فنانة مصرية تنحت «دنيا» من بقايا أخشاب عتيقة

سماء يحيى حولتها إلى أيقونة بصرية ممتعة

فنانة مصرية تنحت «دنيا» من بقايا أخشاب عتيقة
TT

فنانة مصرية تنحت «دنيا» من بقايا أخشاب عتيقة

فنانة مصرية تنحت «دنيا» من بقايا أخشاب عتيقة

بقطع مهملة وعشوائية من مخلفات الأبواب والشبابيك وأسقف البيوت القديمة وسقط متاع البيئة، تقدم الفنانة سماء يحيى مغامرة بصرية شيقة وصعبة في فن النحت على الخشب، احتضنها معرضها «دنيا» الذي تستضيفه حاليا قاعة حامد عويس بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، قاطعة من خلاله شوطا تشكيليا لافتا في خلق جسور للحوار، ونوافذ إدراك جديدة مفتوحة بحيوية وحب على نسيج الهوية المصرية، في تراثها الخصب ومخزونها الحضاري القابع في الوجدان الاجتماعي والشعبي.
تكمل هذه التجربة حلقة مهمة في سعي الفنانة الدءوب إلى تطوير لغتها التشكيلية وأسلوبها الفني، عبر مسالك وعرة، تروّض فيها خامة خشنة وشرسة، وتعالجها بحلول وطرق ابتكارية، تذهب أبعد من استخدام الأدوات التشكيلية المعتادة، وخوض مغامرة الرسم والنحت في سياق كلي بالجسد والروح والحواس والخيال معا. هذه المغامرة وصفها الفنان القدير عصمت دواستاشي عقب افتتاحه المعرض يوم الخميس الماضي، بـ«الثرية والمدهشة»، قائلا في كلمة كتبها بأوتوغراف المعرض: «تفوقت الفنانة سماء يحيى على نفسها في عرائسها الخشبية المستوحاة من عرائس المولد التي نراها مجسمة بتقنيات بسيطة متقنة لأول مرة في ساحة التشكيل العربي، وتفوقت في معلقاتها على قماش الخيامية بالوجوه المصرية لبنت البلد وشاطئ النيل وأشرعة المراكب».
يختزل هذا المعرض ثلاث مراحل من التجريب خاضتها الفنانة بعين شغوفة باختراق الأشكال، واكتشاف إثر تلاقحها مع بعضها البعض، عبر تبادل الأدوار ووضعها في اختبارات ومفارقات تشكيلية، بحثا عن حلول جمالية، تضيف أفكارا ورؤى جديدة للوحة لم تكن متوقعة من قبل.
في معرضها «فرحة» وعلى قماش الخيامية بزخمه التراثي الزخرفي، أعادت اختبار رسومها التي قدمتها في معرضها السابق «ساعة مغربية»، وقدمت حلولا ومعالجات فنية لافتة، خصوصا في التعامل مع عجائن الألوان والأصباغ والأحبار، وكسر البرواز كإطار خارجي للوحة، ما ذكّرنا بفكرة «المعلقة الخشبية» القديمة، حيث بدت اللوحات أشبة بالستائر الخفاقة الحنونة، تنظم بعفوية وبداهة، الضوء وحركة الظلال المسقطة عليها من الخارج لتحفظ للكائن بخصوصيته في الداخل.
لم تكد تمضي بضعة أشهر على هذا المعرض، حتى وسعت الفنانة من مشهد ولعها بالتراث مضيفة إليه مجسمات خشبية مستوحاة من عرائس المولد وعُرضت التجربة لفترة قصيرة تحت عنوان «هنا عرايس بتترص»، رافقتها أشعار بالعامية المصرية تصب في هذا الاتجاه للشاعر ماجد يوسف. لكن هذا المعرض شابه الارتجال والتجميع، وافتقد إلى حد كبير فكرة الانسجام الفني حتى بين أقصى العناصر تنافرا، لكن ما يحسب له أنّه كشف عن الحلقة التائهة في مغامرة الفنانة وشهد ميلاد فكرة صندوق الدنيا كبؤرة إيقاع محورية، تربط بين كل عناصر المعرض.
أدركت الفنانة أن الحلقة التائهة - حسبما أتصور - تكمن في كيفية خلق معادل فني لتلقائية فنون التراث في اللوحة، وهو ما اشتغلت عليه بدأب وحب في هذا المعرض، متفوقة على نفسها، كما قال دواستاشي. فاستفادت من تجربتها كرسامة، في إدخال عنصر التلوين برشاقة في جسد النحت، وبإيقاع فني حافظ على فطرية الخامة، واكسبها في الوقت نفسه، علاقة حية مغايرة مع مثيلاتها من المنحوتات، بعيدا عن التكرار ونمطية التشابه. فنحن إزاء مجسمات نحتية معجونة بطفولة الحياة والفن، تحلق في فضاء مفتوح لا تحده أبعاد معينة، كما أنّها تطرح في حراكها الفني منظومة متناغمة على مستوى العلاقة والأشكال.
من أبرز سمات هذه العلاقة أنّها استطاعت باقتدار ومهارة أن تخلق حالة من النغمية البصرية، تتواشج في إيقاعها ملامح وجوه العرائس وملامح ووجوه البنات المرسومة على قماش الخيامية، وكأنّهما ظل للآخر، أو زمنه الهارب من عبثية الواقع إلى براح اللوحة.
كما تبرز حالة من السمو والرفعة والمرح في ملامح العرائس، إنّها عرائس طموحة، وحرة، لا تعرف الانحناء والنكوص.
في هذا الجو يتوسط «صندوق الدنيا» بسمته الشعبية الأصيلة، ساحة المعرض كضابط إيقاع وحمّال حكايات ململما الظلال والانعكاسات التي تحدثها المنحوتات الأخرى وتلك المتناثرة فوق سطح الرسوم على قماش الخيامية.
لقد حولت سماء يحيى صندوق الدنيا الخشبي، من كونه مجرد خدعة بصرية تعرض أشرطة لصور مسلية يلهو بها الصغار، تُشاهد بواسطة ثقب معتم، إلى أيقونة بصرية طافرة بألوان زاهية ومشمسة ورسومات تعبيرية موحية تتنفس روائح مفعمة بالحياة مشربة بعلامات وإشارات ورموز شتى، حتى أنّك تحسّ وأنت تشاهده بأنه يتحرك وأنك تمشي بداخله وأنه يوشك أن يطير.

عرائس من المعرض - الفنان عصمت داوستاشي في حوار مع سماء يحيى عقب افتتاحه المعرض - من رسومات الخيامية بالمعرض («الشرق الأوسط»)



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».