«ثاج» السعودية... موطن كنوز الذهب تبهر العلماء حول العالم

توقعات بأن تكون عاصمة مملكة الجرهاء الشهيرة

جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
TT

«ثاج» السعودية... موطن كنوز الذهب تبهر العلماء حول العالم

جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية

تعد مدينة ثاج من أهم المواقع الأثرية في المنطقة الشرقية من السعودية، وسميت بكنز الآثار، لما وجد فيها من قطع أثرية ذهبية فريدة، خصوصاً قطع الحلي والجواهر والذهب التي عثر عليها في أحد مدافن ثاج، التي تعود لأكثر من ألفي عام.
وحظي هذا الاكتشاف بأصداء واسعة في الأوساط المهتمة بالآثار على مستوى العالم، كما أن الموقع الذي يرجح عدد من علماء الآثار السعوديين أن يكون عاصمة مملكة الجرهاء التي ملأت بشهرتها أسماع الممالك والدول القديمة، وكان قاطنوها ينعمون بغنى واسع، كما كانت المحرك الاقتصادي لمنطقة الخليج العربي قبل نحو 300 سنة قبل الميلاد.
وتشير المعلومات التاريخية والأثرية إلى أن الاستيطان في منطقة ثاج، على بعد 95 كم تقريبًا عن مدينة الجبيل، يعود إلى العصور الحجرية. وازدهر الاستيطان في ثاج خلال الفترة الهللنستية التي تمتد من ظهور الإسكندر الأكبر في الشرق عام 332 ق.م تقريبًا حتى القرن الأول الميلادي، واستمر الاستيطان خلال الفترة البارثية المتأخرة والساسانية التي تمتد من القرن الأول الميلادي تقريبًا حتى القضاء على الدولة الساسانية عام 640 ميلادي.
وأجرى عالم الآثار السعودي الدكتور عوض الزهراني بحثاً ميدانياً وعلمياً موسعاً عن موقع ثاج، أشار فيه إلى أن مساحة المنطقة السكنية الواقعة داخل السور الأثري وخارجه، وكذلك المساحة الكبيرة التي تشغلها تلال المدافن، إلى جانب الآبار الكثيرة، تدل على أن تجمعاً سكانياً كبيراً كان في ثاج، مما يشير إلى أن سكانه امتهنوا إلى جانب التجارة، بعض النشاطات الأخرى، ومنها الزراعة، إذ حفروا بعض الآبار خارج المنطقة السكنية المسورة، ولم يكن النشاط التجاري هو المهنة الوحيدة لسكان ثاج، بل إن بعضهم عمل في الصناعة، كصناعة الأواني الفخارية التي راجت تجارتها في ذلك الوقت.
وتمثل معثورات التنقيبات الأثرية من علماء الآثار السعوديين مزيجاً حضارياً ناتجاً عن تأثيرات الحضارات المجاورة لها، التي تربطها معها علاقات تجارية، كحضارات جنوب الجزيرة العربية، ووسطها، وشمالها الغربي، وجنوبها الشرقي، والحضارة السلوقية، والساسانية، وغيرها.
وتقع المدينة داخل سور بطول 2535 مترًا، وعرض المتبقي من هذا السور يصل إلى مترين و30 سم. ويقع داخل هذا السور ما يُسمى بـ«التلال السكنية»، يفصل بينها ممرّات يتراوح عرضها بين الخمسة والستة أمتار. وكشفت الحفريات التي أجريت في الموقع الأثري عن أقدم فرن للفخار في المنطقة الشرقية، كما كشف عن طفلة بكامل مرافقاتها الجنائزية تعود إلى القرن الأول الميلادي.
* مدفن كنوز ثاج
في صيف 1998، باشر فريق من علماء الآثار السعوديين من المتحف الإقليمي في الدمام التنقيب في جُثوة كبيرة في موقع ثاج، خارج أسوار المدينة القديمة. وسرعان ما ظهرت فتحة في الخندق، فكشفت عن وجود حجرة جنائزية كانت بلاطات غطائها مكسورة. وظن الفريق أن هذا القبر نُهب على غرار معظم القبور الأخرى، فاعترتهم خيبة أمل، لكن الباحثين الذين سحبوا قطع البلاطة المكسورة، عثروا على قناع من الذهب اللماع، ثم على عقود، وعلى لآلئ من الذهب وتلبيسات من الذهب وقطع أخرى ثمينة.
كانت طفلة صغيرة، يرجح أن تكون أميرة (تناهز السادسة من عمرها)، قد دُفنت وسُجّيت على سرير مأتمي من الخشب، مغطى بغلاف من الرصاص والبرونز، مزين بتزاويق ذات أسلوب متوسطي، وبجوارها 4 تماثيل صغيرة لامرأة مصنوعة بأسلوب كلاسيكي تشكّل أقدام هذا السرير. وكانت الطفلة المُمَدّدة محاطة بتلبيسات دائرية من الذهب. وعثر علماء الآثار على خاتمين من الذهب، مرصعين بياقوت أحمر محفور. ويظهر على إحداهما جانبٌ من وجه شخص يعتمر خوذة، ويغطي قناع من الذهب يمثل وجهاً بسيط الملامح وجه الفتاة الصغيرة. وهي تضع في أعلى الرأس 3 عُصابات من الذهب، وحول العنق عقدين مزينين بالياقوت واللآلئ والفيروز، وعقدًا يتألف من 18 حبة لؤلؤ من الذهب. في جانبي رأسها، قرطان من الذهب، وإلى يسارها سواران من الذهب المُصمت، وعلى صدرها قُفاز من الذهب، وعلى وسطها حزام من الذهب. وكانت محاطة بما يفوق المائتي زر محدب من الذهب، بحجمين مختلفين. وعُثر تحت الجثة على 3 آنية معدنية تشكل كتلة واحدة متآكلة، وإلى يمين الرأس، على قدح معدني صغير بلا غطاء.
وكشف العلماء أن هذا المدفن يرقى إلى نحو ألفي سنة، أي إلى الحقبة الهلينستية. وفي تلك الحقبة، كانت شبه الجزيرة العربية متصلة بالعالم المتوسطي، عبر الطرق التجارية. وكانت قوافل بخور جنوب الجزيرة العربية تعبر هذه الطرق التي كان أحدُها يمر بمدينة ثاج. وقد تكون هذه التجارة المزدهرة مصدر الثراء الذي أتاح وضع تُحَفٍ تتسم بهذا القدر من الترف في هذا المدفن.
ويؤكد هذا الاكتشاف المميز الاهتمام الكبير الذي أولته العائلة الثرية لهذه الطفلة لدى دفنها. وكانت تلك التقاليد والعادات متأثرة جدًا بمعتقدات العالم القديم ورموزه، وذلك حتى في الصحراء العربية.
* أهمية الجرهاء
تُصنف الجرهاء على أنها واحدة من مدن عدة مفقودة في جزيرة العرب، كإرم ذات العماد وعُبار، والعثور عليها أو على معالمها لا يزال طموح المهتمين والباحثين والمؤرخين، كما ذكر ونشر عنها من مواضيع مشوقة بأقلام الكتاب الكلاسيكيين. وبالبحث في النصوص التاريخية والكتابات القديمة، يتضح أن مملكة الجرهاء وجدت وسادت، بدءاً من القرن الثالث قبل الميلاد في منطقة الخليج العربي، ما بين شاطئ نصف القمر وميناء العقير جنوبًا، وأن مدينة الجرهاء كان لها أهمية استراتيجية قصوى، كمحطة تفريغ وإعادة شحن للبضائع المتجهة إلى بلاد الرافدين ومدن آسيا الصغرى، وأنها كانت مركزاً حضارياً على درجة كبيرة من الأهمية، ووصل تجارها الذين يعملون بتجارة البخور وغيرها من الكماليات حتى بابل والبتراء وبلاد العطور في جنوب الجزيرة العربية، وكانت ثرواتها تضارع ثروة تجارة السبئيين. ومن وصف المؤرخين، نجد أن الجرهائيين كانوا وسطاء التجارة بين السبئيين والهنود وبلاد الرافدين والغرب اليوناني، لأن مدينتهم كانت السوق الرئيسية في شرق الجزيرة العربية.
وسيطر الجرهائيون على تجارة اللبان والمر والعطور والتمور والبخور والأعشاب الطبية المنتجة من عمان وحضرموت. وكانت الجرهاء أيضًا محطة إعادة تصدير لمنتجات الهند، من توابل وعاج وبخور. وزيادةً على ذلك، الحرير الصيني المستورد من آسيا. فمن أبواب الجرهاء، خرجت القوافل متجهة إلى بلاد الشام، فكان خط سير القوافل المحملة بالسلع المترفة يتجه بعد الجرهاء إلى الجبيل، ثم إلى بلاد الرافدين، أو غربًا عبر الصمان إلى مدائن صالح، فبصرى، فالبتراء، ففلسطين، فمدن أوروبا. ومن دون منازع، استطاع الجرهائيون التحكم والسيطرة التامة على هذه الرحلات البرية.
ويتمتع الجرهائيون بخبرة فائقة ومعلومات جمة في فن الملاحة البحرية، وفهم لأسرار الرياح الموسمية، حيث شيدوا السفن الشراعية، ونقلوا بضائعهم عبر البحار من الهند والخليج العربي قاصدين بلاد الرافدين (بابل). كما استطاعوا اكتشاف أهم مغاصات اللؤلؤ في الخليج، فكانت بذلك مصدرًا آخر لرزقهم. وفرضوا المكوس والتعاريف الجمركية على التجارة التي تعبر من بلادهم، وتقدم لها الحماية والدلالة للوصول إلى مبتغاها. وبذلك، استطاع الجرهائيون أن يلعبوا دوراً مهماً في التبادل التجاري والنقل البري والبحري، فحققوا عائدات مالية ضخمة.
* نصوص أوردها المؤرخون في وصف «الجرهاء»
* كان أول وصف طوبغرافي للجرهاء ضمن فقرة أخرى من معجم سترابو الذي أخذ عن إراتوثينس (276 - 196 ق.م)، أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الجرهاء بعد مسيرة 2400 ستيدياً (250 ميلاً)، على طول ساحل الجزيرة العربية، حيث تقع هذه المدينة على خليج عميق، ويسكنها الكلدانيون، وكذلك المنفيون من بابل. وبأرض هذه المدينة أملاح، كما يعيش الناس في منازل مشيدة من الملح، الأمر الذي يعرض ألواح الملح للذوبان نتيجة لاستمرار الحرارة المحرقة لأشعة الشمس، وبالتالي سقوط هذه المنازل.
ويعمد الناس إلى رش المنازل بالماء، لتظل الجدران متماسكة. وتبعد المدينة 200 ستيدياً عن ساحل البحر، وكانت تحركات الجرهائيين بطريق البر في معظم الأجزاء، وذلك أثناء اشتغالهم بتجارة العطور.
ومدينة الجرهاء، بخليجها، يمتد محيطها 5 أميال، وتضم أبراجاً مربعة من كتل الملح. وتوجد منطقة اتنة على بعد 50 ميلاً من الساحل. وفي الجهة المقابلة لها، وعلى البعد ذاته من الساحل، توجد جزيرة تيروس الشهيرة بلآلئها المتعددة.
كما ذكر استرابو (Strabo)، نقلاً عن المؤرخ اليوناني أرتيمدورس Artemidorus (276 – 190 ق.م)، أن الجرهاء مدينة تقع على ساحل الخليج العربي، على بعد ما يقارب 60 ميلاً إلى الغرب من جزيرة دلمون (البحرين). ويسكنها أقوام من الكلدانيين العرب، والمنفيين من بابل. وبأرض هذه المدينة أملاح (سباخ)، كما كان الناس يعيشون في منازل صنعت من أعمدة وجدران ملحية، ويعمد الناس إلى رش هذه الجدران بالماء، لتظل الجدران متماسكة، وقد أطلق عليها مدينة الجدران البيضاء. وقال إنهم أغنى العرب؛ يقتنون الرياش الفاخرة، ويتمتعون بكل أسباب الرخاء والترف، بما في ذلك آنية الذهب والفضة والفرش الثمينة، ويجمّلون جدران منازلهم بالذهب والعاج والجمان والأحجار الكريمة.
كما ذكر المؤرخ بليني معلومات مشابهه، وأضاف أن مدينة الجرهاء بلغت مساحتها ما يقارب 5 أميال، وأن بها أبراجاً مشيدة من الملح.
وحول موقع المدينة، ووفقاً لبحث الدكتور عوض الزهراني، لا تزال التكهنات والآراء المختلفة تحير الباحثين وعلماء الآثار حول تحديد المكان الذي قامت عليه مدينة الجرهاء، ويذكر الرحالة تشيزمان الذي أبدى اهتماماً واضحًا في البحث عن تلك المدينة المفقودة، في كتابه «شبه الجزيرة العربية المجهولة»، أن موقع الخرائب في أبي زهمول، بميناء العقير، هو تماماً موقع الجرهاء الذي أشار إليه بطليموس. وتعد جغرافية سترابو أغنى مصدر معلوماتي عن الجرهاء على الإطلاق. ويرد منها أن المدينة حين ذاك تقع على بعد 2400 استديم (276 - 336 ميلاً بالاستديوم اليوناني أو الرماني) من تريدون. ويذكر سترابو أيضاً أن الكلدانيين المنفيين استوطنوا الجرهاء، وأن المنازل مشيدة بالحجر الملحي، وأن المدينة بمساحة 200 استديم (23 - 28 ميلاً) من البحر، وهذا مثير للتساؤل، لأن سترابو هو الوحيد الذي يقول إن الجرهاء في اليابسة، كما أخبرنا بأن الجرهائيين كانوا يمارسون تجارة البحر، إضافة إلى تجارة القوافل، وكانت تزين منازلهم الجواهر، فكانوا أغنياء جداً.
وذكر سترابو عن أرتمدورس: «واتضح من تحركات السبئيين والجرهائيين أنهم كانوا من أغنى الولايات جميعاً، وكانت لديهم معدات وأدوات كثيرة من الذهب والفضة، مثل الأسرة والحوامل ثلاثية الأرجل والأوعية، فضلاً عن أواني الشراب، والمنازل باهظة التكاليف المطعمة أبوابها وأسقفها بالعاج والذهب والفضة، كما شوهدت مجموعة من الفضيات والأحجار الكريمة».
غير أن الأوصاف التي ذكرها سترابو في جغرافيته ترجح أن موقع ثاج الأثري هو الأقرب أن يكون الجرهاء المفقودة، وليس العقير.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».