«سنار» السودانية تضيء مشعلها «عاصمة للثقافة الإسلامية»

بمشاركة التويجري وإمام الحرم المدني ووفود من عواصم إسلامية

سنار القديمة
سنار القديمة
TT

«سنار» السودانية تضيء مشعلها «عاصمة للثقافة الإسلامية»

سنار القديمة
سنار القديمة

كأن شاعرها الراحل محمد عبد الحي حين كتب قصيدته «العودة إلى سنار» قبل سنين كثيرة كان يستبصر أنها «سُرّة المعرفة والثقافة»، وأنهم مهما تجاهلوها فهم حتماً سيعودون لإحياء سيرتها الوضيئة، وكأنه كان يتنبأ بأن المدينة الخصيبة التي جمعت السودان ذات يوم، سيعاد لها الاعتبار بعد تجاهل طويل.
ومصداقاً لنبوءة «العودة إلى سنار»، أعلن في الخرطوم أمس عن «تدشين» مدينة سنار السودانية (زهاء 300 كيلومترا جنوب الخرطوم) عاصمة للثقافة الإسلامية في الرابع والعشرين من الشهر الحالي.
وأعلن أمين الأمانة العامة لـ«سنار عاصمة الثقافة الإسلامية 2017» أحمد عبد الغني حمدون، أمس، أن المهرجان الذي يتوقع أن تشارك وفود إسلامية من 7 دول، إضافة للمدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إسيسكو) عبد العزيز بن عثمان التويجري، وإمام الحرم المدني، سيدشن رسمياً في الرابع والعشرين من الشهر الحالي.
ووفقا لحمدون، فإن عام الثقافة الإسلامية سيشمل ما سماه «الفضاء السناري» الممتد بمساحة السلطنة الإسلامية السنارية من شمال الخرطوم حتى جنوب ولاية سنار ومركزه مدينة «سنار التاريخية»، وإن الفعاليات بدأت أول من أمس في منطقة «قري» شمال الخرطوم، وإن موكباً سينطلق من هناك وآخر من النيل الأزرق ليلتقيا في سنار.
واختيرت سنار عاصمة للثقافة الإسلامية وفقاً لمقررات المؤتمر الإسلامي السادس لوزراء الثقافة المنعقد في باكو بأذربيجان في أكتوبر (تشرين الأول) 2009، والذي اعتمد لائحة عواصم الثقافة الإسلامية للفترة من 2015 – 2024، وللاحتفاء بسنار عاصمة للثقافة الإسلامية 2017. ويعد الاختيار إضافة حقيقية للرصيد التاريخي والثقافي للسودان، وامتدادا طبيعيا للدور الذي يلعبه في الحفاظ على الثقافة الإسلامية على مدى التاريخ، الذي مثلت فيه مملكة سنار الإسلامية علامة مضيئة في رفع راية الإسلام والحفاظ على الموروث الإسلامي.
ويبدأ المهرجان في 24 مارس (آذار) الحالي، ويستمر حتى 22 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو امتداد لفكرة العواصم الثقافية التي سنتها المنظمة عام 2005 لإحياء دور تلك المدن الثقافية.
وتأسست سلطنة سنار عام 1504 بتحالف بين قبائل الفونج في جنوب وشرق النيل الأزرق، ويقودهم عمارة دنقس، وقبائل العبدلاب بقيادة عبد الله جماع، وأسسوا مملكة إسلامية عرفت بعدة أسماء؛ منها «مملكة الفُونج»، و«السلطنة الزرقاء»، و«الدولة السنارية». ويقول وزير الإعلام أحمد بلال عنها: «الفضاء السناري كان تعويضاً لما فقده المسلمون في الأندلس، وتحديا لاستعادة التاريخ العظيم والاعتزاز به».
وسلطنة سنار أول مملكة عربية إسلامية قامت في بلاد السودان بعد انتشار الإسلام واللغة العربية فيه، واهتم ملوكها بالعلم وأقاموا رواق السنارية في الأزهر الشريف لاستيعاب طلاب المملكة، وشجعوا هجرة علماء الدين الإسلامي إلى السودان للدعوة ولنشر العلم. وانتشرت في ربوع سنار خلاوي (كتاتيب) تحفيظ القرآن ودراسة الفقه وعلوم اللغة العربية والحساب.
وبدأ رئيس الأمانة العامة البروفسور يوسف فضلاً متباهياً بمدينته، وقال: «سنار كانت الحاضنة الأولى للهوية السودانية، وهو الشيء الذي دفع وزير الثقافة وقتها محمد أبو زيد لترشيحها عاصمة للثقافة الإسلامية»، وأضاف: «لسنار ثلاثة أبعاد؛ بُعد أفريقي، وبعد عربي، وبعد إسلامي، تكاملت لتنتج دولة سنار التي ورثت الحضارات القديمة وأدارت التنوع السوداني الثقافي والعرقي والإثني والديني»، وأضاف: «سنار كانت بداية تحول في تاريخ التطور السوداني».
ووفقا للبروفسور يوسف، فإن العام يستهدف عقد 12 مؤتمرا، أنجز منها 5 حتى الآن، وطباعة ونشر 350 عنوانا وكتابا، وإتاحة منح دراسية لدراسة سنار وفضائها الحضاري.
من جهته، فإن والي سنار الضو الماحي بدأ مثل «أم العروس» ليلة عرس ابنتها، وأعلن للناس بقوله: «جاهزون لاستقبال الحدث»، وتعهد بإعادة تقديم نموذج دولة سنار التاريخية، أما وزير الثقافة بولاية الخرطوم يوسف الدقير، فقد أعلن للناس أن ولايته تمثل الركن الشمالي من «الفضاء السناري» وأنها ستشارك بفعالية في المناسبة.
وقبيل إشعال مشعل الثقافة في الفضاء السناري، قال وزير الثقافة الاتحادي الطيب حسن بدوي، إن مهرجان سنار؛ بوتقة الثقافة، بدأت مرحلته الأولى، وتنطلق المرحلة الثانية بعد الافتتاح، والمرحلة الثالثة تستمر من الافتتاح حتى نوفمبر المقبل، وإن وزراء الثقافة في الدول الإسلامية سيجتمعون في مؤتمر اليونيسكو العاشر بالخرطوم في نوفمبر المقبل، ثم سيشاركون في ختام فعاليات «سنار عاصمة الثقافة الإسلامية».
وجاء اختيار مصطلح «الفضاء السناري»، كأنه استلهام لقصيدة شاعر سنار وابنها النبوءة: «الليلة يستقبلني أهلي... أهدوني مسبحة من أسنان الموتى... إبريقاً جمجمة... مصلاة من جلد الجاموس... رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس... لغة تطلع مثل الرمح من جسد الأرض... وعبر سماء الجرح».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».