اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

ارتياح أوروبي عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات العامة

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد
TT

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

كان الطقس بديعا للغاية. شمس مشرقة، ونسمة ربيع حانية، وطبيعة خلابة في هولندا، في يوم التصويت لاختيار أعضاء البرلمان، وهو طقس مخالف تماما لما كان عليه في اليوم الذي سبقه... وكأن الظروف المناخية أرادت أن تلعب دورا في تشجيع المواطنين على الخروج للتصويت. وبالفعل، سجلت نسبة إقبال كبيرة وصلت إلى 80 في المائة، وهي نسبة لم تسجل في هولندا منذ سنوات طويلة.
ومن ثم، حمل إعلان النتائج أخباراً جيدة للغاية، ليس فقط للهولنديين سواءً من سكان البلاد الأصليين، أو من المهاجرين من أصول إسلامية، بل أيضاً للأوروبيين. إذ فاز الحزب الليبرالي بقيادة رئيس الحكومة مارك روتي محتلاً المرتبة الأولى، بينما حل حزب الحرية اليميني المتطرف الذي يقوده خيرت فيلدرز المناهض للإسلام في المرتبة الثانية.
يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة في هولندا بعد الانتخابات العامة التي أجريت هذا الأسبوع مفاوضات صعبة وطويلة لتشكيل ائتلاف حكومي جديد. ولقد علق كثير من المراقبين على ما شهدته معركة الانتخابات من تطورات مختلفة.
وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط» قال نور الدين العمراني، الإعلامي والباحث في قضايا الأقليات في هولندا، معلقاً: «لأول مرة في تاريخ الانتخابات الهولندية، ومنذ 30 سنة، فاقت نسبة مشاركة الناخبين نسبة الـ80 في المائة. ولأول مرة في التاريخ البرلماني شارك الشباب الهولندي بكثافة في عملية التصويت لاختيار نواب برلمانيين للظفر بالكرسي الأزرق بالبرلمان. وبالتالي، اختيار ممثلي الحكومة المقبلة». وتوقع العمراني أن تتقدم الأحزاب الفائزة إلى مشاورات أو مفاوضات «ماراثونية» لتشكيل حكومة ائتلافية سيكون مكوّنها الأكبر الحزب الليبرالي برئاسة روتي، المرشح الآن لفترة رئاسية ثالثة.
أمام التهويل السياسي والإعلامي المراهن على فوز المتطرف فيلدرز، الذي تقدم للانتخابات بورقة شعبوية كبرنامج انتخابي، اندفع الهولنديون إلى إعطاء أصواتهم لليبراليين في تصويت ضد الكراهية والتحريض. مع العلم بأن ورقة فيلدرز التحريضية كرّرت التعبير عن مواقفه الداعية إلى منع تداول القرآن الكريم، وإغلاق الحدود بوجه المهاجرين واللاجئين، والتصدي لما يسميه «أسلمة المجتمع الهولندي».
لقد قال الشعب كلمته، وتلقى الزعيم المتطرف صفعات متتالية ليلة إعلان النتائج. ولكن، في المقابل، كانت هذه الانتخابات قاسية جداً على حزب العمل (يسار الوسط) الذي فقد مقاعد كثيرة ودفع ثمناً سياسياً باهظاً نتيجة دعمه للإصلاحات السياسية والاقتصادية لليبراليين. أما حزب اليسار الأخضر الذي يقوده جيسه كلافر - ذو الأصول المغربية - فقد استطاع أن يعيد للحزب مكانته الطبيعية كمكوّن يساري يدافع عن المحرومين من هولنديين ومهاجرين على حد سواء. وحصل حزب «دينك» Denk ذو المرجعية الإسلامية والأصول المغربية والتركية على ثلاثة مقاعد، مستفيداً من دعم الناخبين من المهاجرين وبالذات المسلمين، وعلى رأسهم أولئك الذين غضبوا من حزب العمل، الذي كان أحد الأحزاب التي كانت تشكل التحالف الحكومي لسنوات عدة.
بيت فان در ليندن، رئيس «منتدى هولندا للجميع»، قال في مكالمة هاتفية ردا على سؤال يتعلق بقراءة النتائج: «إن الانتخابات كانت صعبة وعصيبة، وعلى الرغم من أننا لا نتفق وسياسة الحزب الليبرالي، فإننا نشكر الشعب الهولندي على اختياره أهون الشرين (السيئ لا الأسوأ). لقد قطع الشعب الهولندي الطريق على الشعبويين، وهذه إشارة واضحة للدول الأوروبية المقبلة على الانتخابات كألمانيا وفرنسا. إن على هذه الدول أن تأخذ الدرس من التجربة الهولندية».
من ناحية ثانية، وفق النتائج التي أوردتها وكالة الأنباء الهولندية، للمعركة الانتخابية البرلمانية، حصل الحزب الليبرالي بقيادة رئيس الوزراء روتي على 33 مقعدا، في حين حصل حزب العمل (يسار الوسط) الحليف والشريك في الائتلاف الحكومي على 9 مقاعد فقط، خاسراً ما لا يقل عن 29 مقعداً.
وفي تعليق على هذه الهزيمة المزلزلة، قال زعيم حزب العمل لودفيك آشر، إن ما حدث لحزبه «مأساة». وكان واضحاً حسب المحللين، أن الحزب فقد ولاء كثيرين من ناخبيه الطبيعيين، ولا سيما من المهاجرين، وبخاصة المغاربة الذين تذمروا من سياسة الحزب المحابية لليمين والمتعلقة بالمس بتعويضات الأرامل وتعويضات الأطفال في المغرب. ويشير المحللون إلى أن هذا الحزب عرف تاريخيا بوقوفه مع مصالح العمال، هولنديين وأجانب، بيد أنه في السنوات الأخيرة فقد هويته الاجتماعية الديمقراطية بعد انسحاب رموز تاريخية من قياداته، وتنكر القيادة الحالية لتاريخ الحزب ونضاله.
أما حزب الحرية بقيادة المتطرف فيلدرز، الذي كان يطمح لاحتلال الصدارة، فإنه حصل على 20 مقعداً فقط بزيادة 5 مقاعد فقط عما كان لديه في البرلمان السابق. وكان واضحاً أنه على الرغم من التهويل الإعلامي والسياسي لماكينة الحزب الدعائية، فإنه أخفق في كسب ثقة الناخبين. وعلقت الممثلة الهولندية المشهورة كارين بلومن على هزيمة فيلدرز وحزبه بالقول: «تقدم إلى الانتخابات بورقة انتخابية واحدة. إنه يستبلد الشعب الهولندي، وعلينا ألا نعيره أي اهتمام».
وبعكس متطرفي اليمين، عاد حزب اليسار الأخضر بقوة إلى الواجهة، ويعود جزء من الفضل إلى دور زعيمه جيسه فراس كلافر (والده مغربي) وعمره 30 سنة، ونجاحه في إقناع الشباب بممارسة حقهم الانتخابي، وهو ما لم يتحقق منذ ثلاثين سنة، حيث فاقت نسبة المشاركة 81 في المائة، وهذا رقم زرع الثقة في السياسة الهولندية التي كان ينظر إليها على أنها ستقع فريسة الشعبويين اليمينيين. ولقد حصل اليسار الأخضر على 14 مقعداً بزيادة 10 مقاعد عما كان لديه في البرلمان السابق.
أما المفاجأة الكبرى فهي حصول حزب «دينك» Denk – وتعني الكلمة «فكّر» باللغة الهولندية و«مساواة» باللغة التركية – الذي يدعمه المهاجرون الأتراك والمغاربة بثلاثة مقاعد لأول مرة في تاريخه. وذهب أحد المقاعد الثلاثة للمغربي فريد أزرقان. ووفق المحللين استطاع هذا الحزب، مثل حزب اليسار الأخضر، استمالة الناخبين الغاضبين الذين كانوا في السابق يصوتون لحزب العمل.
ويرى بعض المحللين أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وطالب فيه مواطنيه والمهاجرين المسلمين في هولندا بألا يصوتوا للحزب الحاكم أو للعنصريين المتطرفين، ساعد هذا الحزب الصغير على وضع اسمه على الخريطة السياسية.
وعلى صعيد آخر، توزّعت المقاعد الأخرى أحزاب تقليدية كالحزب الديمقراطي المسيحي (19)، وحزب الديمقراطيون «د 66» (19)، والحزب الاشتراكي (14)، وحزب الاتحاد المسيحي (5). أما الأحزاب الصغيرة فقد حصلت على ما يتراوح بين مقعد و4 مقاعد، كحزب الحيوانات، والشيوخ، ومنتدى الديمقراطيين. وثمة أحزاب أخرى يمينية ودينية كحزب «يحيا عيسى» لم تحصل على أي مقعد.
حضر لتغطية الانتخابات التشريعية 300 صحافي ومراسل وممثل لوكالات من كل القارات الخمس. وكان الإعلام المغربي هو الغالب الأكبر رغم وجود نحو 400 ألف مغربي عانوا الأمرين من التصريحات العنصرية التي كان وراءها المتطرف فيلدرز.
ولقد شارك أبناء الجالية المسلمة في هولندا في التصويت والترشح في القوائم الحزبية. أما عن كيفية التصويت ونوازعه فهناك معايير للاختيار من وجهة نظر البعض من المراقبين. ويقول نور الدين العمراني: «إن العاطفة تلعب دورا كبيرا في اختيارات الناخب المهاجر المتحدر من أصول إسلامية وعربية، وهو يعتمد على العامل الديني أو الثقافي في تحديد الاختيارات، في حين يصوت المواطن الهولندي العادي انطلاقا من التأثير السياسي والإعلامي».
من جهة أخرى، ليس خافياً أن البعض نظر إلى هذه الانتخابات على أنها اختبار للمشاعر المناهضة لمؤسسة الحكم وللهجرة، وجاءت وسط خلاف حاد مع تركيا، وشكوك حول مستقبل الاتحاد الأوروبي.
وأمام لجنة للتصويت في بلدية سلوتن مير، غرب العاصمة أمستردام، رصدت «الشرق الأوسط» آراء الناخبين بعد الإدلاء بأصواتهم. وكما قال العمراني، الناخبون المسلمون ركزوا على اختيار الأشخاص من العرب والمسلمين في قوائم الأحزاب، بينما اعتمد الناخبون الهولنديون الآخرون في اختياراتهم على برامج الأحزاب.
ناخب تركي في العقد الثالث من عمره، كان برفقته طفله الصغير (دون 3 سنوات) قال لنا: «جئت اليوم لأمارس دوري في التصويت بالانتخابات، واقترعت لمرشحة تركية». وقال رجل في الخمسين من عمره متحدر من أصل مغاربي: «صوتت لحزب العمل؛ لأنه يضم أشخاصا من أصول عربية وإسلامية ويعملون لمصلحة المسلمين في هولندا». وقال ناخب ثالث، وهو هولندي ستيني ليس من أصول عربية أو مسلمة، عندما سألناه: «الطقس جميل وساعد ذلك على إقبال أعداد كبيرة... وأنا أعطيت صوتي للحزب الاشتراكي لاقتناعي بأن برنامج الحزب يلبي طموحاتي». وأردف: «أتمنى ألا ينجح فيلدرز المتشدد». بينما قال رجل عربي يتحدث الهولندية: «أعتقد أن هناك تبايناً في المواقف. هناك بعض المساجد دعت إلى التصويت لحزب (دينك) الإسلامي لمواجه خطط اليميني فيلدرز».

ماذا يقول المرشحون؟
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت مرشحة من حزب «دينك»، عايشة غول كليتش: «حزبنا أسس قبل سنتين، ولدينا الآن ممثلون في البرلمان. ونحن ندعو إلى مجتمع مشترك يسمح لكل شخص بأن يحتفظ بهويته، ونرفض أن يكون هناك مقياسان. إننا ننادي بعكس ما ينادي به فيلدرز. وأرجو من المواطنين عدم التأثر بالاستطلاعات، واختيار المرشح حسب البرنامج الذي يطرحه».
ومن جهة أخرى حاولت «الشرق الأوسط» التعرف على تأثيرات الأزمة بين تركيا وهولندا على تصويت الناخبين، فقال لنا لوك ورينغا، رئيس «المركز الاجتماعي لملتقى العقائد» في أمستردام: «أي من الأحزاب الهولندية لم تشأ التورط في هذا الخلاف الذي وقع قبل أيام قليلة مع تركيا. وأنا كهولندي أرى أن (الرئيس التركي) إردوغان أراد عرض عضلاته بإرسال وزيرة شؤون الأسرة إلى هولندا، بعد رفض هبوط طائرة وزير الخارجية التركي في وقت سابق».

الارتياح الأوروبي
أما بالنسبة للمواقف الأوروبية، فأشارت التقارير الإعلامية الأوروبية في بروكسل، إلى أن معظم الأوروبيين تنفسوا الصعداء عقب الإعلان عن فوز روتي في الانتخابات الهولندية، لا سيما أنه كانت هناك مخاوف جدية لدى البعض من تحقيق فيلدرز مفاجأة على غرار تصويت «بريكست» في بريطانيا. وبالفعل، تلقى روتي التهاني من كثير من القيادات والعواصم الأوروبية. في حين قال روتي مساء الأربعاء، عقب انتهاء التصويت وإعلان النتائج: «في هذا المساء أيضا قالت هولندا، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانتخابات الأميركية: لا للنوع الخاطئ من الخطاب الشعبوي». ومن ثم، تلقى رسائل تهنئة من بعض الزعماء الأوروبيين وتحدث إلى بعضهم هاتفياً، بينما حقق «اليورو» مكاسب بعدما أشارت النتائج إلى انتصار روتي الواضح وهزيمة فيلدرز.
وكان في طليعة المرحبين الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، كما كتب وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت في تغريدة له: «أهنئ الهولنديين على وقف صعود اليمين المتطرف». وفي ألمانيا، كتب بيتر ألتماير، رئيس مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في تغريدة على موقع «تويتر»: «هولندا... يا هولندا أنت بطلة! أهنئك على هذه النتيجة العظيمة».
هذا، ويمكن القول إن هذه الانتخابات شكلت اختباراً مهماً حول ما إذا كان الهولنديون يريدون إنهاء عقود من الليبرالية واختيار مسار قومي مناهض للمهاجرين. وكانت النتائج الإيجابية لدعاة الانفتاح مبعث ارتياح لأحزاب التيارات السياسية الرئيسية في أوروبا، خاصة في فرنسا وألمانيا، حيث يأمل اليمينيون القوميون في تحقيق مكاسب كبيرة في انتخابات البلدين هذا العام، وهو ما يمكن أن يمثل تهديدا لوجود الاتحاد.
وحسب الاستطلاعات، من المتوقع أن تصل مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية في مايو (أيار) المقبل، بينما يرجح أن يحصل حزب «البديل من أجل ألمانيا» المناهض للمهاجرين والاتحاد الأوروبي على مقاعد في البرلمان الألماني للمرة الأولى خلال الانتخابات التي تجري في سبتمبر (أيلول) المقبل.
إلا أن الخبيرة بالشؤون الأوروبية، الباحثة لويز هون، في جامعة «بروكسل الحرة» ببلجيكا، قالت: «نحن نعتقد فعليا أن استخلاص العبر من الانتخابات الهولندية يفيد بأن الهولنديين يرفضون التطرف. غير أن هذه النتائج لا تعكس كل أوضاع المتطرفين في أوروبا، نسبة لما ذكرناه من دقة النسبية في القانون الانتخابي الهولندي. ولو كان الاقتراع منحصراً بين مارك روتي وخيرت فيلدرز فقط لربما كانت النتائج مغايرة تماماً. نعتقد أيضا أن الانتخابات الهولندية برهنت على أن أسئلة جديدة باتت في صلب الحملات الانتخابية، من بينها الهجرة واللجوء... وهذه الأسئلة طرحتها كل الأحزاب، التقدمية منها وغير التقدمية». وتابعت: «الخضر أيضا في هولندا أحرزوا تقدما كبيرا، بينما ضعف حزب العمل الذي لم يتناول إلا شؤونا قديمة التداول، ولاحظنا شبه غياب للأسئلة المتعلقة بالشأن الاقتصادي لهولندا. هذا يعني بالإجمال أن الموضوعات مركزة حول الهجرة واللجوء وأزمة اللاجئين. هذا يعني أن الأحزاب الشعبوية المتطرفة مثل حزب مارين لوبان وحزب البديل في ألمانيا، سيستخدمون بقوة هذه الموضوعات في حملاتهم الانتخابية».

وماذا الآن؟
أخيراً، لم يطل الوقت بعد إعلان النتائج في هولندا، حتى تحركت التخمينات بشأن شكل الائتلاف الحكومي الجديد. ذلك أنه عقب إعلان النتائج، قال رئيس الوزراء الفائز مارك روتي، إن عملية التفاوض حول تشكيل حكومي جديد ستكون صعبة، وربما تستغرق فترة طويلة، لكنه أبدى استعداداً للتحالف مع الديمقراطيين. أما فيلدرز فقال في تغريدة على «تويتر»، إن حزبه كان يحتل المرتبة الثالثة، واليوم يحتل المرتبة الثانية، وفي الانتخابات القادمة سيصل للمرتبة الأولى. وأضاف أنه كان يتوقع أن يحصل على 30 مقعداً، ولكنه يعتبر نفسه فائزاً لزيادة عدد مقاعد الحزب.
البعض تحدث عن إمكانية تشكيل ائتلاف من الديمقراطيين مع الحزب الليبرالي، ولكن مع دعم من حزب آخر، ربما يكون اليسار الأخضر أو الاتحاد المسيحي. وفي هذا السياق، قال رئيس حزب «الديمقراطيون 66» ألكسندر بيختولد، إن «الإمكانات كثيرة لتشكيل تحالف، لكن الأمور تتوقف على الحزب الليبرالي الذي له المبادرة، باعتباره صاحب العدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب». وأشار بيختولد إلى إمكانية تشكيل ائتلاف يضم حزبه مع الحزب الليبرالي، وأيضا الحزب الديمقراطي المسيحي، ومعهم يمكن إضافة اليسار الأخضر أو الاتحاد المسيحي لتحقيق الأغلبية المطلوبة في البرلمان. وهذا يعني ائتلافاً واسعاً، من دون أن يكون بالضرورة متجانساً.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.