أبو الهول الهولندي فيرمير يحلّ في باريس

موعد مسبق للقاء ساكبة الحليب التي تنافس الموناليزا في شهرتها

 الأميرة البريطانية كيت ميدلتون تتفرج على لوحة لفيرمير
الأميرة البريطانية كيت ميدلتون تتفرج على لوحة لفيرمير
TT

أبو الهول الهولندي فيرمير يحلّ في باريس

 الأميرة البريطانية كيت ميدلتون تتفرج على لوحة لفيرمير
الأميرة البريطانية كيت ميدلتون تتفرج على لوحة لفيرمير

على مدى عقود، ظلت المطابع تعيد إصدار آلاف النسخ التجارية من لوحة الحلابة، للرسام الهولندي فيرمير. كما استخدمها المعلنون للدعاية لكثير من منتجات الألبان ذات الأسماء الشهيرة عالمياً. لقد صوّر فيها، بأسلوب واقعي فذ، فلاحة تسكب الحليب من إناء لتعجن خبزها في مطبخها. وطوال القرنين الماضيين، أي منذ ذيوع شهرة الرسام مع نهاية القرن التاسع عشر، تفرجت ملايين الأعين على الصور المستنسخة للحلابة، واقتنى كثيرون اللوحات المنقولة عنها، من دون توقيع، على أيدي رسامين متدربين. لذلك تحتفل باريس، حالياً، بحدث مهم، إذ يستقبل متحف اللوفر معرضاً فريداً للرسام فيرمير، يجمع 12 لوحة من أعماله فحسب، بينها الحلابة. إنها «الموديل» النسائية التي تأتي في المرتبة الثانية من الشهرة بعد موناليزا دافنشي.
لوحات قلائل تشكل ثلث ما أنجزه يوهان فيرمير (1632 - 1675) الذي عاش في بلدة ديلفت الهولندية، وارتبط بها بقوة حتى أطلقوا عليه لقب «أبو هول ديلفت». وعلى صغر المعرض الذي فتح أبوابه في إحدى صالات «اللوفر»، الأسبوع الماضي، والذي يستمر حتى 22 من مايو (أيار) المقبل، فإن الإقبال عليه شديد جداً، وهو مرهون بشرط خاص، لأنه من غير الممكن السماح بتزاحم مئات الزوار في صالة صغيرة تضم باقة محدودة من اللوحات. لذلك، لا بد لمن يرغب بملاقاة الحلابة ذات «المريلة الكحلي» التي تشمر عن ذراعين بضتين، وغيرها من لوحات لا تقل عنها روعة، أن يحجز لنفسه موعداً ضمن مجموعات قليلة وساعات معينة يوماً بيوم.
تلفت موهبة فيرمير النظر، بل عبقريته، لأنه عاش في عزلة وصمت كاملين، منكباً على العمل في مرسمه، وكأنه راهب في محرابه. ويسعى المعرض الباريسي إلى إلقاء الضوء على تلك العزلة، من خلال ندوات ومنشورات لنقاد يربطون بين أسلوب الفنان وأساليب معاصريه، ويضعونه في مكانه الخاص من المشهد التشكيلي الأوروبي في القرن السابع عشر. وهو أسلوب كان مرغوباً جداً في تلك الفترة، حيث تنافس أكثر من مبدع على تصوير رجال ونساء وهم في انشغالاتهم اليومية، من خلال ريشة ذات ضربات حنون ومتأنية، وضمن لعبة مدروسة ببراعة بين الظل والضوء. وكان الثلث الأخير من القرن السابع عشر قد شهد ازدهار طبقة اجتماعية حققت نجاحات اقتصادية في الأرياف والمدن المتناثرة التي اتحدت فيما بينها، لذلك وجد أصحابها في رسوم فيرمير ومجايليه، تعبيراً عن جهدهم اليدوي الشاق الذي تكلل بالنجاح، وإضفاء نوع من الجمال المثالي على عمل مجبول بالعرق والمعاناة.
وبالطبع، فإن تفوق الرسام في هذا الميدان عائد إلى مزاولته، هو نفسه، للعمل اليدوي. فقد أرسله أبوه إلى أمستردام، وهو في العشرين من العمر، لكي يصبح نساجاً. من هنا جاء انشداده إلى كل ما هو إبداع لأنامل رجال ونساء يشتغلون بصمت، ليقدموا منتجات تضفي على الحياة اليومية لمسات من جمال. ويمكن لمن يطالع لوحته «القارئة بجانب النافذة» أن يتأمل البراعة التي رسم بها السجادة الموجودة في الغرفة، وكذلك طيات الستائر التي تبدو وكأن قماشها ينطق بالرقة.
ظل فيرمير يشتغل بعيداً عن الأضواء، ومات مجهولاً، إلى أن قام باكتشاف أعماله في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الناقد والصحافي الفرنسي تيوفيل توريه بورجيه. لقد كتب عنه سلسلة من المقالات التي نشرت في مجلة «الفنون الجميلة». ومن يومها، بدأت شهرته تذيع ولوحاته تلقى الاهتمام، وتقام له المعارض والتكريمات، لا سيما من جانب الفنانين الانطباعيين. كما اهتم به الكاتب مارسيل بروست، وعبر عن إعجابه الكبير بموهبته التي لم تلق حقها في الوقت المناسب.
وهنا راحت أسعار لوحاته تتصاعد، وساهم في ذلك أنه كان فناناً مقلاً لم يترك سوى أعمال نادرة توزعت في أماكن غير معروفة. وهناك اليوم 34 لوحة فقط جرى التحقق من نسبها إلى الفنان الهولندي الذي رحل منسياً. وطبعاً، فإن غيابه أغرى عشرات المزورين بانتحال توقيعه، وتقديم أعمال يزعمون نسبتها له. وهناك 3 لوحات ما زالت قيد التدقيق والفحص بين خبراء تحديد الأساليب وأزمنة إنجاز اللوحات. وبهذا، فإن فيرمير يعتبر ثالث ثلاثة يمثلون العصر الذهبي للرسم الهولندي، والآخران هما رمبرانت وفرانز هالس.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».