السينما ومهرجان الأسئلة

تبقى غائبة في السعودية رغم طفرة غير مسبوقة في الترفيه

مشهد من فيلم «دعوة» المشارك مهرجان «أفلام السعودية» بالدمام
مشهد من فيلم «دعوة» المشارك مهرجان «أفلام السعودية» بالدمام
TT

السينما ومهرجان الأسئلة

مشهد من فيلم «دعوة» المشارك مهرجان «أفلام السعودية» بالدمام
مشهد من فيلم «دعوة» المشارك مهرجان «أفلام السعودية» بالدمام

افتتح هذا الأسبوع في الدمام، شرق المملكة العربية السعودية، مهرجان الأفلام السعودية، ومع افتتاحه يمر عام آخر تعود معه الأسئلة التي باتت مملة بقدر ما هي ممضة، الأسئلة التي طرحتها العام الماضي في هذا المكان والتي باتت مملة بتكرارها وممضة بأجوبتها الغائبة. ففي كل عام حين تعشب الأفلام نسأل، على طريقة السياب (حين يعشب الثرى نجوع). نسأل ويسأل من حضر ومن لم يحضر: أفلام بلا دور سينما؟ أفلام بلا صناعة سينمائية؟ أفلام بلا معاهد للسينما؟ ليجد الساخرون فرصتهم لحبك النكات، والجادون أساليبهم لتقديم الأعمال والهروب من الإجابات.
ذلك أنه لا توجد إجابات شافية. هناك إشاعات، الكثير منها. قال لي أحد الدبلوماسيين الأجانب في الرياض مؤخراً: سمعت أن أحد «المولات» الكبيرة التي تبنى في الرياض يهيأ ليضم صالات للعرض السينمائي، فقلت وأنا مثلك سمعت ذلك. لكن الكل سمع ولم ير فعلاً. سمعوا إشاعات لا تصريحات. ويبدو أن القادر على التصريحات خائف من التصريح، من غضب الشارع المسافر أبداً إلى دبي والبحرين إن هو قال لن يكون هناك سينما، ومن غضب المتشددين المتزمتين إن هو قال: السينما قادمة. وللفريقين مبرراتهما في القلق والترقب، فنحن نشهد الآن في السعودية طفرة في الترفيه غير مسبوقة، وإلى وقت قريب غير متوقعة، بل مستبعدة. لكن الحفلات الغنائية جاءت فعلاً، وعاد معها المغنون المغتربون ليملأوا القاعات في الرياض وجدة بالغناء وجيوبهم اليمنى واليسرى بأموال المعجبين والمعجبات ممن كانوا ولا يزالون يتنافسون على التذاكر في الخليج، ومن كن لا يتركن فرصة لحضور عرس فيه هذه المطربة أو تلك، مهما هبط غناؤها وعلا ضجيجها أو نشز صوتها.
لكن السينما كانت ولا تزال عصية على المجيء. تسبقها الإشاعات وتحيط بها، تخلقها وتنفيها، تُفرح البعض بها وتُغضب البعض الآخر. أناس يرونها جزءاً طبيعياً وبسيطاً من متع الحياة، فناً جاداً أو هازلاً لكنه مسلٍ ومبهج تعرفه الدنيا كلها، مسيحيها ومسلمها، يهوديها وبوذيها، عربيها وأوروبيها، لكن هناك من قرر ألا يراها السعوديون في بلادهم وكأنها معابد للشيطان. وهي بالفعل معابد في نظر أولئك الذين يتوقعون أن تزلزل الأرض بنا فينقص ما لدينا من فائض الطهر والنقاء والبراءة، أن نفقد جلودنا الملائكية وما تكتنز به شوارعنا من استقامة وفضيلة إن الناس اجتمعوا في مكان واحد، نساءهم ورجالهم، صغاراً وكباراً، ليشاهدوا محمود عبد العزيز، أو سعاد حسني، أو شوارزنيغر، أو غيرهم. ستكون السينما، في قلق أولئك، كارثة أخرى تحل بالبلاد والعباد مثلما حل من قبل تعليم البنات، ومثلما حلّت الفضائيات فانحلت بحلول ذلك الأخلاق التي كانت قمة في النقاء والصلاح.
مهرجان الأفلام الذي يعود إلى الدمام وفي رحاب الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون لم يسمه القائمون عليه «مهرجان السينما» لسببين فيما يبدو لي: الأول أنه لا توجد سينما بالمعنى الثابت ثبات الصناعة والمؤسسات والعلوم، والثاني، أن مصير ذلك المهرجان سيكون في مهب الريح إن استعملت تلك المفردة التي تهتز لها الأبدان وتقشعر النفوس. وأذكر في هذا السياق أن وزارة الثقافة والإعلام حين جربت قبل سنوات أن تقدم عروضاً سينمائية وثائقية في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض أطلقت عليها «عروضاً مرئية». وكافٍ بتلك المراوغة اللفظية دلالة لا تزال تتكرر في أفقنا الثقافي المرتعد أبداً أمام كل متمظهر بالإيمان، ومتمنطق بالتقوى، على طريقة أولئك الذين هجاهم المتنبي حين قال: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.
حين ابتدأت هيئة الترفيه نشاطها في الرياض مؤخراً - والرياض هي دائماً الأكثر إرعاباً لكل راغب في ترفيه علني - وأرادت أن تكون باكورة ذلك حفلة غنائية عمد المسؤولون إلى مغنين أقل شهرة وإلى اسم أقل استفزازاً هو: «نغمات ثقافية». ومن يبتسم أو يسخر عليه أن يكون في مكان أولئك المسؤولين وما يجابههم من شتائم ودعاء واستهزاء ليرى حجم المعاناة التي يواجهونها في نشر نشاط فني هو أبعد ما يكون عن الإسفاف أو المجون، لكن الأمور تظل نسبية بطبيعتها. فما هو بريء وبسيط أو حتى ثقافي سيكون ماجناً في نظر من يرى الحياة بعين التجهم والصرامة.
مهرجان الأفلام سيحفل في دورته الرابعة بالكثير من الإبداع الذي يجب أن نفخر به. فقد تقدم إلى المهرجان، حسب تصريح مديره الشاعر الرائع أحمد الملا، 252 فيلماً قصيراً قبل منها 148. كما قبلت سيناريوهات بلغت 89، وستتنافس هذه إلى جانب الأفلام والممثلين على جوائز المهرجان التي شكلت لها لجان سعودية وخليجية مع مشاركات دولية. ومما يبهج أن المهرجان يحفل بحضور نسائي كثيف على مستوى المشاركات السينمائية وفي لجان التحكيم، وكذلك على مستوى الحضور والمشاهدة، وهذا بحد ذاته مصدر اعتزاز في بلاد تحاول قدر الإمكان أن تعزز من الفرص المتاحة للمرأة لصياغة مستقبل الثقافة.
ولا شك أن من أسباب التقدير لهذه الجهود هو أنها تتم في مصادمة للريح ومقاومة لقوى التثبيط المتمثلة بقلة الدعم. فجمعية الثقافة والفنون السعودية هي من أقل المؤسسات في تلقي الدعم، سواء الحكومي أو الخاص، فهي تمضي باليسير وأقل منه لتقدم ما لم تستطع مؤسسات ثقافية محلية تكتنز حساباتها بالملايين لكن دون نشاط موازٍ أو منافس. ويتفوق فرع الجمعية بالدمام على الكثير من الفروع الأخرى في حجم الإنجاز، مستفيداً من النشاط الجماعي الذي يقوده مدير الفرع أحمد الملا ليس في مهرجان الأفلام فحسب، وإنما في مهرجانات متوالية للمسرح والشعر والطفل وغير ذلك من الفنون.
ما ينبغي إلا أنهي هذه الملاحظات دون ذكره هو أن مهرجان الأفلام، مثل غيره من المهرجانات التي تقيمها جمعية الثقافة والفنون، يقدم ثقافة جادة، وبالتالي مختلفة تماماً عن السينما في وجهها الترفيهي المحض. الناس تنتظر الترفيه بطبيعة الحال وليس الثقافة ومعهم كل الحق في ذلك. لكن ذلك سيبقي مثل هذا المهرجان والنشاط الإبداعي الذي يغذيه مختلفاً ومطلوباً حتى إن جاءت دور السينما، وهناك خشية من ذبوله أو حتى انتهائه إن انصرف الناس حتى الجادون منهم إلى المسلي بدلاً من العميق والخفيف بدلاً من الجاد. ذلك العميق والجاد هو الذي قد يؤسس لصناعة سينما بعيدة عن الاستهلاك التجاري في المولات، لأفلام تعبر عن الإنسان عامة المواطن بشكل خاص، أحلامه وآلامه، فرحه وحزنه، تأملاته وهمومه. ومن هنا يجدر بالمؤسسة الثقافية السعودية أن تولي مهرجاناً كهذا عنايتها ففيه تنبت المواهب وتُصقل القدرات ويتبلور الفن الحقيقي القادر على صناعة الترفيه إلى جانب الثقافة.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!