الكويت... لماذا خبا بريقها الثقافي؟

مثقفوها يستذكرون ريادة بلدهم في نشاطات الثقافة والفن

جمهور إحدى الفعاليات الثقافية
جمهور إحدى الفعاليات الثقافية
TT
20

الكويت... لماذا خبا بريقها الثقافي؟

جمهور إحدى الفعاليات الثقافية
جمهور إحدى الفعاليات الثقافية

إذا التفت إلى يمينك وأنت تدخل إلى رابطة الأدباء الكويتيين، ستطالعك صورة جماعية قديمة جدا تعود إلى عام 1924 لمجموعة من الرجال كانوا قد أسسوا في ذاك التاريخ أول نادٍ أدبي قال عنه الباحث د.خليفة الوقيان في كتابه «الثقافة في الكويت: بواكير، اتجاهات، ريادات»: «بافتتاح النادي الأدبي... انفسح المجال أمام مثقفي البلاد وعلمائها وأدبائها لتحقيق كثير من طموحاتهم في التوعية بأفكارهم المستنيرة والدعوة إلى الاهتمام بالعلم، ونبذ الخرافة ومحاربة التخلف». هذه الصورة يتباهى بها أعضاء رابطة الأدباء أمام الزائرين العرب.
وقبل هذا التاريخ كان الكويتيون قد أنشأوا في عام 1913 أول مكتبة تتبع لجمعية خيرية، وهذه التواريخ أسست لاحقاً لحراك ثقافي امتد حتى العصر الحديث، وربما كان تأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في عام 1973 نقطة تحول كبيرة بأن أصبح للثقافة الكويتية أجنحة تحلق خارج الحدود من خلال إصدارات كان المثقف العربي ينتظرها بشغف عبر سلسلة من الإصدارات القيمة مثل سلسلة عالم المعرفة وعالم المسرح والثقافة العالمية وعالم الفكر وإبداعات عالمية، وقبل ذلك مجلة «العربي»، وكل هذه الإصدارات كان المثقف العربي يحجزها مسبقاً عند مكتبات بلاده. وهذا يعني أن الحراك الثقافي الكويتي كان يسد فراغاً ما في المنطقة ويحظى باهتمام جمهور المثقفين العرب.
لم تكن المنافسة كبيرة حينها مع الثقافة الإقليمية، لتفرد الكويت بإصداراتها وأنشطتها ومسرحها وحتى أعمالها الدرامية التلفزيونية التي كانت ناقدة للمجتمع وتسعى إلى فتح نوافذ التنوير على مجتمع حديث بطريقة تفكير جديدة، وبرزت أسماء مؤثرة ما زالت بصماتها حتى اليوم. ثم حين اشتدت المنافسة مع الثقافة الإقليمية، وحين بدأت وسائل الاتصال الحديثة تفتح النوافذ على العالم، كيف واجهت الثقافة الكويتية هذه المنافسة، وهل استمرت بهذا التأثير الخارجي، علماً بأنها لا تزال قوية في الداخل بل تضاعف عدد الأنشطة والمهرجانات والمؤسسات الثقافية، أم خفت تأثيرها خارجياً بحيث تمكنت ثقافات أخرى من الوصول إلى واجهة الإعلام وأخذ حيز من الاهتمام الذي كانت تشغله الثقافة الكويتية.
هذا التساؤل يمكن أن يجيب عنه العاملون في الثقافة، رسمياً وإبداعياً، ومنهم الكاتب د. وليد الرجيب الذي شغل في التسعينات منصب مدير إدارة الثقافة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وفي فترته ظهر «مهرجان القرين الثقافي الأول». يقول لنا:
«نعم، كانت الثقافة بمثابة القدر بالنسبة للكويتيين، وكان ميناؤها هو الرئة التي تتنفس منها الكويت، وأتاح لها هذا المرفأ ونمط العيش التنقل بين القارات، وبين الحضارات المختلفة والثقافات المتنوعة، فكان ذلك أحد عوامل تكون وتشكل الشخصية الكويتية، المستنيرة والمنفتحة غير المنغلقة على نفسها وذاتها، كما أصبح السفر والإبحار فرصة لنمو حس الاكتشاف والاطلاع، عمقاً بالمعرفة المتنوعة وكذلك الخاصة في الخبرة بالإبحار، أفرزت مهارات التعامل مع مفردات البحر والإبحار، وكأن لا حدود ولا انفصال بين الخبرة والمهارة والمعرفة».
ويضيف الرجيب: «كأن ثيمة البحر والسفر بعيداً فرصة لا تقدر لبلورة الإبداع الفني غناءً وشهرةً، ورفد شغف متابعة الشأن العربي السياسي والثقافي جدلية السؤال والموقف، من خلال المطبوعات العربية، فحرص المبادرون على إنشاء المكتبة الأهلية لإشاعة المعرفة والثقافة، مما تيسر من كتب وصحف ومجلات للاطلاع العام، فلم تكن الثقافة حكراً على فئة أو نخبة وإنما أتيحت للعامة».
ويرى د. وليد الرجيب أن هذا الانفتاح والاستنارة جعل الأهالي يبادرون لإنشاء أول مدرسة وتعليم نظامي أوائل القرن الماضي، لتتطور وتصبح مراكز للتدريب على الفنون المسرحية والخطابية، ثم أنشئ أول نادٍ أدبي عام 1924. وتتالت سبحة المؤسسات الأهلية مثل مجلس المعارف ومجلس البلدية وغيرهما، كما كانت أول مطالبة بالمشاركة الشعبية عام 1921. وشكلت هذه المؤسسات البنية الثقافية الأساسية، التي بنيت عليها الثقافة والفنون ونمط السلوك المنفتح والمتحضر وتفتق الوعي ونضوجه.
وبعد تدفق الثروة النفطية بكميات تجارية، ساهمت الدولة بمثقفيها بتأسيس أهم مطبوعة عربية في ذلك الوقت، وهي مجلة «العربي» ذائعة الصيت وقدمتها للقارئ العربي شبه هدية، ثم تشكلت جمعيات النفع العام بما فيها رابطة الأدباء في مطلع ستينات القرن الماضي، تلاها إنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الذي أصدر سلاسل المطبوعات القيمة كعالم المعرفة وعالم الفكر والمسرح العالمي والثقافة العالمية وغيرها.
وحول ذلك الكويت إلى منارة ثقافية ومركز من مراكز الثقافة العربية، كما أتاحت الثروة النفطية والاستعداد المسبق للكويتيين وانحياز الحكومة للثقافة الرفيعة، وضع البنية الثقافية التحتية للمسارح والمناهج الحديثة وانتشار المدارس وكذلك الإذاعة، فقفزت الثقافة وتجلياتها الإبداعية خطوات كبرى، حين ذاك صارت الكويت مصدراً من مصادر الفكر والمعرفة والإنتاج الفني والأدبي، فحظيت بحضور ثقافي عربي بارز.
* الحضور الثقافي العربي
وعن الحضور في المشهد الثقافي العربي، يقول الرجيب: قياساً بالثقافة الآن هي بالتأكيد لم تتراجع، فالثقافات لا تتراجع لأنها تراكمية، لكن المشهد الثقافي أو الثقافة السائدة أو ما يظهر على السطح، وطغيانه على ثقافة الاستنارة والريادة والانفتاح، وبالتالي تراجع حضورها الثقافي العربي، لا يعني تراجع الثقافة فيها، ففي هذا العصر تحتاج الثقافة كي تعود لحضورها، تدخل الحكومة ومحو الأمية الثقافية للمسؤولين، بدءاً بتطوير مناهج الدراسة ورفع القيود عن تداول الكتاب، والتراجع عن السياسة الرقابية على العقول والمعلومة.
وكذلك تسخير وسائل الإعلام الرسمية والأهلية لخدمة الثقافة ونشرها، وتوسيع نطاقها وهامشها لتعود إلى حضورها السابق وأكثر، ففي السابق كانت الثقافة مجانية وعامة أو شبه مجانية أو متاحة للجميع. الآن بقدر ما تفاءلنا بإنشاء مراكز ثقافية ومسارح ضخمة، بقدر ما خاب أملنا وعدنا للإحباط، بعدما أنيطت أنشطتها للشركات الخاصة التي تسعى للربح، فلن يتاح للجميع الاستمتاع بالثقافة الرفيعة. إذ أصبح الدخول إلى أي منها مكلفاً للإنسان العادي، وهذه الشركات وفي سبيل الربح، لم تمانع بالاعتماد على الفنون الغنائية السطحية، أو تقديم الندوات ذات الأثر المحدود، فلا يوجد إبداع ولا حضور ثقافي في ظل الخصخصة، وتقييد حرية الإبداع والاطلاع، وتقديم ثقافة الغلو والتشدد الديني المنغلق، على ثقافة التنوير والانفتاح.
* الانشغال بقضايا أخرى
ننتقل بالسؤال إلى الكاتب خلف الخطيمي، عضو مجلس إدارة رابطة الأدباء الكويتيين، ليدلي بوجهة نظره قائلاً: «بكل تأكيد لم تكن الكويت بمعزل عن الحراك الثقافي العربي والإسلامي في طوالع القرن العشرين فقد تشكلت ملامح الحراك الثقافي الكويتي بفكر رائد ورجال أدب ومع إنشاء المدرسة المباركية والأحمدية في بواكير القرن المنصرم وتوافد الأدباء والمفكرين العرب كالشنقيطي. بدأ الحراك الفكري والثقافي يتشكل ويأخذ حيزا كبيرا في حياة المجتمع تبلور في إنشاء النادي الأدبي عام 1924 وبدأت الإرهاصات المسرحية في نفس العام وكذلك تم إنشاء أول مجلة كويتية أسسها الشيخ عبد العزيز الرشيد وأصبح الشأن الثقافي مسارا من مسارات المجتمع والدولة وبعد قدوم الوفود التعليمية العربية للتدريس اتسع الأفق وتوسع الاطلاع والطموح وزاد ذلك ابتعاث الطلبة إلى الخارج في الأربعينات وإنشاء مجلة (البعثة) وتكوين بيت الكويت وصاحب ذلك شخصيات نافذة ذات ثقافة وعلم ومعرفة عززوا التحركات الثقافية والجدير بالذكر أن أول مؤتمر للأدباء العرب كان في دولة الكويت عام 1958».
ويضيف الخطيمي: «هذا من باب الإشارة إلى مكانة الثقافة في الكويت ومكانة الكويت لدى المثقفين العرب التي أصلتها ظهور مجلة (العربي) التي ولدت بطموح وتطلعات القيادة الكويتية في ذلك الوقت ومن ثم وبعد تشكل الدولة المدنية وتأسيس المؤسسات المدنية تم تأسيس رابطة الأدباء عام 1964 وهي الامتداد للنادي الأدبي وكذلك تم تأسيس المسارح الأهلية ونشر المكتبات العامة وظهور المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب كجهة حاضنة للآداب والثقافة والفنون والتراث وبدأ المجلس الوطني في عمله الريادي في عمل الإصدارات الشهرية كسلسلة عالم المعرفة وإبداعات عالمية وفصلية كسلسلة عالم الفكر وكذلك إصدارات تراثية وخاصة غير منظمة مواكبة للمناسبات الثقافية ومما لا شك فيه أن خطة الثقافة العربية قد كتبت بدولة الكويت وبدعم كامل من المؤسسات الثقافية الكويتية وكانت وما زالت جميع الإصدارات الثقافية والأدبية والتراثية توزع وتقدم بتكاليف رمزية ومدعومة دعما مباشرا من المؤسسات الكويتية إيمانا من الكويت بالدور العروبي والخط الثقافي الملازم لذلك النهج ففي طبيعة الحال عندما يكون السياسي مثقفا ينحاز للثقافة والمثقفين ومن خلال هذا الانحياز يبرز الدور الثقافي وأثره على الدولة والمجتمع».
ويضع الخطيمي اللوم على ما وصفه بـ«الانشغال السياسي عن الثقافة الإسلامية والعربية والكويتية»، ويتابع: فالقضايا السياسية والاقتصادية والتوازنات الإقليمية أشغلت متخذي القرار عن أهمية الثقافة ودورها، فمن الضروري بل من التجلي في العمل السياسي أن يكون السياسي مثقفا وكذلك ينسحب هذا الأمر على كل المجالات فرؤيتي للمستقبل الثقافي أنه متى ما كان القرار بيد مثقف كانت الثقافة بخير ومتى ما تولى قرار الثقافة والأدب من لا يعي الثقافة والأدب سيكون التهميش نصيب الأدباء والمثقفين.



«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند
TT
20

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

يحفل تاريخ الشعرية العربية بهاجس الارتحال، فقد كانت الرحلة غرضاً رئيسياً ومركزياً من أغراض الشعر العربي، واحتلت الناقة رمزيتها في تراثنا الشعري بصفتها رفيقة السفر. وسرعان ما انتقلت الرحلة من غرض شعري إلى موضوع سردي، وبدأت المدونة السردية العربية تتوسع في أدب الرحلات، بصفتها وسيلة للمثاقفة والانفتاح على العالم الخارجي واكتساب وعي جديد بالعالم، عبر زيارة مدنه المختلفة، دون الاكتفاء بالمكان الأصل، أو مسقط الرأس، ودون الانكفاء على الذات.

أصبح لدينا تراث لا بأس به من أدب الرحلات، ذي التاريخ الطويل والممتد، عربياً وعالمياً؛ فهو قديم وراسخ، وله رموزه في الثقافة العربية، ولعل أشهرهم ابن بطوطة. وفي الأدب الحديث مدونة ممتدة تنتمي إلى هذا النوع، وإن كان أغلب رموزه من الرحالة الرجال، فالرحلة وتدوينها ظلت قروناً حكراً على الرجل، الذي تسمح له الثقافة وتقاليدها بمفارقة المكان، والتجول خارجه بقدر أكبر من الحرية، بينما ظلت المرأة حبيسة «الديار»، وإن قُدّر لها مغادرتها فإنها تغادرها في ظل رجل وحمايته، وظل هذا ممتداً على العصر الحديث، فأغلب من كتبوا في أدب الرحلة كانوا رجالاً.

هذه القاعدة الثقافية الذكورية، تخترقها الكاتبة والمترجمة المصرية أميمة صبحي، في كتابها «كشتبان: الأم التي طارت»، الصادر في القاهرة عن «دار العين» والذي ينتمي إلى أدب الرحلات، ونجد فيه رحلة ممتدة لأسابيع عدة داخل الهند، تخوضها امرأة هذه المرة، على خلاف الأعراف والسنن الأدبية والثقافية، لكنها لا تخوضها بمفردها، بل بصحبة طفليها «عالية» و«نوح».

تخوض أميمة الرحلة بصفتها أماً عزباء، حتى إنها طوال رحلتها من مدينة هندية إلى أخرى، ومنذ وصولهم إلى المطار في نيودلهي، كانت تواجه أسئلة مثل: أين الزوج؟ وهل أنتم بمفردكم بلا رجل؟ فبدت هذه الأسئلة عابرة للحدود والثقافات والقوميات، أسئلة تستنكر وتندهش من قدرة امرأة على أن تأخذ أطفالها في رحلة عقب انفصالها، وكأنها بالطلاق تفقد أهليتها وصلاحيتها للحياة، ومن ثم للطيران والتحليق بعيداً.

شيَّدت الكاتبة كتابها بشكل خطي، ففصوله تأخذ عناوين المدن التي زارتها بالترتيب، وكل فصل يتكون من مقاطع سردية عدة، بدءاً من العاصمة نيودلهي، مروراً بمدن جراكبور، وفارناسي، وكلكتا، وبوبانسوار، وتشيناي، وكوتشي، ومونار، وشاطئ تشيراي، وجايبور وأجرا، ثم نيودلهي مرة أخرى، في رحلة دائرية تنتهي من حيث تبدأ. في كل مدينة تحرص الكاتبة على أن تخوض رحلتها الخاصة، بعيداً عن مخططات شركات السياحة، فقد كانت مهمومة برؤية الحياة الهندية، ومعايشتها، ليس بعيون سائحة، بل كي ترى الواقع هناك بعيون تقترب بأقصى درجة ممكنة من عيون السكان الأصليين، فكانت تستخدم وسائل المواصلات المحلية العادية، وتسير في الحواري والأزقة لتحتك بالهنود العاديين، حتى إنها في المدينة الأخيرة التي زارتها اكتفت بالمكوث أياماً عدة في بيت ريفي، وسط الفلاحين الهنود، هي القاهرية، ابنة المدينة، التي لم تزر ريف مصر كثيراً.

صاحبت المؤلفة في أجرا الأبقار والماعز، حتى إنها تصالحت مع الحشرات، والعنكبوت الذي كان يسبب لها رعباً في بيتها. ومن الملامح المهمة أن القاهرة ظلت حاضرة طوال الوقت في عقلها أثناء رحلتها، فهي المرجع الذي تحيل إليها كل شيء، وتجري مقارنات دائمة بين أي شيء تراه في المدن الهندية ومثيله في القاهرة، فبدت مسكونة بمدينتها الأم، وتحملها داخلها في رحلتها، تماماً كما كانت تحمل طفليها.

حرصت الكاتبة في كل مدينة زارتها على أن تحتك بالناس وتحكي عنهم، عن عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم، حتى إنها قطعت نحو 252 متراً سيراً على الأقدام طوال رحلتها. تحكي أحياناً بخفة ظل وسخرية واضحة عن محاولات النصب التي تعرَّضت لها من بعض الهنود، متصالحة مع فكرة أن النصابين موجودون في كل مكان في العالم، في القاهرة كما في نيودلهي، ولا داعي لإغفال هذا الملمح أو تجاوزه في تفاصيل رحلتها.

وإضافة إلى هذه الوصف للناس والأماكن والآثار التاريخية، هناك ملمح مهم حرصت على إثباته، وهو الملمح المعلوماتي المعرفي، فكثيراً ما تتوقف الكاتبة عن الوصف لتسرد تاريخاً معيناً، سواء تاريخ مبنى ما مثل الحصن الأحمر، أو هوا محل، أو تاريخ صناعة ما وتحولاتها، مثلما سردت تاريخ صناعة التوكتوك المنتشر في الهند، أو حتى تواريخ شخصيات سياسية، مثلما حدث عندما سردت معلومات عن رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي وعلاقتها بابنها سانجاي.

في هذا الكتاب الضخم (370 صفحة)، لن نجد مجرد ارتحال مكاني، من مصر إلى الهند، ولا مجرد زيارة المعالم السياحية والأثرية الشهيرة فقط، بل إن الكاتبة على مدار رحلتها في المكان، ترتحل وبشكل أكبر وأكثر بنيوية داخل ذاتها، لتعيد تطبيع علاقتها مع نفسها، ومع فكرة الأمومة. إنها رحلة أسرة، أم وطفليها، إلى اكتشاف الروابط العميقة التي تربطهم ببعضهم، وتجسير الهوة بين الطرفين، وترميم الشقوق التي سبق ونشأت بينهما وقت إقامتهم في القاهرة داخل بيت واحد آمن، فكان السفر وسيلة لاكتشاف العالم من جهة، ومن جهة أخرى، وبشكل أكثر جذرية، اكتشاف ذواتهم.

تقول المؤلفة: «كل موقف صعب نمرّ به، يتبعه سد شقٍ بيننا، لنعود مرة أخرى وحدة واحدة»، وهو ما يحيل إلى عنوان الكتاب «كشتبان»، وهو اسم آلة معدنية يرتديها عازفو الآلات الوترية لتحمي أصابعهم أثناء العزف، فالكاتبة ترى أن الأمومة لا بد لها من كشتبان، ليحمي الكاتبة من ضغوط الأمومة، وأحياناً ترتدي هي وأبناؤها هذا الكشتبان ليحميهم جميعاً من العالم الخارجي.

الرحلة هنا لها ثلاثة مسارات، الأول: إلى الهند مكاناً ومزاراتٍ وثقافةً، بما تنطوي عليه من تعددية دينية وثقافية مدهشة. الثاني: رحلة إلى الذات، لتخفف الكاتبة مما يثقلها ويكبلها، ويربطها بالأرض، لاستعادة أجنحتها التي اقتلعتها الثقافة والتقاليد، لتحلق مرة أخرى إلى ذاتها المحبة غلى السفر والتنقل والاكتشاف. الثالث: رحلة الأم إلى أطفالها، ورحلتهم إليها، رحلة عائلة معاصرة نحو اكتشاف مفهوم الأسرة، ورحلة المرأة الكاتبة إلى التصالح مع الأمومة، فتمنح نفسها فرصة إعادة التعرف إلى أطفالها، وتمنحهم - في المقابل - الفرصة نفسها لإعادة اكتشافها والتعرف إليها.

وجاء هذا الوعي بتعدد المسارات واضحاً في عقل الكاتبة قبل وأثناء الرحلة، فتقول: «ربما لم أعرف الصغيرين بشكل جيد، وإنهما بالتأكيد لا يغرفانني، خاصة وأنا منخرطة تماماً في عجلة الحياة اليومية، كأم عزباء عاملة، تربي أطفالها بمفردها معظم الوقت. وإن هذه الرحلة فرصة نادرة لرؤية بعضنا البعض، ولإعادة اكتشاف أنفسنا أثناء اكتشافنا للمدن، حاولت هنا أن أستحضر نفسي بنفسي أمامهما، وأتركهما يتعرفان إليّ كما يريدان، وأراهما أنا كما لم أفعل من قبل».

لذا؛ لم يكن غريباً أن تشعر الكاتبة وهي تتجه عائدة للمطار أنها «خفيفة وسعيدة»، بعد أن شعرت بالتئام الشقوق والتصدعات التي بينها من ناحية وبين طفليها من ناحية أخرى. الرحلة وتدوينها ظلا قروناً حكراً على الرجل الذي تسمح له الثقافة وتقاليدها بمفارقة المكان