الكاتب الذي أماتَ المؤلف وأحيا القارئ

«رولان بارت: مقدمة قصيرة جدًا» بالعربية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

الكاتب الذي أماتَ المؤلف وأحيا القارئ

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ليس من اليسير مراجعة المنجز الأدبي والفكري لفيلسوف وناقد من طراز رولان بارت الذي تخصص في جوانب أدبية ونقدية وفلسفية متعددة. ومع ذلك فقد أخذ المُنظِّر جوناثان كولر على عاتقه فكرة التصدّي لمنجز بارت برمته ومناقشة أفكاره في كتاب سماه «رولان بارت: مقدمة قصيرة جدًا»، ترجمة سامح سمير فرج ومراجعة محمد فتحي خضر.
لعل المشكلة الأبرز في هذا الكتاب هي عدم التوازن في فصوله الأحد عشر، فقد تضمّن الفصل الأول ثلث معلومات الكتاب، بينما حظيت الفصول العشرة كلها بالثلثين الآخرين، الأمر الذي أربكَ عملية التوازن وجَعَلها تميل لمصلحة فصل بعينه دون بقية الفصول.
يمكن اختصار المقدمة التي كتبها كولر بسؤال واحد مفاده: كيف يمكننا أن نقرأ كتابات بارت بعد وفاته؟ وهذا سؤال إشكالي يمكن أن نعيد صياغته بالشكل الآتي: ما الذي تبقّى من منجز بارت؟ وأي كتبه أقدر على الصمود والثبات أمام تقادم الأعوام؟
يُوصف بارت بألقاب متعددة يستحقها جميعًا فهو بنيوي، وما بعد بنيوي، وسيميوطيقي، وناقد، ومؤرخ أدبي، وأديب، وكاتب، وأكثر من ذلك فهو «مُجرِّب عام» في عدد من الفنون القولية وغير القولية. وبما أن الفصل الأول المعنون بـ«رجل الأدوار» مكتظ بالأفكار والنظريات فسنختار الأبرز منها، وهي فكرة «موت المؤلف» التي تبنّاها وحمل لواءها لفترة طويلة من الزمن، وعمل على إزاحة هذه الشخصية المحورية التي تحتلها في الدراسات النقدية والأدبية. وبالمقابل فقد منح القارئ دورًا فعّالا في العملية الإبداعية، لأن «موت المؤلف» يقتضي بالضرورة «ولادة القارئ».
يشتهر بارت بدفاعه المستميت عن الكتابات التجريبية التي توصف بأنها «غير صالحة للقراءة»، ذلك لأنها تخلو من الحبكة، وتفتقر إلى الشخصيات المثيرة للاهتمام، وهي بهذا المعنى تتحدى توقعاتنا، وتفرض علينا، كقرّاء، جهدًا إضافيًا لإعادة صياغة هذا النص المبعثر عن قصد.
لا بد من التوقف عند فكرة «التناسي» المُهيمنة في هذا الفصل، فهو مفكر غزير الإنتاج، لكنه لا يواصل الاشتغال على فكرة محددة، وسرعان ما ينتقل إلى العمل على فكرة جديدة أخرى لمعت في ذهنه، متناسيا الفكرة السابقة التي شغلته زمنًا طويلاً. وبحسب كولر فهو يحب الأفكار التي لا تزال بطور التشكّل.
يحيلنا الناقد كولر إلى عدد كبير من مؤلفات بارت نذكر منها «إمبراطورية العلامات»، و«شذرات من خطاب في العشق»، و«الغرفة المضيئة»، و«الكتابة بدرجة الصفر»، و«لذة النص»، و«بارت بقلم بارت»، وغيرها من الكتب المهمة التي رسّخت مكانة بارت كناقد رصين، وكاتب غزير الإنتاج. لا نريد التركيز على سيرته الذاتية، فهي معروفة للقرّاء، لكن يجب التأكيد على ثلاثة عوامل مهمة تركت أثرًا كبيرًا في حياته وهي: الفقر، ومرض السل الذي حرمه من مواصله دراسته العليا، وعدم الاستقرار في حياته المهنية.
يعتقد بارت «بأنّ الأدب يجب أن يحتفظ بعلاقة حيّة مع التاريخ والمجتمع» (ص25)، وهو يمحض الأدب بشقّيه الكلاسيكي والحداثي حُبًا من نوع خاص، ويرفض ذلك التقييم اللاموضوعي الذي يرى في الأدب الحداثي انحرافًا بائسًا، لا أخلاقيًا أو «سرطانًا من الكلمات» (ن.ص).
يعتبر بارت كتاب «أسطوريات» من أسهل كتبه على الإطلاق، لكن صعوبته الوحيدة تكمن في تعريف الأسطورة نفسها بوصفها «وهمًا ينبغي فضحه» (ص31)، لكنها سرعان ما ينتهي إلى التأكيد بأنها شكل من أشكال التواصل أو نسق من الدرجة الثانية. ثمة أمثلة مُغرية جدًا يوردها بارت عن المصارعة والملاكمة، والتصوير الفوتوغرافي، وحملات الدعاية مشفوعة بعدد من الأسئلة التي قد تراود الجميع من دون أن تحظى بإجابات شافية.
يركِّز كولر على بارت الناقد الذي حلل أعمال كُتّاب ينتمون إلى عصر سابق مثل «ميشليه، راسين وساد»، وكُتّاب طليعيين مثل «بريخت، روب - غرييه وسوليرز». من الجدير بالذكر أن بارت قرأ كل أعمال ميشليه في المصحّة، وحوّل كتاباته إلى سلسلة من «الشذرات المشهدية»، كما كانت «اللذة النصيّة» هي التي تقوده للكتابة عن تلك النصوص أو ما يتصل بها من موضوعات. ثمة كُتاب آخرون يحبهم بارت أمثال ديدرو وبريخت وآيزنشتاين، لأنهم يفضلون المشهد على القصة، واللوحة الدرامية على التطور السردي، باختصار شديد أنه يحب الشذرات التي تُربك السرد وتقوِّض استمراريته، وتدفع القارئ لمعرفة ما يحدث بالفعل بغية بناء القصة من جديد.
على الرغم من أن بارت كان شخصًا نشيطًا فإنه ظل على الهامش في المشهد الثقافي الفرنسي في أوائل الستينات من القرن الماضي، وما إن ألّف كتابًا عن راسين عام 1963 حتى ذاع صيته، وشاع خبره بين الأوساط الثقافية، ولعل الفضل يعود إلى الناقد ريموند بيكار الذي هاجم بارت بدراسة لاذعة سماها «نقد جديد، أم أكذوبة جديدة» وضعته في مصاف النقاد المتطرّفين في ميدان الدراسات الأدبية، كما وصفت أحكامه بغير المسؤولة، ولغته اصطلاحية مضللة. أما بارت فقد أصبح متسامحًا جدًا، ويستقصي متعته الخاصة بعد أن أصدر كتاب «نقد وحقيقة» كردٍ على اتهامات بيكار ودعوة إلى «علم أدب» بنيوي.
لم يكن اختيار بارت للسيميوطيقي في كوليج دي فرانس نابعًا من فراغ، فلقد أحبّ هذا الميدان وأنجز فيه كتاب «عناصر السيميوطيقا» 1964، وبيّن فيه الفرق بين اللغة والكلام، والدال والمدلول. كما لم يفت الناقد كولر التركيز على عدة أنساق اجترحها بارت مثل «نسق الطعام» و«نسق الموضة»، وحيثما يكون هناك معنى يكون هناك نسق أيضًا، وهذه من بنات أفكار بارت التي أشاعها بيننا.
تعتبر البنيوية من أهم محطات بارت الثقافية فهي «طريقة لتحليل المنتجات الثقافية» التي تجد منبعها في مناهج اللغويات. وقد روّج بواسطتها لتحليل دور القارئ في إنتاج المعنى وانحسار دور المؤلف كشخصية محورية. تتجلى في هذا المنهج عملية تفتيت النص إلى شذرات، لأنه موقن تمامًا بأنّ «النص نسيج من اقتباسات مستمدة من مصادر ثقافية متعددة لا حصر لها» (ص71)، كما جاء في «هسهسة اللغة».
ربما تختصر الجملة الآتية فصل «المُتَعي» برمته حيث يقول بارت «إن متعة النص هي تلك اللحظة التي يبدأ فيها جسدي ملاحقة أفكاره الخاصة» (82)، وبما أن المعنى ليس مهمًا في القصة فإن التعبير والمعنى والصياغة ليست مهمة في الغناء قدر أهمية «نسيج الصوت» نفسه.
يتوصل كولر في الفصل التاسع من الكتاب إلى أن بارت لا يرى في نفسه ناقدًا أو سيميوطيقيًا، بل كاتبًا، وهذا استنتاج صحيح جدًا يعزوه إلى أسباب عدة من بينها زيارته لليابان التي قال عنها «إنها حرّرتني بدرجة كبيرة على صعيد الكتابة» (ص91)، ويمكن إحالة القارئ الكريم إلى آراء كثيرة عن الكتابة في مؤلفه الشائق «بارت بقلم بارت».
أما شخصية الكاتب بوصفه أديبًا فتتجلى في حياته التي أخذت شكل المغامرة مع اللغة. كما مثّلت تعليقاته على القضايا الثقافية موقفًا جماليًا راقيًا. يخلص المؤلف في خاتمة الكتاب إلى الإجابة عن السؤال الذي طرحناه سلفًا: ماذا أصبح بارت بعد عشرين عامًا من وفاته؟ فيأتي الجواب صريحًا لا ريب فيه: لقد أصبح كاتبًا «يضطلع بالإنتاج بدلاً من دراسة مُنتج ما» (ص119).



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي