«مبادرة طريق الحرير» حزام نفوذ صيني جديد

بكين تعد العدة لإقامة أكبر حدث دبلوماسي لتدشينه

إشارات تبين المسافات للقطارات الصينية المحملة بالبضائع المتجهة إلى وجهات مختلفة في عدد من الدول الواقعة على طريق الحرير الجديد (أ.ف.ب)
إشارات تبين المسافات للقطارات الصينية المحملة بالبضائع المتجهة إلى وجهات مختلفة في عدد من الدول الواقعة على طريق الحرير الجديد (أ.ف.ب)
TT

«مبادرة طريق الحرير» حزام نفوذ صيني جديد

إشارات تبين المسافات للقطارات الصينية المحملة بالبضائع المتجهة إلى وجهات مختلفة في عدد من الدول الواقعة على طريق الحرير الجديد (أ.ف.ب)
إشارات تبين المسافات للقطارات الصينية المحملة بالبضائع المتجهة إلى وجهات مختلفة في عدد من الدول الواقعة على طريق الحرير الجديد (أ.ف.ب)

على الرغم من تقديم الصين مشروع «طريق الحرير» الجديد للعالم بوصفه جهدا فريدا يهدف إلى تبادل المنافع التنموية من خلال تمويل البنى التحتية للدول المشتركة في هذا الحزام النفوذي الاقتصادي؛ فقد عبرت الكثير من الدول الغربية عن قلقها من عدم توفر البيانات ونقص الشفافية فيما يخص تفاصيل المشروع، وتنتاب تلك الدول الشكوك بشأن نوايا الصين السياسية التوسعية.
الصين عبرت عن رغبتها في حضور رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي احتفالية إعلان خطة إنشاء «طريق الحرير» لكي لا يبدو الحدث متمركزا حول الصين، بيد أن بريطانيا قررت إرسال وزير خزانتها فيليب هاموند نيابة عن ماي، في حين سترسل ألمانيا وفرنسا ممثلين عنهما.
لحد الآن أعلنت الصين قائمة تضم 28 رئيس دولة وجهت لهم الدعوة، وتأكدت مشاركتهم في القمة المقرر انعقادها يومي 14 و15 مايو (أيار) الحالي. تضم القائمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، وجميعهم تنظر إليهم الصين باعتبارهم شركاء حقيقيين. «غالبية الرؤساء ورؤساء الوزراء المقرر حضورهم القمة يمثلون دولا تلقت أو تتوقع أن تتلقى دعما ماليا من الصين. فقد نجحت الصين في إقناع الدول ذات الصلة بنزاع بحر جنوب الصين، منها فيتنام وإندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، بإرسال قادتها لحضور القمة»، بحسب الخبير الصيني رجا موهان.
وأفادت مصادر سياسية بأن حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغيره من قادة الدول ذات السجل المريب في حقوق الإنسان، مثل الفلبين ودول وسط آسيا، جعلت زعماء الدول الغربية يحجمون عن الحضور.
الكثير من الدول المجاورة للصين، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، والهند، وسنغافورة لم تؤكد حضورها، في حين تأكد عدم حضور ممثلين عن ثلاثة من رفقاء الصين في مجموعة دول «بريكس» وهم البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، وفق القائمة التي أعلنتها وزارة الخارجية الصينية. ومن ضمن المتغيبين عن الحضور أيضا أستراليا التي تعد حليفا قويا للولايات المتحدة، وتتمتع بعلاقات وثيقة مع الصين. ولم تبدِ الدول الغربية رغبة في حضور القمة الصينية، باستثناء إيطاليا التي تعتبر الدولة الغربية الوحيدة التي قررت إرسال رئيس وزرائها لحضور الحدث الذي وضعته الصين على قمة خططها التنموية على الرغم من محاولات الصين لإعطاء الحدث نكهة دولية.

ما «طريق الحرير»؟

بحسب إعلان الرئيس الصيني شي جينبنغ، الذي كشف عن المشروع عام 2013، يعد طريق الحرير مبادرة استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إحياء الرابطة القديمة بين المحيطين الهادي والهندي عن طريق ربط الخط الساحلي الصيني بجنوب شرق آسيا، وغرب آسيا، والساحل الشرقي لأفريقيا.
وتعود تسمية طريق الحرير إلى عالم الجغرافيا الألماني فرديناند فون ريتشفون الذي عاش في القرن التاسع عشر، حيث لم يكن مجرد طريق، بل شبكة طرق تجارية داخل وعبر آسيا وأوروبا تطورت خلال الألفي عام الماضية. تقع الصين في نهاية ذلك الطريق، وعلى الطرف الآخر الهند وبلاد فارس، وشبه الجزيرة العربية وأوروبا، في منظومة عولمة مبكرة بدأها المغول في القرن الثالث عشر.
ويهدف الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد إلى إحياء الرابطة البرية القديمة بين الصين والبحر المتوسط من خلال وسط آسيا وأوروبا. ويشمل الحزام 60 دولة يسكنها نحو ثلثي سكان العالم، وبها 55 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، و75 في المائة من احتياطي الطاقة العالمي؛ مما جعل الصين تعيد تسميته ليصبح «مبادرة طريق الحرير الجديد»؛ وذلك لحث جميع الدول على المشاركة فيه.
يعتبر هذا الحدث هو المرة الأولى التي تدفع فيها الصين تجاه المشاركة الجماعية في مشروعها الطموح لإعادة إحياء الطريق، في مشروع ضخم تقدر استثمارات بنيته التحتية بمليارات عدة من الدولارات، تشمل خطوط للسكك الحديدية والموانئ والأقطاب الكهربائية. ووقّعت الصين أيضا عقودا مع 56 دولة لتعزيز الدعم المقدم للمشروع. وخصصت الصين 40 مليار دولار أميركي لـ«صندوق طريق الحرير».

الهند تتملص من المشروع

رئيس الوزراء الهندي نارندا مودي لن يشارك في القمة، وحتى الآن غير معروف ما إذا كانت الهند سترسل من يمثلها هناك، أم أنها ستحجم عن المشاركة من الأساس. ورغم إعلان الصين أن الغرض من المبادرة الجديدة ليس سياسيا؛ فقد وجدت معارضة من الهند. وبحسب دبلوماسي هندي رفيع المستوى، لا ترغب القيادة الهندية في إقرار المشروع «من قبل أعلى مستويات في الدولة».
كانت المرة الأولى التي عبرت فيها الهند عن معارضتها لـ«طريق الحرير» في عام 2016، ثم جددها رئيس الوزراء مودي العام الحالي. ومشددا على «حتمية ومنطقية الترابط الإقليمي من أجل السلام والتقدم والرخاء»، وصف مودي «مبادرة طريق الحرير» بأنها مبادرة صينية فردية تلعب فيها الدول المشاركة دورا محدودا، في حين اعترض مودي على الممر الاقتصادي الذي يربط بين الصين وباكستان بتكلفه 50 مليار دولار أميركي، الذي يمر من خلا منطقة غلغيت - بالتستان بمنطقة كشمير الخاضعة للإدارة الباكستانية، وصولا إلى غوادار بمنطقة بلوشستان. وحذر مودي من «الطموحات المتزايدة والعداوات المتأججة»، مؤكدا أن الحاجة هي «منع ميل أي طرف ناحية طرف آخر بصورة تؤدي إلى الإقصاء».
طريق الحرير ليس السبب الوحيد لكراهية الهند للفكرة، فزيارة الدلاي لاما الأخيرة إلى توانغ بمنطقة أرونشيل براديش، التي ادعت الصين تبعيتها لها، تسببت في ردود فعل عنيفة في الإعلام الحكومي الصيني. فمعارضة الصين الحالية لعضوية مجموعة الهند في مجلس الأمن المعروفة باسم «مجموعة مجلس الأمن وموردي المواد النووية»، ساهمت في تآكل شعبية الصين في الهند. فمبادرة طريق الحرير تبدو نشازا في أذن الكثيرين في الهند. الصين غير مسرورة لما يجري، وكثيرا ما حذر الدبلوماسيون الصينيون في دلهي بقولهم: «كلما أسرعت الدول بالانضمام إلينا، كانت لهم كلمة مسموعة ومزايا أكبر»، مشيرين إلى أن الهند ستدفع ثمنا لعدم مشاركتها في مبادرة طريق الحرير.
يقول بعض الخبراء الأجانب: إن الهند لن تستطيع تجاهل المبادرة على علاتها. وذكر الكاتب الصحافي مارينال بيسواس في مقال نشر مؤخرا: «ربما تجد الهند نفسها منعزلة استراتيجيا بعد أن تكون الكثير من الدول الآسيوية والأوروبية قد انضمت إلى خطة الربط الصينية، وستجد الهند نفسها بمعزل عن الآخرين. فجميع جيران الهند مقبلون على المبادرة، في حين تقوم الهند حاليا بدراسة المزايا والمخاطر التي ستعود عليها حال انضمت للمبادرة».

طموحات الصين

في وقت بات فيه موقع الولايات المتحدة من العالم في عهد دونالد ترمب غير واضح بعد تعهده بأن تكون «أميركا أولا»، ترى الصين فرصة أكبر في لعب دور القائد العالمي، وبخاصة بعد أن وجدت صدى وقبولا لمبادرة طريق الحرير الجديد.
وبحسب الخبير الأجنبي مورلي مينون، فإن القمة تعد خطوة في سبيل تعزيز نفوذ الصين الدولي، في الوقت الذي جعل فيه الرئيس الصيني من بلاده قوة إقليمية منفتحة، وفي الوقت الذي أثيرت فيه التساؤلات عن التزام ترمب بالمحافظة على وضع الولايات المتحدة التقليدي بصفتها قائدة للعالم.
لا يكمن لب الموضوع في مبادرة الصين في السيادة على منطقة ما؛ فالأمر يعتمد على قدرة الأسطول البحري الصيني على تنظيم أو منع مرور البنتاغون أو الأسطول الأميركي. بالنسبة للصين، فطريق الحرير يعد مثالا مهما لبسط النفوذ السياسي في الوقت الذي تعزز فيه الصين من مشروعات بنيتها التحتية، وتقوم بتصدير الفائض عن حاجتها إلى دول العالم».
في السنوات الثلاث الماضية، بدأ العالم، باستثناء الهند، في التقارب مع الصين فيما يخص طريق الحرير. ففي أبريل (نيسان) 2016، وافق الاتحاد الأوروبي على ضخ مبلغ 10 مليارات يورو في «الصندوق الأوروبي للاستثمارات الاستراتيجية» لصالح «صندوق طريق الحرير الصيني». ووفق ذلك الاتفاق، وعلى عكس استثماراتها الاستراتيجية والاقتصادية مع أفريقيا وفي مشروع «الطريق الاقتصادي الصيني الباكستاني»، فقد وافقت الصين على الالتزام بقوانين الاتحاد الأوروبي، ومنها الاشتراطات الخاصة بالمشتريات والعمالة والبيئة.
وبسبب الرعب من الولايات المتحدة سارعت الكثير من دول الاتحاد الأوروبي، وتقريبا نصف أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالانضمام إلى عضوية «بنك البنية التحتية الآسيوي» ليصبحوا أعضاء مؤسسين به، وهو البنك الذي ينظر إليه باعتباره المصدر الرئيسي لتمويل طريق الحرير الجديد.
وذكر تقرير صادر عن «حركة الإنصاف الباكستانية» نقلا عن خبير أميركي رفيع، أن مبادرة طريق الحرير تمثل تحديا استراتيجيا خطيرا للولايات المتحدة، ودعا إلى عمل دراسة وافية لهذا المشروع الطموح. وبحسب تقرير «حركة الإنصاف الباكستانية»، قال أشلي تيليس، عضو مؤسسة «كارينغي أندومنت للسلام الدولي»، خلال جلسة استماع بالكونغرس الأميركي نظمتها لجنة التسليح: إنه «ينبغي على الولايات المتحدة أن تتعامل بجدية بالغة مع التحدي الاستراتيجي الذي تمثله مبادرة طريق الحرير الصيني». أفاد تيليس بأن «حجم برنامج طريق الحرير مذهل بالفعل: فبنك التنمية الصيني وحده سيقوم باكتتاب نحو 900 من مشتملات المبادرة بتكلفة تقترب من تريليون دولار».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟