عندها طلب مالك المحطة من الملك أن يتصور معه لتتحقق أمنيته، فقمت بتصويرهم، وبناء على طلب الملك، عدت إلى الكرك بعد تحميض الصورة لأعطيها لمالك المحطة بنفسي».
وفي مثال آخر عن تواضع الملك الحسين، قال زهراب، «كان الملك بصدد افتتاح مشروع جديد في العقبة، وخلال الافتتاح، قام مدير الموقع بقص الشريط عوضا عن الملك جراء ارتباكه الشديد». وأضاف، «وبعدها، جلس الملك لحضور الافتتاح وجلس المدير بعيدا عن الملك وكان بجواره كرسي فارغ، فقام الملك واتى إلى قرب المدير وقال له: لم تسمح لنا بقص الشريط، فعلى الأقل أجلس إلى جانبي، وانحرج المدير وضحك الملك».
وكشف زهراب أن الملك حسين ربطته علاقة وطيدة بالأسرة الملكية السعودية وبالملكة إليزابيث.
وفي أرشيف زهراب عشرات الكتب المصورة التي توثق حياة الملك حسين والعائلة الأردنية المالكة وكان أول كتاب عمل على إنتاجه كتاب «الملك والوطن» عام 1985 الذي كان هدية للملك حسين من المصور بمناسبة عيد ميلاده، وعند تسلمها قال الملك لزهراب، «احتفلت بي أكثر من ما احتفلت بي الدولة». وأضاف، «لن أنسى تلك اللحظة لأن بعد خروجي من مكتب الملك اشترى مني قائد الجيش في حينها زيد بن شاكر جميع النسخ – 5 آلاف - لتوزيعها».
* مملكة السلام
في عام 1995 كلف العاهل الأردني الملك عبد الله نجل الملك حسين زهراب تحضير كتاب مصور بمناسبة عيد ميلاد الملك حسين الستين تحت اسم «مملكة السلام».
وعن تلك التجربة قال زهراب، «ردت أن أكسر كل الروتين من خلال الكتاب الذي يؤرخ السلام في المنطقة وسافرت إلى فلسطين وإسرائيل والأردن، واخترت من القرآن والإنجيل والتوراة كلاما عن المحبة والتسامح».
ويأمل زهراب في آخر مشاريعه أن يحول الكتاب إلى فيلم يوثق حياة الملك الراحل بقوله، «الملك حسين بدأ السلام والمحبة، وهدفي إنتاج الفيلم ينتج من الأردن لأنها المقصود بمملكة السلام». وأضاف، «الملك حسين هو الرجل الوحيد الذي جمع العالم حوله قبل وبعد وفاته. حيث حضر جنازته أربعة من رؤساء أميركا. أبدا لن تتكرر هذه الجنازة لأي شخص في العالم».
وكشف المصور أنه على تواصل مع منتجين في هوليوود ونالت الفكرة إعجابهم وعلى أمل أن يقوم الممثل ميل غيبسون بدور الملك حسين، بحسب زهراب. واستطرد، «العالم كله يهاجم المسلمين والعرب. لندعهم ليأتوا لتعلم المحبة والطيبة من الهاشميين خاصة الملك حسين، والملك عبد الله يكمل مشوار والده، ويكفينا الجهل فهو عدو الإنسان».
** ذكريات من وراء العدسة
من الصعب أن يستعيد زهراب جميع يومياته ولحظاته مع الملك حسين بن طلال في حوار مدته ساعتين فقط، إلا أننا استطعنا استراق نظرات من خلف الكاميرا لأكثر الذكريات بروزا:
* «بعد زيارة رسمية إلى اليابان كنا متوجهين بعدها في زيارة رسمية لواشنطن ليقابل الملك حسين الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، قرر الملك أن نتوقف في هاواي في استراحة قصيرة. وجلسنا في فندق وتولى الحرس الأميركي حماية الملك (بحسب التقاليد الأميركية) وقررت يوما أن أخرج إلى سطح الفندق لالتقاط صور لغروب الشمس لكن مجرد ما فتحت الباب رنت أجراس الإنذار وطاردني عناصر الأمن خوفا من أن أكون متسللا أحاول التعدي على الملك وبعد التعرف على هويتي اخلوا سبيلي. وبعدما التقى الملك بريغان قال له: كاد عناصرك أن يقتلوا مصوري! وضحكنا سويا».
* «للملك الراحل بيت في لندن بقرب السفارة الأردنية هناك، كان يمكث فيه عند سفره إلى بريطانيا. وفي إحدى زياراته الغير رسمية اتصلت به رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر آنذاك وحددت موعدا لزيارته في تمام الساعة الـ11 صباحا. ونزلنا لانتظارها في مدخل المنزل في الساعة العاشرة و50 دقيقة. ولاحظنا أن سيارتها كانت أمام المنزل. ورأت أننا جاهزون لاستقبالها إلا أنها لم تترجل من سيارتها إلا في تمام الحادية عشرة. وعندها التفت لي الملك وقال: هؤلاء الإنجليز مواعيدهم مقدسة».
* «في زيارة إلى سلطنة بروناي، قرر السلطان حسن البلقية أن يشتري طائرة الملك حسين لكثرة ما أحبه، وعندها عرض الملك حسين على السلطان حسن أن يصحبه في جولة على متن الطائرة قبل تسليمه إياها، وصعد هو والسلطان فقط إلى الطائرة من دون المرافقين لكنني تسللت إلى داخل من دون علمهما لتصويرهما وتفاجآ عندما ظهرت لهم وقلت لهم: لم أر في حياتي زعيمي دولتين في قمرة قيادة واحدة وأردت توثيقها، فسمحا لي بالتقاط صورة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)