«اللاشعور» ما قبل فرويد وما بعده

تجميد حركية المفاهيم هو سير عكس طبيعة الأشياء

«اللاشعور» ما قبل فرويد وما بعده
TT

«اللاشعور» ما قبل فرويد وما بعده

«اللاشعور» ما قبل فرويد وما بعده

حينما ينفجر مفهوم في لحظة تاريخية محددة وفي حقل معين، فإنه لا ينبثق فجأة وبشكل مباغت، بل يكون قد تم الإعداد له على نار هادئة. بمعنى آخر نقول إن المفهوم ليس شيئاً يسقط كوحي على عقل عبقري نحته وأطلقه للوجود، بل هو يتشكل في مرجل التاريخ، بحيث نجد له جذوراً وأصولاً مهدت له وأسهمت في إخراجه إلى حيز الوجود، أو لنقل بكلمة أوضح، إن كل مفهوم هو بالضرورة كائن تاريخي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن انطلاق المفهوم وتشكل دلالته واحتلاله موقعاً وحيزاً في عقول المفكرين، لا يعني أن الأمر انتهى وتم إغلاقه. بل العكس هو الذي يحدث، إذ يأخذ الأمر مساراً آخر. فيتشتت المفهوم كشظايا تصيب ميادين وحقولاً معرفية أخرى، ليكتسب، في النهاية، دلالات مختلفة عن المعنى الأصلي للحقل الذي انفجر فيه أول مرة. إن المفهوم إذن، له لحظة انطلاق تكون عبارة عن وعي كامل بدلالاته وصلاحياته للفهم والتفسير. لكن هذا المفهوم ليس مبتوراً، بل متجذر في الماضي، وله إرهاصات سابقة عليه سمحت بظهوره، وفي الوقت نفسه، له امتدادات في المستقبل، بحيث يجري توظيفه في مجالات متعددة، فندخل فيما يمكن أن نسميه: حقبة هيمنة المفهوم وسيطرته على العقول.
ولكي لا يبقى كلامنا فضفاضاً وعاماً، ولفهم أدق لحركية المفهوم وتجواله وانتقالاته، سنأخذ نموذجاً تمثيلياً هو مفهوم «اللاشعور» الذي شغل بال الفكر المعاصر في القرن العشرين. وسنعتمد بالأساس، على دراسة قام بها الدكتور عبد الرزاق الدواي بعنوان «مفهوم اللاشعور... نماذج من انتقالاته في الفكر المعاصر»، التي جاءت ضمن كتابه «حوار الفلسفة والعلم والأخلاق» شركة المدارس الدار البيضاء، 2004. هنا تفاصيل ذلك:
* ما قبل فرويد
إن كل من يسمع كلمة «اللاشعور»، يستحضر في ذهنه مباشرة، الطبيب والمحلل النفسي الشهير سيغموند فرويد (1856 - 1939). وحقاً، هذا الرجل هو من أعلن بوضوح، تأسيس فرع جديد في علم النفس، جاعلاً اللاشعور النفسي مركزه. كما طور منهجاً متميزاً للكشف عن تجلياته، وكذلك بعض التقنيات لعلاج الاضطرابات النفسية التي تسببها رواسب اللاشعور. لكن على الرغم من كل ذلك، ففي حقيقة الأمر، نجد أن مفهوم اللاشعور لم يظهر بهذه الفجائية في حقل محدد هو التحليل النفسي. بل نجد له تمهيدات في الفلسفة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. ففكرة أن هناك مضمرات وقوى خفية نفسية غائرة وغائبة متحكمة في وعي الإنسان، كانت رائجة، خصوصاً عند الفلاسفة الألمان الذين نبهوا إلى وجود قوى مجهولة وعارمة لها السيادة على السلوكيات الإنسانية، وغالباً ما نسبوها إلى الجانب العضوي الفسيولوجي لدى الإنسان.
وإذا ما أخذنا الفيلسوف والتربوي وعالم النفس الألماني فريدريك هربارت (1776 - 1841)، سنجد أن ظاهرة «اللاشعور»، بل حتى فكرة «الكبت»، كانت متداولة في كتاباته، وإن لم ترقَ إلى مستوى الاستخدام الفرويدي، لكنها كانت مقدمة أولية شكلت اللمسات الممهدة للتحليل النفسي. لقد كان هربارت يرى أن وحدات النفس البشرية وظواهرها، هي «تمثلات» بينها تعارض وصراع يؤدي إلى إقصاء واحدة على حساب الأخرى. بعبارة أخرى، خلال سيرورة الصراع النفسي بين التمثلات، تطغى أفكار وتظهر على سطح «الشعور»، وفي الوقت نفسه، تكبح أخرى، أي تكبت وتقذف في أعماق «اللاشعور». أو لنقل إن هربارت، يرى للتمثلات اتجاهين؛ اتجاه صاعد إلى مستوى الشعور واتجاه نازل إلى مستوى اللاشعور. فيمكن الحديث عن تمثل مستقر في الشعور إذا كان واضحاً ومتميزاً. وبالعكس، يمكن الحديث عن تمثل مستقر في اللاشعور، إذا كان مكبوحاً أو مكبوتاً أي غامضاً. ولعل العارف البسيط ببعض أفكار فرويد، يتبين له كم أن هربارت له السبق بل الفضل في نشأة أهم مفاهيم المشروع الفرويدي، ونقصد «اللاشعور» و«الكبت».
وفي الحقيقة ليس هربارت وحده من تشكلت عنده النواة الأولى لفكرة اللاشعور، بل نجدها عند كثير من الفلاسفة الذين آمنوا بوجود قوة لا شعورية محركة للعالم، نذكر منهم فريدريك هيغل (1770 - 1831)، بفكرته عن «المطلق» كروح محركة للتاريخ، وكذلك شوبنهاور (1788 - 1860)، بفكرته عن «الإرادة» كقوة مجهولة وعارمة وغير معقولة هي مبدأ الوجود. وأيضاً هارتمان (1842 - 1906)، بكتابه «فلسفة اللاشعور»، حيث يجعل من اللاشعور روحاً كونية تسري في كل شيء. ولنقف عند شوبنهاور تحديداً، نظراً لاعتراف فرويد بتأثيره.
تقول أطروحة شوبنهاور إن «العالم المرئي يخفي تحته عالماً أكثر حيوية وأكثر دفقاً. فالحفر تحت السطح سيكشف لنا عن حقل من القوى والغرائز العمياء، وهي دوافع بمثابة سراديب لا واعية. تظهر في الطبيعة الخام كقوة الجاذبية مثلاً، وتظهر كقوة حيوية لدى النباتات والحيوانات، وتظهر عند الإنسان في إرادة بقائه التي ليست بقراره أبداً». هذه الأفكار الداعمة لوجود أعماق لا شعورية، جعلت فرويد نفسه يعترف بسبق الرجل (الفلسفي طبعاً) إذ نجده يقول: «لقد بقيت أعتبر هذه الفكرة (يقصد فكرة الكبت)، جديدة وأصيلة إلى اليوم الذي أطلعني فيه أوتو رانك (تلميذ وزميل لفرويد)، على صفحات من كتاب شوبنهاور (العالم كإرادة وتمثل)، يعرض فيها الفيلسوف تفسيراً لظاهرة الجنون».
وفعلاً، عندما نقرأ بعض نصوص شوبنهاور، نكتشف لمسات واضحة لآلية الكبت التي تتوافق وما قدمه فرويد في نظريته، ومن أمثلة ذلك، نذكر قول شوبنهاور: «عندما تستيقظ فينا بكيفية فجائية إحدى الذكريات الماضية القاسية والمؤلمة، فإننا غالباً ما نعمل على استبعادها في الحين، بطريقة تكاد تكون آلية: إما عن طريق التلفظ بكلام مبهم، وإما بإتيان بعض الإشارات. ونحن نتوهم أننا بهذه الطريقة تمكنا من التخلص منها وإقصائها تماماً».
إننا نعلم أن فرويد يعطي أولوية هائلة للجنس لفهم بعض سلوكيات الإنسان. ولهذا نجده يشير مرة أخرى إلى شوبنهاور باعتباره من الأوائل الذين نبهوا إلى ذلك. فهو بيّن أهمية الغريزة الجنسية، باعتبارها إرادة للبقاء، في شرح كثير من الأشكال السامية من العواطف والعفة والطهارة.
وقبل مغادرة شوبنهاور، لا ينبغي نسيان أن هناك نقطة التقاء أخرى له مع فرويد، تتجلى في إعطاء الأولوية للجسد على حساب العقل، وله قول مأثور في ذلك: «إن الإرادة (يقصد بها الجسد كموطن للغريزة) هي السيد، أما العقل فهو مجرد عبد». فنحن بحسب شوبنهاور، لا نريد شيئاً لأننا وجدنا له أسباباً، بل نحن نجد أسباباً له لأننا نريده. فالعقل مجرد مخطط ومبرمج وباحث عن الاستراتيجيات لبلوغ الرغبة. فهو خادم طيع في يد إرادة البقاء. وهذه كما نعلم، هي خلاصة فرويد الذي أكد أكثر من مرة، أننا مجرد كائنات غريزية مفعول بها، وما يبدو من فاعلية لدى الإنسان، هي، في الحقيقة، مجرد أوهام.
* اللاشعور بعد فرويد
بدأ مفهوم «اللاشعور»، كما رأينا، كحدس وكتأمل فلسفي، في القرن التاسع عشر، ليستقر كتصور واضح في التحليل النفسي، مع مؤسسه فرويد، بل سيصبح اللاشعور وفرويد، وجهين لعملة واحدة. إلا أن هذا المفهوم سيتعرض لتغير دلالي، وسيسافر من عالم النفس ليستغل ويستثمر بطرق متعددة. وهذا ما حدث مثلاً، مع المدرسة البنيوية التي خرجت من اللاشعور النفسي، الذي يحيل إلى الرغبة والكبت والدوافع الغريزية، نحو اللاشعور البنيوي، أي البحث عن البنية العقلية المشتركة المتحكمة في التفكير. فكل طفل يحمل منذ ولادته الرصيد الكلي للإمكانيات أي البنيات الذهنية الأولية. وهذا ما حاول كلود ليفي ستروس (1908 - 2009) تأكيده، معلناً أن أشكال الثقافات البشرية تصدر عن الأصل نفسه، أي عن إمكانيات لا شعورية لعقل بشري له هوية ثابتة دوماً. فالطبيعة البشرية الخام، هي رقعة الشطرنج، لكن هناك صيغاً من اللعب لا تنقطع هي الثقافة. باختصار، يريد ستروس بإنتروبولوجيته البنيوية، أن يثبت أن الفكر قد بدأ بالطبيعة قبل الإنسان، ومن ثمة نحن نشتغل وفق برمجة سابقة علينا. وهذا ما سمح له بأن يعلن أن الحرية محال، وسقف إمكاناتنا محدد ومؤطر سلفاً. ولنقل إن هناك لا شعوراً بنيوياً متحكماً في الاجتماع البشري.
وبالطريقة أعلاه، سيوجه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1929 - 1984)، مفهوم «اللاشعور» وجهة معرفية، بنحته مفهوم «الإبستمي»، ويقصد به ذلك النظام الخفي المستثمر بصمت أثناء الممارسة العلمية، الذي يحدد شروط المعرفة في حقبة تاريخية معينة، التي بمقتضاها يعترف لخطاب عن الأشياء بأنه الحقيقة، فهو نظام لا أحد يفكر فيه ولكن يخلق شروط التفكير. ولقد استخدمه فوكو بمرادفات متعددة، كالنسق، والبنية، وفضاء للتنظيم والأرضية الإبستمولوجية، وشروط الإمكان وأوليات تاريخية. وكلها تجمع على معنى واحد، هو أن هناك «لا شعوراً معرفياً»، أي ذلك المستوى المتخفي والعميق، وتلك الطبقة التحتية التي تشكل شروطاً قبلية لإنتاج المعرفة في زمن ما. وهو ما عبر عنه أيضاً، الفيلسوف توماس كون (1922 - 1996) بـ«الباراديم»، وهو مفهوم يدل على النموذج الموجه أو الإطار النظري والأساس المضمر الذي يسمح بطرح المشكلات وطرق حلها عند متحد علمي ما. بعبارة أخرى فـ«الباراديم» يعني مجموع القواعد والمسلمات والمفاهيم والأدوات التي يتحرك من داخلها العلماء. فالعلماء ينظرون إلى الواقع بعين هذا «الباراديم». فهو بمثابة الخلفية التي تسمح برؤية دون أخرى. ولنقل ببساطة، إن العلماء يشتغلون وفق لا شعور معرفي.
نخلص إلى أن المفاهيم ليست ملقاة أو جاهزة أو نتاج عبقرية معينة، بل هي لها تاريخ وجذور. تبدأ حدسياً وتأملياً، ثم تتضح وتنجلي مع مرور الوقت في حقل محدد. لتنتقل بعد ذلك، إلى بقية الحقول وإن بدلالات مختلفة، إذ تكسو المفاهيم طبقات جديدة من المعاني، تجعلها أكثر إجرائية. لهذا نقول لمن يجمد المفاهيم، إنه يسير عكس المنحى الطبيعي للأشياء. فليتدبر.



هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.