دروس في فلسفة الحب

الممثلة الشهيرة ميراي دارك تروي مذكراتها عن طفولتها وعلاقتها بآلان ديلون

دروس في فلسفة الحب
TT

دروس في فلسفة الحب

دروس في فلسفة الحب

نشرت الممثلة الفرنسية ميراي دارك أخيرا كتابا جميلا بعنوان: «ما دام القلب يخفق»... لاحظوا العنوان: أجمل من قصيدة شعر! في هذا الكتاب الممتع فعلا تروي الممثلة الشهيرة ذكريات حياتها على مدار السنوات السابقة، بدءًا من طفولتها الفقيرة في مدينة طولون جنوب فرنسا، وحتى وصولها إلى ذروة الشهرة والمجد في باريس لاحقا. ونفهم من كلامها أن ظروف الأسرة كانت صعبة جدا من الناحية المادية، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تعيش حياة سعيدة مع أمها وأبيها وأخويها الأكبر منها. ثم تركت المدرسة العامة بسبب كرهها الدروس، والتحقت بمدرسة الفن في طولون. والواقع، أنها اكتشفت ميولها نحو المسرح وهي في الثانوية. وعندئذ راحت تتعلم أصول هذا الفن وتحفظ عن ظهر قلب المسرحيات الكلاسيكية لكورني وراسين، وسواهما. وقد لفتت انتباه أساتذتها إلى مواهبها الفنية بفضل فصاحتها في النطق، وحسن تأديتها الأدوار المسرحية ورشاقتها.
وبعدئذ، شاء لها القدر أن تذهب إلى باريس مدينة الفن والأدب والمسرح وكل شيء. وهناك عانت في البداية كثيرا قبل أن تحظى بدور سينمائي يدرّ عليها بعض المال. وكانت أمها ترسل إليها الطعام من طولون كي لا تموت من الجوع. ثم ابتسم لها الحظ وقبل أحد المخرجين السينمائيين بإعطائها دورا في أحد أفلامه. ثم مثلت بعدئذ في أفلام عدة، الواحد بعد الآخر حتى أصبحت ميسورة من الناحية المادية. وعندئذ غيرت غرفتها الصغيرة وذهبت لاحتلال شقة فخيمة في أحد الأحياء الراقية. ثم اشترتها بعد أن أصبحت أجورها السينمائية كبيرة. وعندئذ، لم تعد أمها في حاجة إلى أن ترسل إليها المواد الغذائية من الأقاليم البعيدة. ولكنها كانت تتمنى أن تفتخر بها عائلتها؛ لأنها نجحت في العاصمة وفي مجال الأفلام والسينما. وعلى ما يبدو فإن ذلك كان متعذرا. فالعائلة كانت محافظة جدا وتعتبر العمل في السينما مخلا بالأخلاق أو يسيء إلى سمعة الشخص، وبخاصة إذا كانت امرأة. عندنا يقولون بأنها سيئة السمعة!
وتقول ميراي دارك بأنها شعرت بالألم كثيرا بسبب هذا الموقف. ولم تكن تتجرأ على أن تطرح السؤال التالي على أمها: هل رأيت أفلامي يا أمي؟ هل رأيتيني على الشاشة يوما ما؟ والواقع أنها عندما كانت تأخذ إجازة وتعود إلى بيت العائلة في مدينة طولون الساحرة المطلة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط كانوا يتحدثون عن كل شيء ما عدا عن السينما! ولكنها فهمت بعدئذ أنهم رأوا جميع أفلامها، ويبدو أنهم كانوا غير مرتاحين للأدوار التي تلعبها. وهي أحيانا أدوار إغراء، حيث تضطر إلى تعرية قسم كبير من جسدها. بالطبع، فإن هذه النظرة السلبية إلى السينما انتهت الآن في فرنسا، ولم يعد لها من وجود. ولكنها كانت لا تزال سائدة في الخمسينات والستينات عندما ابتدأت ميراي دارك مهنتها ممثلة.
ثم تتحدث المؤلفة بعدئذ عن أهم لقاء في حياتها، ألا وهو تعرفها إلى الممثل الشهير عالميا وكونيا: آلان ديلون. وقد تعرفت إليه نحو عام 1968، وكان هو قد أصبح نجما كبيرا من نجوم الشاشة الفرنسية، أما هي فكانت لا تزال في بداياتها، وإن كانت قد أصبحت معروفة إلى حد ما. ولكن شهرتها لم تنفجر إلا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وقد عاشت قصة حب عاصفة معه، واستمرت علاقتهما خمسة عشر عاما. وعندما تعرف إليها كانت لديه مشكلات عائلية كبيرة. فكان قد طلق للتو زوجته التي أنجبت له طفلا صغيرا يدعى أنطوني. وقد أصبح ممثلا فيما بعد. وعاش الطفل حياة التمزق العاطفي بين أبيه وأمه، كما يحصل لكل أولاد المطلقين. والواقع أنه عاش مع ميراي دارك صاحبة أبيه أكثر مما عاش مع أمه. ولذلك؛ فهو لا يزال يحترمها حتى الآن مثل أمه وربما أكثر.
وتقول المؤلفة، إن آلان ديلون كان يعيش في ذلك الوقت أصعب مرحلة في حياته. فقد اتهموه بالتورط في مقتل حارسه الشخصي الشاب اليوغسلافي الأصل ستيفان ماركوفيتش. وكان هذا الشخص مسؤولا عن حمايته؛ لأن المشاهير في حاجة دائما إلى شباب أقوياء العضلات لكي يحموهم إذا ما تعرضوا لهجوم ما بشكل مباغت في الشارع، أو في أي مكان آخر. وآلان ديلون كان أشهر من نار على علم، ولا يزال.
ولكن يبدو أنه لم يستجب لكل مطالب حارسه الشخصي هذا. وقد حصلت بينهما مشادة عنيفة قبل حادثة الاغتيال ببضعة أيام. ولذلك اتهموا آلان ديلون بها. فقد وجدوا هذا الشاب مرميا في أحد الحقول المحيطة بباريس بعد أن أطلقت رصاصة على رأسه، وأصابت منه مقتلا. وقد زعم أنصار ديلون بأنه انتحر. ولكن يبدو أن أحدا قتله. والبعض يتهم أحد كبار قادة المافيا، وكان صديقا لديلون، بتدبير عملية الاغتيال بطلب من ديلون شخصيا، والله أعلم.
ثم زادت فداحة القصة واتخذت طابعا سياسيا عندما انكشفت خباياها. فيبدو أن هذا الحارس الشخصي هدد آلان ديلون بنشر صور جنسية فاضحة له إذا لم يستجب لمطالبه. بمعنى آخر، فإنه أراد ابتزازه. وهذا ما سرّع في تصفيته في الواقع. فقد عرف آلان ديلون أنه إذا بقي هذا الشخص على قيد الحياة فسيظل سيفه مسلطا فوق رأسه. وسيظل يهدده ويبتزّه. ولذلك؛ لجأ إلى تصفيته عن طريق آخرين. هذا ما يعتقده البعض، ولكنه ليس مؤكدا. ما حقيقة هذه الصور الفاضحة يا ترى؟ على ما يبدو، فإنها أخذت للممثل الشهير وهو في حفلة ماجنة مع الكثير من السيدات ومن بينهن زوجة الرئيس السابق: جورج بومبيدو! ولكن تبين أن هذه الصورة الأخيرة كانت مزورة ومفبركة من قبل أعداء بومبيدو قبل أن يصبح رئيسا من أجل سدّ باب الرئاسة أمامه. فالحزب الديغولي كان منقسما إلى قسمين: قسم يرغب في أن يخلف بومبيدو الجنرال ديغول، وقسم يرفض ذلك رفضا قاطعا. ومعلوم أنك عندما تقترب من سدة السلطة العليا أكثر مما يجب فإنك تصبح مهددا، تصبح في الدائرة الحمراء للخطر. وكثيرا ما ينبشون لك الفضائح الكبرى في آخر لحظة لكي يحولوا بينك وبينها. وهذا ما يحصل حاليا للمرشح اليميني المحترم: فرنسوا فيون. فقد أنهكوه إنهاكا بالتشنيع المتواصل واستخدام الإشاعات الفتاكة والأكاذيب «كسلاح تدمير شامل». ولكن على الرغم من أن وسائل الإعلام الفرنسية الجبارة تشن جام غضبها عليه منذ أكثر من شهر ولا تزال، على الرغم من أنها تفتك به فتكا ذريعا صباحا ومساء، أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين ساعة لزعزعته وتدميره، إلا أنه لا يزال واقفا على قدميه. والأرجح، أنه سيصبح رئيس فرنسا المقبل بعد شهرين؛ لأن المحن الكبرى تصنع الرجال. اللهم إلا إذا اغتالوه جسديا بعد أن حاولوا اغتياله معنويا ونفسيا. عار على فرنسا ما يحصل فيها حاليا: إنه اغتيال للشرف والديمقراطية في بلد الديمقراطية وحقوق الإنسان! عار على الطبقة السياسية والثقافية الفرنسية إلا من رحم ربك! ما معنى انتخابات رئاسية مصادرة سلفا وبشكل مسبق؟ ما معنى تزوير إرادة الشعب وتصويته الحر؟ هل تحولت فرنسا إلى بلد عالم ثالث تفرض فيه القوى المهيمنة اسم الرئيس المقبل قبل حصول الانتخابات؟ ولماذا الانتخابات أصلا؟ إذا كانوا واثقين من أنفسهم فلماذا يخافون منه إلى مثل هذا الحد؟ الجواب واضح: أنهم يعلمون علم اليقين أنه إذا ما حصلت انتخابات حرة ونزيهة فسيربحها؛ لأن الشعب معه. من هنا، هيجانهم المسعور عليه لتحطيمه، بل ولمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية إذا أمكن. شيء مخيف: فرنسا لم تعد فرنسا!
على أي حال، لنعد إلى موضوعنا الرئيسي. كان هذا القسم الأخير من السياسيين النافذين هو الذي نظم مؤامرة الصور الفضائحية للضغط على بومبيدو لكي يتراجع عن ترشيح نفسه للرئاسة. فهل كان آلان ديلون متورطا مع هؤلاء الديغوليين المناهضين لجورج بومبيدو؟ لا أحد يعرف. كل ما نعرفه هو أن القصة أخذت أبعادا ضخمة فيما بعد وأصبح آلان ديلون ملاحقا من قبل أجهزة المخابرات؛ لأن بومبيدو كان رئيسا للوزراء وشخصية جبارة على الرغم من كل شيء. وضمن هذه الظروف المضطربة والغامضة حصلت عملية اغتيال الحارس الشخصي لآلان ديلون. ويبدو أن هذا الشخص كان مرتبطا بجهاز المخابرات المقرب من رئيس الوزراء.حلها بقى!
وتقول لنا ميراي دارك بأن آلان ديلون كان يعيش أقسى لحظات حياته عندما تعرفت إليه. كان دائما قلقا يشعر بالخوف من شيء ما. ولكنها لم تكن تعرف سبب قلقه واضطرابه لأنها كانت قد دخلت حياته منذ لحظة قصيرة فقط. وفي أثناء صعودهما إلى باريس من منطقة الشاطئ اللازوردي كان يبدو شديد النرفزة والعصبية. وكان يوقف السيارة بين الحين والآخر ويقول لميراي دارك: انتظريني هنا، سأضرب تلفونا. وكان يهاتف شخصا مجهولا لفترة طويلة ثم يعود إلى السيارة من جديد. وهكذا دواليك.
باختصار، فإن ميراي دارك عاشت معه عندئذ قصة رهيبة تشبه قصص الأفلام البوليسية التي مثلها لاحقا ونجح فيها أيما نجاح. ومعروف أن ديلون لا ينجح ولا يعطي أفضل ما عنده إلا في هذا النوع من الأفلام الخطرة. ويبدو أنه عكس كل حياته الشخصية في أفلامه. ولذلك؛ نجحت هذه الأفلام وجعلت منه أسطورة سينمائية ليس فقط على مستوى فرنسا وإنما العالم كله. فقد كان يمثل وكأنه يعيش فعلا ولا يمثل. وهنا يكمن أول شرط من شروط النجاح في السينما، بل وفي الأدب وكل شيء. ولكن الناس انصرفوا عنه في تلك الفترة واحتقروه لأنهم اشتبهوا في أنه هو القاتل. وعندما نظمت دار الأوبرا الشهيرة في باريس حفلة ضخمة حضرتها معظم شخصيات فرنسا من فنية وثقافية وسياسية قال آلان ديلون لميراي دارك: هل تقبلين بمرافقتي إلى دار الأوبرا؟ فأجابته، وكانت قد وقعت في حبه، نعم سأذهب معك إلى أي مكان في الأرض. سأذهب إلى الجحيم إذا لزم الأمر. والفرنسية عندما تعشق تعشق. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم ينس لها هذا الموقف الشجاع، بل والمتهور. فالواقع، أنه ما كان أحد في باريس يقبل بأن يظهر معه في الأماكن العامة لأن سمعته السوداء كانت قد ملأت كل وسائل الإعلام. وأصبح شخصا مشبوها يتحاشاه القريب قبل البعيد. ثم أن مجرد ظهورك معه قد يعرضك لملاحقات بوليسية ضارية.
وعندما حصلت الاستراحة أثناء العرض في الأوبرا ونهض الجميع من مقاعدهم وتوجهوا إلى «البوفيه» أو المقهى لتناول المرطبات والشراب لم يقم آلان ديلون من مقعده حتى ذهبوا كلهم. وعندئذ أمسك بيد ميراي دارك وخرج هو الآخر وتوجه نحو «البوفيه». وعندما رأوه اشرأبت الأنظار نحوه وتركزت كلها عليه. وساد صمت ثقيل، رهيب. ولم يقبل أحد بالسلام عليه فبدا وكأنه منبوذ كليا. ولكن ميراي دارك كانت تقف إلى جانبه بكل افتخار وغير مبالية بنظرات الاحتقار والاشمئزاز. ثم تجاوز آلان ديلون المحنة لاحقا، وأصبح أشهر شخصية سينمائية في فرنسا ونسي الناس الموضوع وكأن شيئا لم يكن. والآن أصبحت كبريات الشخصيات تترامى على أقدامه، أو تتمنى الظهور إلى جانبه ولو للحظة.
وفي الختام، لا يسع المرء إلا أن يعجب بالكثير من الأفكار الواردة في الكتاب، وبخاصة تلك المتعلقة بالحب أو بالأحرى فلسفة الحب. فعندما تركها آلان ديلون من أجل امرأة أخرى كادت أن تنتحر. وهنا تقول هذه الفكرة المهمة: يا ليت أن عملية الترك لا تحصل دفعة واحدة كمقصلة الإعدام، وإنما بشكل إنساني متدرج. فالمتروك يشعر بأنه مقتول، وأن التارك هو وحده الذي يستطيع أن يحييه ولو بنظرة أو كلمة واحدة. فلماذا لا يرأف به ولو قليلا قبل أن يذبحه؟ لماذا لا يذبحه بشكل ناعم على الأقل؟ لماذا لا يساعده على عملية الترك والفراق المر؟ هذا الكلام لا يقوله إلا شخص يعرف معنى الحب، شخص لوعه الحب.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟