مشروع «مكتبات المقاهي» في المراكز التجارية احتفالاً بـ«شهر القراءة»

ظاهرة ثقافية جديدة في المجتمع الإماراتي

القراءة مع فنجان القهوة («الشرق الأوسط») - أنواع الكتب («الشرق الأوسط»)
القراءة مع فنجان القهوة («الشرق الأوسط») - أنواع الكتب («الشرق الأوسط»)
TT

مشروع «مكتبات المقاهي» في المراكز التجارية احتفالاً بـ«شهر القراءة»

القراءة مع فنجان القهوة («الشرق الأوسط») - أنواع الكتب («الشرق الأوسط»)
القراءة مع فنجان القهوة («الشرق الأوسط») - أنواع الكتب («الشرق الأوسط»)

يرى مشروع «مكتبات المقاهي» في عدد من المراكز التجارية المنتشرة في أنحاء الإمارات، النور من خلال المبادرة التي أطلقتها وزارة الثقافة وتنمية المعرفة أمس. وكانت المقاهي الأدبية قد دشنت في دبي من خلال المشروع الذي أطلقه الكاتب الإماراتي جمال الشحي بافتتاح «كتّاب كافيه» التابع لدار النشر التي يشرف عليها.
استجابت مقاهي «ستاربكس» المنتشرة في أنحاء الإمارات لهذه المبادرة، فزُوّدت بركن خاص يحتوى مجموعات متنوعة من الكتب والإصدارات الحديثة؛ لإتاحة المجال أمام الزوار للاستمتاع بالقراءة في كل الأوقات، وذلك ضمن فعاليات الوزارة في «شهر القراءة»، على أمل أن تنضّم لها المقاهي الأخرى.
يأتي افتتاح «مكتبات المقاهي» تنفيذاً لما تضمنه المرسوم بقانون رقم 18 للعام 2016، بشأن القراءة، وتطبيقاً للاستراتيجية الوطنية للقراءة في إنشاء «ركن للقراءة في المقاهي بالمراكز التجارية».
كما يهدف المشروع إلى تعزيز الشراكة ما بين القطاعين الحكومي والخاص لتشجيع الأفراد وجذبهم إلى ممارسة القراءة بالمقاهي التي تعد مركز تواجد الفئات المختلفة للمجتمع.
أوضحت عفراء الصابري، وكيل وزارة الثقافة وتنمية المعرفة لـ«الشرق الأوسط»، أن مشروع «مكتبات المقاهي» الذي أطلقته الوزارة أمس، هو جزء من الخطة الاستراتيجية الوطنية للقراءة في أهمية توفير مواد القراءة المناسبة لكل فئات المجتمع، وتوفير المرافق المخصصة للقراءة، مشيرة إلى أنّ المشروع بدأ بتزويد عدد من مقاهي «ستاربكس» بالمراكز التجارية، على أن يُضاف عدد جديد من المقاهي للمشروع على مدار العام، لافتة إلى أنّ الوزارة ترحب بمشاركة كل المقاهي في المراكز التجارية الراغبة في الانضمام للمشروع.
وأضافت الصابري أنّ مشروع «مكتبات المقاهي» جاء برعاية ومتابعة من الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير الثقافة وتنمية المعرفة، الذي أكّد بدوره أهمية إنشاء أركان للقراءة في مقاهي المراكز التجارية في الدولة في إضافة ثقافية يمكن أن يستفيد منها روّاد تلك المقاهي من الأسر، رجالاً ونساء وأطفالاً على اختلاف اهتماماتهم، وبما يحقق الهدف من هذه التجربة وهو توفير الفرصة أمام أفراد المجتمع لتنمية عادة القراءة لديهم.
من المعروف أنّ لهذه المبادرات دوراً بارزاً في تعزيز ثقافة القراءة، من خلال إسهامها في توفير جو عام يساعد ويحفز عليها، ومن هنا تأتي أهمية توافر الكتب في أماكن التجمعات لتحفيز الرغبة في القراءة؛ لأن وجود هذا الركن سيثير فضول مرتادي المقاهي فيدخلون للاطلاع على هذا العالم الساحر، وهذا ما تهدف إليه الاستراتيجية الوطنية للقراءة، وتوفّره مشاريع القراءة التي أطلقتها الوزارة خلال المرحلة الأخيرة.
حرصت الوزارة على توفير عدد كبير من الكتب في كل المجالات، العلمية والثقافية والاقتصادية والفنية وذات الموضوعات الشيقة لتكون عامل جذب للجمهور.
تسعى «مكتبات المقاهي» إلى توفير فرص القراءة بجميع الأوقات، وإلى خلق ظاهرة ثقافية جديدة في المجتمع الإماراتي، وجعل استغلال كل الأوقات في القراءة عادة يومية بشكل متنامٍ؛ مما يجعل انتشار أركان الكتب والمكتبات في المقاهي مكوناً رئيساً في إنشائها، ويجعل من مقاهي المراكز التجارية أحد روافد الحراك الثقافي والفكري، وليست لقضاء أوقات الفراغ بعيداً عن نمطية المكتبات العامة، ومكتبات المؤسسات التعليمية والثقافية.
وتؤكد هذه المبادرات على تجديد الصلة بالكتاب والقراءة عبر المؤشرات الأولية التي تشير إلى وجود حالة من التفاعل الإيجابي مع تجربة «بنك الكتاب» التي أطلقتها الوزارة في جميع مراكزها ولدى الشركاء والهلال الأحمر، وأيضاً إنشاء وإطلاق مشروع المؤلفين الشباب وغيره من المشروعات؛ وهو الأمر الذي يشجع على اكتشاف المواهب، كما يشجع أيضاً على القراءة، والارتقاء بالقطاع الثقافي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)