أحدث دراسات علم النفس تحلل خصائص الشخصية البشرية

شخصيات سلطوية بـ«رؤية ضيقة»... وأخرى لا تلتزم بالمواعيد

أحدث دراسات علم النفس تحلل خصائص الشخصية البشرية
TT

أحدث دراسات علم النفس تحلل خصائص الشخصية البشرية

أحدث دراسات علم النفس تحلل خصائص الشخصية البشرية

كثير من الموظفين يفكرون أحيانا بماذا يدور في أذهان رؤسائهم، إلا أنهم لا يستطيعون إلا التكهن بذلك. ويقول باحثو علم النفس إن السلطة التي تتبدى في كل مظاهر الحياة... من إدارة مشروع تجاري أو قطاع العمل، إلى ترؤس جلسات المحاكم وإدارة المدارس، وبالطبع إدارة الدولة، تطبع بصماتها على الشخصية، لأنها توفر النفوذ والموارد للتحكم بالآخرين. ولذا ظل الفلاسفة والعلماء يتمعنون في خصائص الشخصية السلطوية منذ القدم.
* شخصيات سلطوية
وتقول آنا غينوت الباحثة الأقدم في علم النفس التجريبي في جامعة «يونيفرسيتي كوليدج لندن» التي أجرت تحليلا علميا لعدد من الأبحاث على الشخصية السلطوية شملت دراسات نفسية وعصبية وإدارية على مدى 15 سنة ماضية، أن نتائجها تفترض أن السلطة تنشط خصائص التفكير، والحديث والخطابة، والأفعال، إذ يتكلم «أصحاب السلطة» أكثر وهم يقاطعون المتحدثين الآخرين ويعبرون عن رغباتهم أكثر من الآخرين. ولذا فإن السلطة تضاعف إرادة التعبير الشخصية.
ونشرت الباحثة دراستها أخيرا في مجلة «أنيوال ريفيو أوف سيكولوجي». وشمل التحليل أبحاثا تجريبية في ظروف المختبر ودراسات ميدانية لرصد خصائص شخصيات المديرين والموظفين في مختلف المؤسسات، ودراسات أخرى حول تفاوت خصائص الهيمنة لدى العاملين. وفي إحدى تلك الدراسات العشوائية ظهر أن الشخصية السلطوية تطمح أكثر للتحدث عن نفسها، ويبدو أصحابها وكأنهم يمتلكون اهتمامات أكثر من غيرهم. وفي تلك الدراسة وضع متطوعون في مجموعة من «الحكام» للحكم على ما يفعله أفراد مجموعة أخرى من «العاملين». كما أظهرت دراسة غينوت أن «أصحاب السلطة» هم من أصحاب المبادرات الذين يضعون أعينهم على أهداف محددة، إذ يكونون عموما من أوائل من يتخذون القرارات في مختلف الظروف سواء الطارئة، أو أثناء المفاوضات الجارية خارج العمل. وهم يعملون بجد للوصول إلى أهدافهم وتنفيذ رغباتهم.
ويتناغم السلطويون مع أدوارهم لأن أكثر أهدافهم ترتبط بدورهم في السلطة. وعلى سبيل المثال فقد طلبت دراسة أجريت في 15 دولة من المديرين التنفيذيين سرد أهدافهم المهمة، وظهر أن توسع ونمو المشروع التجاري أو قطاع العمل كان أهم الأهداف، تلاه استمرارية قطاع العمل وتحقيق الربح، وجاءت العلاقات الأسرية في المرتبة الأخيرة.
وتتجه الشخصية السلطوية غالبا للتركيز على عواطف وأحاسيس معينة في اندفاعها لتنفيذ أهدافها ورغباتها وذلك بمنح نفسها الجوائز - مثل تناول الطعام اللذيذ أو تحقيق المتع الأخرى، ولذا يكون «أصحاب السلطة» من أكثر الممارسين للخيانة الزوجية.
وأظهرت نتائج التحليل أن الشخصية السلطوية تكون أكثر تفاؤلا ومستعدة لركوب الأخطار. أما الجانب المظلم من هذه الشخصية فيتمثل في أنها تندفع بقوة للحفاظ على موقعها في السلطة، وهي تؤكد دوما بالأحاديث أو الإشارات على جوانب كفاءتها، وذلك بتوجيه الخطابات الواثقة أو الظهور من دون تكلف، وملء حيز أكبر مما تحتاجه.
وعندما تواجه أنانيتهم الداخلية بالتهديدات - مثلا عندما توجه الانتقادات لقلة الكفاءة، أو عند حدوث القلاقل، فإن أصحاب السلطة يعيدون أحكام هيمنتهم ولو بظاهر العدوانية. وخلصت الباحثة البريطانية إلى أن السلطة عموما تزود أصحابها بطاقة أكبر لتنفيذ أهدافهم. إلا أن أصحاب السلطة يتجهون إلى تنفيذ أمر واحد بدلا من تنفيذ عدة أمور في آن واحد. ولذا فإن لديهم «رؤية محددة لتنفيذ الأهداف» أي ضيق الرؤية أو ما يسمى «رؤية النفق»، الأمر الذي يمنعهم من التدقيق في المعلومات المهمة الأخرى التي لا يعبأون بها.
* شخصية المواعيد المتأخرة
وفي دراسة بريطانية أخرى اعتبر ألفي كوهن الباحث في سلوك الإنسان أن الأشخاص الذين يتأخرون عن مواعيدهم لا يبالون بمشاعر الآخرين. وقال في دراسة نشرت في مجلة «سيكولوجي توداي» إن «شخصيات المواعيد المتأخرة» يمكن إدراجها ضمن ثلاث مجموعات: الأولى - القلة من الناس الذين يحبون الظهور، ويأتون متأخرين لكي يلتفت إليهم كل الحضور، مثل النساء اللواتي يلبسن آخر أزياء الموضة ويحضرن حفلا كبيرا، والثانية -اللا أباليون، والثالثة الذي يتأخرون دوما مهما حاولوا القدوم في موعدهم. ويقول كوهن إن المجموعة الأخيرة هي من الأفراد يصلون عادة غير مرتاحين ومنزعجين، وهم يبدون وكأنهم كانوا مشغولين بأمور أخرى ولذلك لا يكتشفون تأخرهم إلا بعد فوات الميعاد. ويطرح باحثون آخرون مثل إميلي والدون ومارك كاكدانيل من جامعة واشنطن الأميركية نظرية تقول إن تركيبة الدماغ ربما تكون مسؤولة عن بعض أسباب التأخر في المواعيد. وأظهرت تجاربهم أن بعض الأفراد ربما يصبحون مستغرقين أكثر من غيرهم في أعمال مثل متابعة مسلسل تلفزيوني أو متابعة الشبكات الاجتماعية، أكثر من الآخرين.
إلا أن علماء آخرين يعارضون هذه النظرية ويعتبرون التأخر في المواعيد جزءا من الشخصية أو ربما يرتبط بتركيبة الدماغ وبخصائص الشخصية أيضا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)