«ثاج» السعودية... موطن كنوز الذهب تبهر العلماء حول العالم

توقعات بأن تكون عاصمة مملكة الجرهاء الشهيرة

جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
TT

«ثاج» السعودية... موطن كنوز الذهب تبهر العلماء حول العالم

جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية
جانب من الموقع الأثري في المنطقة الشرقية من السعودية

تعد مدينة ثاج من أهم المواقع الأثرية في المنطقة الشرقية من السعودية، وسميت بكنز الآثار، لما وجد فيها من قطع أثرية ذهبية فريدة، خصوصاً قطع الحلي والجواهر والذهب التي عثر عليها في أحد مدافن ثاج، التي تعود لأكثر من ألفي عام.
وحظي هذا الاكتشاف بأصداء واسعة في الأوساط المهتمة بالآثار على مستوى العالم، كما أن الموقع الذي يرجح عدد من علماء الآثار السعوديين أن يكون عاصمة مملكة الجرهاء التي ملأت بشهرتها أسماع الممالك والدول القديمة، وكان قاطنوها ينعمون بغنى واسع، كما كانت المحرك الاقتصادي لمنطقة الخليج العربي قبل نحو 300 سنة قبل الميلاد.
وتشير المعلومات التاريخية والأثرية إلى أن الاستيطان في منطقة ثاج، على بعد 95 كم تقريبًا عن مدينة الجبيل، يعود إلى العصور الحجرية. وازدهر الاستيطان في ثاج خلال الفترة الهللنستية التي تمتد من ظهور الإسكندر الأكبر في الشرق عام 332 ق.م تقريبًا حتى القرن الأول الميلادي، واستمر الاستيطان خلال الفترة البارثية المتأخرة والساسانية التي تمتد من القرن الأول الميلادي تقريبًا حتى القضاء على الدولة الساسانية عام 640 ميلادي.
وأجرى عالم الآثار السعودي الدكتور عوض الزهراني بحثاً ميدانياً وعلمياً موسعاً عن موقع ثاج، أشار فيه إلى أن مساحة المنطقة السكنية الواقعة داخل السور الأثري وخارجه، وكذلك المساحة الكبيرة التي تشغلها تلال المدافن، إلى جانب الآبار الكثيرة، تدل على أن تجمعاً سكانياً كبيراً كان في ثاج، مما يشير إلى أن سكانه امتهنوا إلى جانب التجارة، بعض النشاطات الأخرى، ومنها الزراعة، إذ حفروا بعض الآبار خارج المنطقة السكنية المسورة، ولم يكن النشاط التجاري هو المهنة الوحيدة لسكان ثاج، بل إن بعضهم عمل في الصناعة، كصناعة الأواني الفخارية التي راجت تجارتها في ذلك الوقت.
وتمثل معثورات التنقيبات الأثرية من علماء الآثار السعوديين مزيجاً حضارياً ناتجاً عن تأثيرات الحضارات المجاورة لها، التي تربطها معها علاقات تجارية، كحضارات جنوب الجزيرة العربية، ووسطها، وشمالها الغربي، وجنوبها الشرقي، والحضارة السلوقية، والساسانية، وغيرها.
وتقع المدينة داخل سور بطول 2535 مترًا، وعرض المتبقي من هذا السور يصل إلى مترين و30 سم. ويقع داخل هذا السور ما يُسمى بـ«التلال السكنية»، يفصل بينها ممرّات يتراوح عرضها بين الخمسة والستة أمتار. وكشفت الحفريات التي أجريت في الموقع الأثري عن أقدم فرن للفخار في المنطقة الشرقية، كما كشف عن طفلة بكامل مرافقاتها الجنائزية تعود إلى القرن الأول الميلادي.
* مدفن كنوز ثاج
في صيف 1998، باشر فريق من علماء الآثار السعوديين من المتحف الإقليمي في الدمام التنقيب في جُثوة كبيرة في موقع ثاج، خارج أسوار المدينة القديمة. وسرعان ما ظهرت فتحة في الخندق، فكشفت عن وجود حجرة جنائزية كانت بلاطات غطائها مكسورة. وظن الفريق أن هذا القبر نُهب على غرار معظم القبور الأخرى، فاعترتهم خيبة أمل، لكن الباحثين الذين سحبوا قطع البلاطة المكسورة، عثروا على قناع من الذهب اللماع، ثم على عقود، وعلى لآلئ من الذهب وتلبيسات من الذهب وقطع أخرى ثمينة.
كانت طفلة صغيرة، يرجح أن تكون أميرة (تناهز السادسة من عمرها)، قد دُفنت وسُجّيت على سرير مأتمي من الخشب، مغطى بغلاف من الرصاص والبرونز، مزين بتزاويق ذات أسلوب متوسطي، وبجوارها 4 تماثيل صغيرة لامرأة مصنوعة بأسلوب كلاسيكي تشكّل أقدام هذا السرير. وكانت الطفلة المُمَدّدة محاطة بتلبيسات دائرية من الذهب. وعثر علماء الآثار على خاتمين من الذهب، مرصعين بياقوت أحمر محفور. ويظهر على إحداهما جانبٌ من وجه شخص يعتمر خوذة، ويغطي قناع من الذهب يمثل وجهاً بسيط الملامح وجه الفتاة الصغيرة. وهي تضع في أعلى الرأس 3 عُصابات من الذهب، وحول العنق عقدين مزينين بالياقوت واللآلئ والفيروز، وعقدًا يتألف من 18 حبة لؤلؤ من الذهب. في جانبي رأسها، قرطان من الذهب، وإلى يسارها سواران من الذهب المُصمت، وعلى صدرها قُفاز من الذهب، وعلى وسطها حزام من الذهب. وكانت محاطة بما يفوق المائتي زر محدب من الذهب، بحجمين مختلفين. وعُثر تحت الجثة على 3 آنية معدنية تشكل كتلة واحدة متآكلة، وإلى يمين الرأس، على قدح معدني صغير بلا غطاء.
وكشف العلماء أن هذا المدفن يرقى إلى نحو ألفي سنة، أي إلى الحقبة الهلينستية. وفي تلك الحقبة، كانت شبه الجزيرة العربية متصلة بالعالم المتوسطي، عبر الطرق التجارية. وكانت قوافل بخور جنوب الجزيرة العربية تعبر هذه الطرق التي كان أحدُها يمر بمدينة ثاج. وقد تكون هذه التجارة المزدهرة مصدر الثراء الذي أتاح وضع تُحَفٍ تتسم بهذا القدر من الترف في هذا المدفن.
ويؤكد هذا الاكتشاف المميز الاهتمام الكبير الذي أولته العائلة الثرية لهذه الطفلة لدى دفنها. وكانت تلك التقاليد والعادات متأثرة جدًا بمعتقدات العالم القديم ورموزه، وذلك حتى في الصحراء العربية.
* أهمية الجرهاء
تُصنف الجرهاء على أنها واحدة من مدن عدة مفقودة في جزيرة العرب، كإرم ذات العماد وعُبار، والعثور عليها أو على معالمها لا يزال طموح المهتمين والباحثين والمؤرخين، كما ذكر ونشر عنها من مواضيع مشوقة بأقلام الكتاب الكلاسيكيين. وبالبحث في النصوص التاريخية والكتابات القديمة، يتضح أن مملكة الجرهاء وجدت وسادت، بدءاً من القرن الثالث قبل الميلاد في منطقة الخليج العربي، ما بين شاطئ نصف القمر وميناء العقير جنوبًا، وأن مدينة الجرهاء كان لها أهمية استراتيجية قصوى، كمحطة تفريغ وإعادة شحن للبضائع المتجهة إلى بلاد الرافدين ومدن آسيا الصغرى، وأنها كانت مركزاً حضارياً على درجة كبيرة من الأهمية، ووصل تجارها الذين يعملون بتجارة البخور وغيرها من الكماليات حتى بابل والبتراء وبلاد العطور في جنوب الجزيرة العربية، وكانت ثرواتها تضارع ثروة تجارة السبئيين. ومن وصف المؤرخين، نجد أن الجرهائيين كانوا وسطاء التجارة بين السبئيين والهنود وبلاد الرافدين والغرب اليوناني، لأن مدينتهم كانت السوق الرئيسية في شرق الجزيرة العربية.
وسيطر الجرهائيون على تجارة اللبان والمر والعطور والتمور والبخور والأعشاب الطبية المنتجة من عمان وحضرموت. وكانت الجرهاء أيضًا محطة إعادة تصدير لمنتجات الهند، من توابل وعاج وبخور. وزيادةً على ذلك، الحرير الصيني المستورد من آسيا. فمن أبواب الجرهاء، خرجت القوافل متجهة إلى بلاد الشام، فكان خط سير القوافل المحملة بالسلع المترفة يتجه بعد الجرهاء إلى الجبيل، ثم إلى بلاد الرافدين، أو غربًا عبر الصمان إلى مدائن صالح، فبصرى، فالبتراء، ففلسطين، فمدن أوروبا. ومن دون منازع، استطاع الجرهائيون التحكم والسيطرة التامة على هذه الرحلات البرية.
ويتمتع الجرهائيون بخبرة فائقة ومعلومات جمة في فن الملاحة البحرية، وفهم لأسرار الرياح الموسمية، حيث شيدوا السفن الشراعية، ونقلوا بضائعهم عبر البحار من الهند والخليج العربي قاصدين بلاد الرافدين (بابل). كما استطاعوا اكتشاف أهم مغاصات اللؤلؤ في الخليج، فكانت بذلك مصدرًا آخر لرزقهم. وفرضوا المكوس والتعاريف الجمركية على التجارة التي تعبر من بلادهم، وتقدم لها الحماية والدلالة للوصول إلى مبتغاها. وبذلك، استطاع الجرهائيون أن يلعبوا دوراً مهماً في التبادل التجاري والنقل البري والبحري، فحققوا عائدات مالية ضخمة.
* نصوص أوردها المؤرخون في وصف «الجرهاء»
* كان أول وصف طوبغرافي للجرهاء ضمن فقرة أخرى من معجم سترابو الذي أخذ عن إراتوثينس (276 - 196 ق.م)، أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الجرهاء بعد مسيرة 2400 ستيدياً (250 ميلاً)، على طول ساحل الجزيرة العربية، حيث تقع هذه المدينة على خليج عميق، ويسكنها الكلدانيون، وكذلك المنفيون من بابل. وبأرض هذه المدينة أملاح، كما يعيش الناس في منازل مشيدة من الملح، الأمر الذي يعرض ألواح الملح للذوبان نتيجة لاستمرار الحرارة المحرقة لأشعة الشمس، وبالتالي سقوط هذه المنازل.
ويعمد الناس إلى رش المنازل بالماء، لتظل الجدران متماسكة. وتبعد المدينة 200 ستيدياً عن ساحل البحر، وكانت تحركات الجرهائيين بطريق البر في معظم الأجزاء، وذلك أثناء اشتغالهم بتجارة العطور.
ومدينة الجرهاء، بخليجها، يمتد محيطها 5 أميال، وتضم أبراجاً مربعة من كتل الملح. وتوجد منطقة اتنة على بعد 50 ميلاً من الساحل. وفي الجهة المقابلة لها، وعلى البعد ذاته من الساحل، توجد جزيرة تيروس الشهيرة بلآلئها المتعددة.
كما ذكر استرابو (Strabo)، نقلاً عن المؤرخ اليوناني أرتيمدورس Artemidorus (276 – 190 ق.م)، أن الجرهاء مدينة تقع على ساحل الخليج العربي، على بعد ما يقارب 60 ميلاً إلى الغرب من جزيرة دلمون (البحرين). ويسكنها أقوام من الكلدانيين العرب، والمنفيين من بابل. وبأرض هذه المدينة أملاح (سباخ)، كما كان الناس يعيشون في منازل صنعت من أعمدة وجدران ملحية، ويعمد الناس إلى رش هذه الجدران بالماء، لتظل الجدران متماسكة، وقد أطلق عليها مدينة الجدران البيضاء. وقال إنهم أغنى العرب؛ يقتنون الرياش الفاخرة، ويتمتعون بكل أسباب الرخاء والترف، بما في ذلك آنية الذهب والفضة والفرش الثمينة، ويجمّلون جدران منازلهم بالذهب والعاج والجمان والأحجار الكريمة.
كما ذكر المؤرخ بليني معلومات مشابهه، وأضاف أن مدينة الجرهاء بلغت مساحتها ما يقارب 5 أميال، وأن بها أبراجاً مشيدة من الملح.
وحول موقع المدينة، ووفقاً لبحث الدكتور عوض الزهراني، لا تزال التكهنات والآراء المختلفة تحير الباحثين وعلماء الآثار حول تحديد المكان الذي قامت عليه مدينة الجرهاء، ويذكر الرحالة تشيزمان الذي أبدى اهتماماً واضحًا في البحث عن تلك المدينة المفقودة، في كتابه «شبه الجزيرة العربية المجهولة»، أن موقع الخرائب في أبي زهمول، بميناء العقير، هو تماماً موقع الجرهاء الذي أشار إليه بطليموس. وتعد جغرافية سترابو أغنى مصدر معلوماتي عن الجرهاء على الإطلاق. ويرد منها أن المدينة حين ذاك تقع على بعد 2400 استديم (276 - 336 ميلاً بالاستديوم اليوناني أو الرماني) من تريدون. ويذكر سترابو أيضاً أن الكلدانيين المنفيين استوطنوا الجرهاء، وأن المنازل مشيدة بالحجر الملحي، وأن المدينة بمساحة 200 استديم (23 - 28 ميلاً) من البحر، وهذا مثير للتساؤل، لأن سترابو هو الوحيد الذي يقول إن الجرهاء في اليابسة، كما أخبرنا بأن الجرهائيين كانوا يمارسون تجارة البحر، إضافة إلى تجارة القوافل، وكانت تزين منازلهم الجواهر، فكانوا أغنياء جداً.
وذكر سترابو عن أرتمدورس: «واتضح من تحركات السبئيين والجرهائيين أنهم كانوا من أغنى الولايات جميعاً، وكانت لديهم معدات وأدوات كثيرة من الذهب والفضة، مثل الأسرة والحوامل ثلاثية الأرجل والأوعية، فضلاً عن أواني الشراب، والمنازل باهظة التكاليف المطعمة أبوابها وأسقفها بالعاج والذهب والفضة، كما شوهدت مجموعة من الفضيات والأحجار الكريمة».
غير أن الأوصاف التي ذكرها سترابو في جغرافيته ترجح أن موقع ثاج الأثري هو الأقرب أن يكون الجرهاء المفقودة، وليس العقير.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».