الشعر ليس ديوان العرب

الشعر ليس ديوان العرب
TT

الشعر ليس ديوان العرب

الشعر ليس ديوان العرب

لا نعرف من قال إن العرب أمة الشعر، وإن الشعر ديوان العرب. وصدقنا ذلك، كما نفعل دائما مع أساطير كثيرة. والحقيقة، أن كل الأمم هي أمم شعر، فلم تعرف البشرية فنا غيره إلا في مراحل متأخرة من تطورها. والفرق الآن بينها وبين هذه الأمم الأخرى، كأمة الإنجليز والفرنسيين والإيرانيين، هي أنها لا تزال أمم شعر، نعني أن الشعر لا يزال عنصرا جوهريا في بنيتها الثقافية والحضارية والروحية، تغذيه دائما، كما تفعل مع كل العناصر الفنية والأدبية والجمالية، التي تشكل كلا واحدا، بينما نحن لم نعد كذلك.
نعم، إن الشعر يموت عندنا، أو في مرحلة احتضار في أفضل الأحوال. لم تعد تخدعنا القدسية التي أضفيت على هذا النوع من القول منذ قرون، ولم تعد ترفرف هالات الرؤيا فوق رؤوس الشعراء المساكين، مما جعل كثيرا منا زاهدين عن حمل أي لقب آخر. لا، لم نعد أمة شعر. لحسن الحظ، تخلصنا من «هوس الشعر المقدس»، الذي هو وهم آخر. حسن كل ذلك حتى نمسك بجوهر الشعر الحقيقي، ونعرف أصحابه الحقيقيين.
لكننا استبدلنا هوس الشعر بهوس الرواية. انقلبنا فجأة على أنفسنا. هل هذا يعني أن الشعر لم يكن حقا متجذراً فينا كفاية؟ هل يتعلق الأمر بمستوى اجتماعي وحضاري معين بلغناه، فما عاد الشعر ضرورة تلبي حاجتنا الروحية والذهنية؟ على العكس تماما، فنحن ما زلنا في أسفل السلم من التطور الاجتماعي والروحي والذهني.
هل هي هيمنة الرواية؟ ولكن لماذا هيمنت، كما نرى الآن، من دون أن تتوفر عندنا الشروط المناسبة لنموها وتطورها، كما حصل في أوروبا منذ القرن التاسع عشر في الأقل حين تشكلت المدن الكبرى، وتبلورت بنية المجتمع البرجوازي؟ هل فعلت الجوائز فعلها في نفوسنا؟ لماذا لم نعرف هذا الهوس بالرواية قبل أن تصدّر إلينا جائزة بوكر العربية؟ أهو وهم الشهرة والترجمة والعالمية؟ فليكن.
ولكن على مؤسساتنا، التي منحها الله أموالا طائلة، أن تتريث قليلا، وألا يصاب بعضها بالعدوى من بعض، والغيرة أيضا، فنرى في كل يوم جائزة جديدة للرواية العربية، بل عليها، بالإضافة إلى ذلك، أن تفعل شيئا لتراث شعري غني، بعيد وقريب، نراه يضيع من دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه ذلك.
دعونا لا نذهب بعيداً، ونتساءل: أين هو تراث امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وجرير، والفرزدق، والأخطل، والمتنبي، وصولا إلى أحمد شوقي والجواهري؟ وماذا يعرف عنهم القارئ الشاب عدا ما تعلمه في كتابه المدرسي؟
ولنفكر في الأقرب إلينا من الشعراء المحدثين: أين بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، ونزار قباني، وصولا إلى محمود درويش، الذي لم يمض على رحيله سوى سنوات قليلة، ويحضر ربما أكثر من غيره لأسباب ليست أدبية؟ لقد ملأ هؤلاء الدنيا وشغلوا الناس ردحا من الزمن، ثم اختفوا مع اختفاء وجودهم المادي، كأنهم لم يكونوا.
كم دراسة نقدية صدرت عن هؤلاء؟ كم مختارات شعرية جادة، تنبش في شعرهم، وتقدم منه عصارته لجيل عربي قد يكون سمع عنهم فقط، وقد يريد أن يتعرف على نتاجاتهم وتجاربهم الشعرية من خلال مرجعيات موثوقة؟ كم من نتاج لهؤلاء الشعراء دخل مناهجنا الدراسية، حتى في الدراسات الجامعية؟
هناك قطيعة كبيرة بين تراثنا الشعري والقارئ الشاب، الذي ينبغي أن نذهب إليه بدل انتظار أن يأتي هو إلينا. وهذا لا يتم سوى بخلق وسائل اتصال بينه وبين الشعر عبر إصدار مختارات، وطبعات مبسطة مرفقة بالشروحات اللازمة، كما يحصل في كل الأمم المتحضرة. فلا أحد يتوقع أن يقرأ الجيل الحالي كثيرا من الشعر الجاهلي والأموي والعباسي، كما هو في الأصل، أو أن يستوعب، مثلاً، «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري أو لزومياته.
في بلدان مثل بريطانيا وفرنسا، لا تكف دور النشر عن إعادة طبع أعمال شعرائهم الكلاسيكيين منذ القرن السابع عشر، بطبعات فاخرة، وأخرى شعبية ومبسطة لجمهرة القراء، وخاصة الشباب، خالقة بذلك تواصلا مستمرا بين القديم والجديد، بالإضافة إلى الجوائز المخصصة للشعر، كجائزة «تي إس إليوت»، التي قد تكون أهم جائزة للشعر في العالم الغربي.
وهذا لا يمكن أن يتحقق في بلداننا العربية على يد دور النشر الخاصة، التي تفكر في السوق فقط، وإنما عبر مؤسسات كبيرة غير ربحية تعيد التوازن لحياتنا الثقافية، وتبعث الحياة في تراثنا الشعري الضخم، الذي نكاد ننساه، وثروتنا الشعرية المدفونة تحت أقدامنا. هذه المؤسسات موجودة وقادرة، ولكن عليها فقط أن تعيد النظر بطرائق عملها، وتوازن بين كل عناصر ثقافتنا، إذا كانت جادة فعلا في خدمة هذه الثقافة. عدم العمل على تحقيق ذلك، سيكون بالفعل خطيئة كبرى، ليست ثقافية فقط، وإنما حضارية وجمالية وروحية.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.