جسر الموسيقى المصرية ـ الفنلندية يغمر القاهرة والإسكندرية بالروائع الكلاسيكية

في عامه العاشر بمشاركة عازفين من البلدين ومعرض فوتوغرافي

معرض الصور الفوتوغرافية الفن الصخري  -  شعار احتفالية جسر الموسيقى المصرية الفنلندية
معرض الصور الفوتوغرافية الفن الصخري - شعار احتفالية جسر الموسيقى المصرية الفنلندية
TT

جسر الموسيقى المصرية ـ الفنلندية يغمر القاهرة والإسكندرية بالروائع الكلاسيكية

معرض الصور الفوتوغرافية الفن الصخري  -  شعار احتفالية جسر الموسيقى المصرية الفنلندية
معرض الصور الفوتوغرافية الفن الصخري - شعار احتفالية جسر الموسيقى المصرية الفنلندية

تزامناً مع احتفال فنلندا بمرور مائة عام على استقلالها، احتضنت دار الأوبرا المصرية ومعهد الموسيقى العربية بالقاهرة، حفلين موسيقيين بعنوان «جسر الموسيقى المصرية الفنلندية» للعام العاشر على التوالي بمشاركة نخبة من الفنانين العالميين، بقيادة المايسترو وعازف البيانو رالف جوتوني، وعازف الفيولينة مارك جوتوني، والمخرجة المسرحية والأوبرالية آيا تالبو، وماتي سارينين، رئيس أكاديمية سافونيلينا، وعازف البيانو كريستيان آتيللا، بمشاركة عازفة التشيللو الأميرة اليابانية يوكو ميغاوا، وعازف الفيولا الهولندي إميل كانتور، والميتزوسوبرانو أنيتا أولينكاري من الدنمارك، بمشاركة فرقة أوبرا القاهرة وأوركسترا القاهرة السيمفوني وأوركسترا أوبرا القاهرة، وبالتعاون مع السفارة الفنلندية في القاهرة.
قبل دخول الحفل كان الجمهور على موعد مع متعة بصرية هيأت الحضور للانتقال مع الموسيقى الساحرة إلى أقصى شمال الكرة الأرضية، حيث سحر الطبيعة الفنلندية والغابات الثلجية وأشجار الصنوبر وفصل «الليل القطبي» وهو الفصل الذي يتميز بظاهرة تقارب سطوع الشمس مع غروبها. أقامت المعرض المصورة الفنلندية بايفي أرفونين تحت عنوان «قصص من الماضي... الفن الصخري القديم في مصر وفي فنلندا» وضم صورا عن فنلندا وفنون النحت في مصر القديمة.
وعلى مدار ساعة استمع جمهور دار الأوبرا المصرية إلى معزوفات كلاسيكية فنلندية وعالمية من مؤلفات موتسارت، شومان وديفورجاك جرى تدريب العازفين المصريين عليها، وذلك في إطار مشاركتهم في منح دراسية لدراسة الموسيقى والعزف والغناء الأوبرالي والكلاسيكي في فنلندا.
وقال المايسترو وعازف البيانو رالف جوتوني لـ«الشرق الأوسط»: «في كل مرة يرافقني شغف بمقابلة الجمهور المصري المنفتح على أنواع الموسيقى، ويساورني الفضول للتعرف على رد فعلهم الفوري عقب أداء المقطوعات على المسرح» ويضيف: «في كل عام تقريباً نقوم بتدريب 30 عازفاً، وبرغم ضيق الوقت للعمل مع الموسيقيين المصريين هذا العام، فإنني سعيد دائما بالوجود في مصر التي تحتضن مواهب موسيقية رائعة وأصواتا متميزة». وحول الموسيقى المصرية، قال: «مصر نفسها بها نوع من الغموض الساحر الذي يشبه سحر الأنغام الموسيقية، فهي بجوها الدافئ وشعبها وآثارها تبعث على الإلهام، وتعجبني كثيرا موسيقى عمر خيرت أشعر أنها نابعة من دفء مصر».
يستعد المايسترو جوتوني للمغادرة للإسكندرية، حيث يقيم حفلا كبيرا يوم السبت الموافق 18 مارس (آذار) الحالي على خشبة مسرح مكتبة الإسكندرية مع المايسترو الكبير هشام جبر، مدير مركز الفنون بالمكتبة.
وحول بداية فكرة جسر الموسيقى، قال: «طرأت الفكرة في ذهني حينما زرت مصر لأول مرة عام 2002 وكان ذلك للعزف في قصر المانسترلي، بعدها ذهبت مع أصدقائي في رحلة على باخرة نيلية إلى الأقصر وأسوان مع مائة من الشخصيات الفنلندية المعروفة، حيث أقمنا حفلات موسيقية على ظهر الباخرة، بعدها فكرت في أن تكون الموسيقى وسيلة للتواصل مع الحضارة المصرية العريقة والموسيقى الفنلندية الكلاسيكية بشكل سنوي ليعزف المصريون مع الفنلنديين في رسالة مفادها أن الموسيقى توحد الشعوب. وبالفعل انطلق جسر الموسيقى عام 2007، واستمر ولكنه توقف عام 2011 بسبب أحداث الثورة المصرية، وها نحن نحتفل بمرور 10 أعوام من عمره».
يتضمن برنامج الحفل المرتقب بمكتبة الإسكندرية الكونشرتو الثلاثي للفيولينة والتشيللو والبيانو لبيتهوفن والسيمفونية رقم 104 لجوزيف هايدن، بالإضافة إلى مختارات من موسيقى فيلم «الشوق» من تأليف المايسترو هشام جبر.
ويقيم الثلاثي الفنلندي مارك جوتوني (فيولينة)، ميلجاوا يوكو (تشيللو)، ورالف جوتوني (بيانو) على هامش الحفل، ورشة عمل للكورال وموسيقى الحجرة في الفترة من 15 إلى 19 مارس، بهدف الارتقاء بالمستوى الفني للموسيقيين الإسكندريين الشباب، يتبعها حفل ختامي مفتوح للجمهور للفنانين المشاركين بالورشة يوم 20 مارس بالمسرح الصغير الساعة السابعة مساء.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)