تقنيات الرسم الضوئي وفنون النحت في 13 ورشة عمل سعودية

«مسك آرت» يخلّد ذكرى رواد الفن التشكيلي في المملكة

طفلة موهوبة ترسم إحدى لوحاتها («الشرق الأوسط»)
طفلة موهوبة ترسم إحدى لوحاتها («الشرق الأوسط»)
TT

تقنيات الرسم الضوئي وفنون النحت في 13 ورشة عمل سعودية

طفلة موهوبة ترسم إحدى لوحاتها («الشرق الأوسط»)
طفلة موهوبة ترسم إحدى لوحاتها («الشرق الأوسط»)

تعرف زوار مهرجان مسك آرت الذي تنظمه مؤسسة محمد بن سلمان بن عبد العزيز «مسك الخيرية»، على أرض منتجع «درة الرياض» شمال العاصمة، على تقنيات الرسم الضوئي وفنون النحت وتأسيس العمل الفني بألوان الأكريلك، من خلال 13 ورشة عمل نُظّمت في اليوم الأول من المهرجان الذي انطلق أول من أمس.
وتضمنت الفعاليات ورشة عمل عن فن الزخرفة الهندسية أقامتها مدرسة الأمير تشارلز في لندن، فيما ناقشت ورشة عمل أخرى الفرق بين الاتجاه الواقعي والتجريدي في العمل الفني، قدمتها الجمعية السعودية للفنون التشكيلية بواسطة المدرب محمد مجرشي.
وقدّم الفنان التشكيلي البريطاني بن بربور وهو أمين متحف يقيم في قطر منذ العام 2011، ورشة عمل عن مفهوم تصميم الأعمال والمنحوتات الفنية العامة، وهي ورشة تهتم بتعليم المشاركين كيفية صناعة التصاميم والرسومات للأعمال الفنية العامة، وتحويل الفكرة إلى منحوتة باستخدام مواد وأدوات مختلفة. وتتضمن المشاريع الفنية لابن بربور، مشروع ميراج للأعمال الإنشائية المركبة هائلة الحجم المصممة خصيصاً كي تُعرض في مواقع معينة، وكذلك مشروع الوكرة الموازي الجديد في قطر.
وتطرقت ورشة قدمها عبد العزيز العمري من الجمعية السعودية للفنون التشكيلية إلى كيفية «تأسيس العمل الفني بألوان الأكريلك»، إضافة إلى ورشة الرسم الضوئي من تقديم الفنان الغرافيتي كريم جباري الذي بدأت رحلته الفنية وهو في عمر 12 عاما.
وتضمنت ورش العمل ورشة نحت المجسمات من العمارة الإسلامية قدمتها الفنانة الإسبانية تيريسا استيفان التي تحدثت عن خصائص فن العمارة الإسلامية، وكيف يصنع المشاركون رسومات لمنحوتات من العمارة الإسلامية، والطرق الممكن للمشاركين أن ينفذوا بها أعمالهم باستخدام الطين والجبس.
وقدمت الفنانة منال الشريعان ورشة التقنيات الحديثة في ألوان الأكريلك، فيما شاركت جمعية الثقافة والفنون في تقديم الكثير من ورش العمل كورشة «الخط نزهة العيون» التي قدمها بدر الجفن، ومن النادي التشكيلي تحدث عبيد البراك في ورشة عمل بعنوان «سكب اللون على اللوحة»، إضافة إلى ورشة الشرائط اللاصقة التي قدمها فريق تيب أوفر الألماني.
وأسهمت الفنانة البريطانية راشيل غادسدن عبر ورشة عمل «الرسم التشكيلي»، في تعليم المشاركين كيفية صناعة رواية شخصية تُجسّد داخل العمل الفني، ويختار المشاركون الأدوات والمواد المناسبة للتعبير عن هذه الرواية، كما ينفذ المشاركون العمل الفني بحيث يصنع كل مشارك قطعة من عمل فني متكامل وجماعي.
وأسهم المهرجان في تخليد ذكرى مؤسسي الفن التشكيلي في السعودية، ومن أبرزهم الراحلان محمد السليم وعبد الحليم رضوي، وذلك بعرض لوحتين للفنانين تعودان لسبعينات القرن الماضي.
وكان الفن التشكيلي في السعودية بدأ رحلته في ستينات القرن الماضي. واستعاد المهرجان عبر «جادة مسك آرت» تلك المرحلة في لفتة وجدت الترحيب من الحضور الذين لطالما سمعوا عن مؤسسي ذلك الفن، ولكن لم يسعفهم الحظ في الاطلاع على تفاصيل رواده. حضرت إحدى لوحات الفنان التشكيلي الراحل محمد السليم الذي رسمها عام 1979، وبجوارها لوحة أخرى للفنان الراحل عبد الحليم رضوي رسمها في عام 1971، وهما من مؤسسي الفن التشكيلي في المملكة وراسمي خريطته.
وفي الشق الخلفي للحائط الذي يبرز لوحة الفنان السليم تشارك الفنانة التشكيلية نجلاء السليم ابنة الراحل بلوحة تشكيلية عصرية. تقول نجلاء إنّها كانت ترسم بذات النسق الذي عرفته عن والدها إلا أنّها تطورت مع تصاعد الأدوات الفنية المستخدمة في الرسم التشكيلي.
ولفتت لوحة تشكيلية الأنظار في المهرجان، رسمتها فنانة صغيرة لا يتجاوز عمرها 10 سنوات تدعى فهدة العواجي، بسبب الفكرة العميقة التي أرادت من خلالها لفت النظر إلى رؤية السعودية 2030 التي تسعى لتعزيز الاقتصاد وتعضيد الصناعة وتقليل الاعتماد على النفط.
وقفت العواجي إلى جانب لوحتها لتشرح قصة الفكرة، اعتمدت في رسمتها تلك على مجموعة من الأفكار، اتخذت من سكة القطار طريقا لتحقيق الرؤية من خلال الرقمين 2 و3. موضحة أنّها بدأت الرسم وهي في الخامسة من العمر.
وفي مكان ليس ببعيد عن ركن العواجي، انتظم 400 من أقرانها الأطفال المولعين بالفنون في المنطقة المخصصة لهم حيث كان بانتظارهم ورش عمل تدريبية في كيفية صنع أعمالهم الفنية بأنفسهم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)