صراعات الطائفة والمرجعية

استراتيجيات الأصولية في الواقع والوعي

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)
TT

صراعات الطائفة والمرجعية

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)

هل أيد الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي رحل يوم 17 فبراير (شباط) الحالي، المراجعات الدينية - السياسية - العنفية في القرن الماضي وباركها، كما كان يؤكد دائمًا مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» الحالي والراحل محمد خليل الحكايمة؟
تخوض الأفكار والجماعات الأصولية دائماً - بهدف التمدد والتجنيد - نوعين غير مباشرين من الصراع، تستهدفهما وتراهن عليهما في مجالين مختلفين، هما: الأول الصراع الطائفي، وهو صراع في الواقع والمجتمعات رهاناً على التوظيف والاحتقان الطائفي، والصدام المجتمعي بين مكوناته، مما يمثل فرصة لها. والثاني صراع الرمز والصورة، حيث تحرص مختلف جماعات التشدد الديني على صناعة رموز وصورة متخيلة مرجعية خاصة بها، بغض النظر عن حقيقتها الفعلية، وتسعى لتهويلها، وتشويه منافسيها وخصومها في الفضاء الديني، أو القضاء عليها عملياً أو معنوياً.
من هنا يمكن تفهم تنازع وصراع أصحاب المراجعات، والرافضين للمراجعات التي شهدها العقد الماضي، شخصية الدكتور عمر عبد الرحمن، الراحل في 17 فبراير الحالي. وهل أيد المراجعات وباركها، كما كان يؤكد دائماً مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة» الحالي، والراحل محمد خليل الحكايمة (توفي سنة 2008)، ولم يوافق مطلقاً على نبذ العنف، أو ترويجه واشتهاره، رغم أنه امتهن الخطابة أكثر مما امتهن العلوم الشرعية، ولم يترك سوى آثار قليلة تمثل سندًا لتنظيمات التشدد نفسها، مثل شهادته في مقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (كلمة حق)، أو بعض فتاواه في تكفير بعض الكتاب أو الاتجاهات؟
الرهان على الصدام الطائفي
أولاً: لم تصعّد أي من جماعات الإرهاب والتطرف العنيف والتشدد، سنية أو شيعية، اجتماعيًا وسياسيًا، إلا من نيران هذا التوظيف الطائفي، وتوظيفًا لاحتقاناته وهواجسه، أو لعبًا ورهانًا مستمرًا على تفجيره، منذ الدعوات المبكرة لمواجهة «التغريب والتنصير» في بدايات القرن الماضي، إلى استهداف الكنائس ودور العبادة في مصر وبعض دول الخليج، وصولاً لما كان الأسبوعين الماضيين من إعلان «داعش» قتل وتصفية عدد من المواطنين المسيحيين في العريش خلال فبراير الحالي، بشكل وحشي. وهو ما يحرج النظام، ويحقق حضورًا إعلاميًا، خصوصًا مع صحوة التنظيم واستعادته نشاطه في شبه جزيرة سيناء. وربما كان استهداف المسيحيين أبعد أثرًا إعلاميًا حتى من استهداف مدينة إيلات بالصواريخ من داخل سيناء، وهو ما تبناه تنظيم داعش في نشره النبأ في الأسبوع الثاني من فبراير نفسه.
وعن التوظيف الطائفي لدى جماعات الإرهاب، واستثمار حاضنته، وتأجيج احتقاناته، يمكننا أن نذكر المحطات والعلامات التالية في هذه الاستراتيجية:
1 - صحوة «داعش» في العراق: تجددت حياة «القاعدة» في العراق من فض اعتصامات الأنبار بالقوة عام 2013، على يد الميليشيات التابعة لرئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، إذ سيطر «داعش» على الموصل وسائر المحافظات السنية بحجة حماية الطائفة من نير الحشد الشعبي والميلشيات الطائفية الموالية لإيران التي غدت في تصوره تسيطر على العراق. وحقًا كانت لها سوابق عنيفة حتى دور المساجد في ديالى والرمادي وغيرها، وقمع تجاه رموزها وشيوخ عشائرها في الأنبار، بل ونواب وسياسيين من أبناء الطائفة السنية.
2 - صحوة «النصرة» و«داعش» في سوريا: لقد وجدت هذه التنظيمات فرصتها سانحة مع قمع النظام الأسدي للثورة الشعبية المدنية التي ثارت ضده قبل ست سنوات، واستقدم لقمعها ميليشيات «حزب الله» وميليشيات التطرف الشيعي في العراق، مثل لواء أبو الفضل العباس وعصائب الحق، بل والهزارة الأفغانية، منذ الشهور الأولى للثورة، التي كونت فيما بعد لواء «فاطميون»، في مايو (أيار) 2015، وغيرها. وهكذا، أنتجت وبررت لعسكرة و«طوأفة» الثورة منذ أبريل (نيسان) 2012، عبر نصرات مضادة سنية، بدأت بـ«جبهة النصرة» التي انقسمت فيما بعد لـ«داعش» و«النصرة». وهكذا، كان الاحتقان والصراع الطائفي السبب في صحوة «داعش» الذي أعلن خلافته المزعومة فيما بعد، ونجح في استقدام آلاف المقاتلين إلى ساحات الصراع في سوريا والعراق من مختلف أنحاء العالم.
3 - الانقلاب الحوثي قبل «عاصفة الحزم» بسنة: لم يكن غريباً أن بدأت ميليشيات الانقلاب الحوثي حربها وصراعها في قمع سنّيي دماج، في مايو 2014، قبل «عاصفة الحزم» والتحالف العربي الداعم للشرعية بسنة. ولقد ارتكبت في حقهم حينها ما وصفته الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية بجرائم حرب وإبادة جماعية، ثم تلتها بمحافظة عمران السنية، في يونيو (حزيران) 2014، قبل قفزها إلى العاصمة صنعاء، في سبتمبر (أيلول)، ومحاولتها ابتلاع الدولة، بحجة اعتراضها على رفع أسعار البترول حينها، ومطالبتها باستقالة الحكومة التي استقالت رغم ذلك. ولكن لم يقف طموح هذه الميليشيات المسلحة عند هذا الحد، بل أصرت على محاصرة، ثم السيطرة على، مقري الرئاسة ورئاسة الحكومة، ومقدرات البلاد، بعلنية مكشوفة. وراهنت على احتكار الحديث باسم الطائفة، بعدما همشت كل المراجع المعتدلة التي رفضت انحراف الزيدية نحو نظرية الولي الفقيه الإيرانية، التي تمثل النموذج المرجعي لطموح هذه الحركة منذ تأسيسها على يد الراحل حسين الحوثي، الشقيق الأكبر لزعيمها الحالي، الذي تلقى دروسًا له في قُم بإيران، وأقام فيها فترة.
ويتضمن خطاب جماعات التطرف في توظيف الطائفية في هذا الخصوص إنكاراً معلناً ومقصوداً لمفاهيم الوطنية والتعددية التي تنكرها أدبياتها منذ بدايتها حتى الآن، وما يتعلق بها من التعددية والاندماج تاريخاً وتعايشاً وواقعاً. وتصر على حديث الأمة في حال كانت التعددية ملية ودينية، أو «الفرقة الناجية» و«الطائفة المنصورة»، في حال كانت التعددية مذهبية وفرقًا مختلفة، كما هو الحال في العراق وسوريا. وكلا التوجهين يحاول تهميش مفهوم الوطن والدولة الوطنية لصالح أحلامها الأممية وتوجهها المحدود بطائفتها في الغالب.
راهناً، يبدو أن الاحتقان الطائفي المذهبي، السني - الشيعي، الأكثر اشتعالاً والتهاباً في المنطقة منذ غزو العراق عام 2003. ومع التوسع الإيراني المستمر لنظام الولي الفقيه، وتصدير ثورته الذي يعني نشر وكلائه والميليشيات التابعة له دون دولها الوطنية في عدد من كيانات منطقة الشرق الأوسط. وهي ميليشيات وجماعات دينية متشددة تدعمها دولة، وتتحد في أهدافها، وتنظمها سياسة واحدة و«ولي فقيه»، أو أمير ديني واحد، بعكس الشتات المتطرف السني المرفوض من جميع الدول السنية، ومحل مجابهة منها وصدام معها، ولكن يجد مبرره في الآخر الطائفي والمذهبي التوسعي، وهو ما يمثل خطراً برأيه على الطائفة السنية الغالبة التي يحاول تجنيدها.
كذلك يحضر التوظيف الطائفي الديني في البلدان التي لا تحتوي أقليات مذهبية كبيرة، شأن مصر، حيث تصعد أحداثه من آن لآخر بين المسلمين والمسيحيين، بحوادث من العنف العشوائي تنقلب طائفياً، أو بمحاولة مستمرة من تنظيمات العنف والتطرف، سواء في المنافسات السياسية والانتخابية طوال العقود الأربعة الماضية، أو في عمليات عنف متعمدة ضد الأفراد أو دور العبادة الخاصة بهم.
وفي كل الأحوال، تحقق الطائفية فرصة لتنظيمات التطرف في زعزعة هيبة الدولة، وإحراجها أمام مواطنيها، وثانية هي رهان مستمر على احتمال تفجير تعايش المجتمع وانقسامه، مما يمثل في النهاية فرصة هائلة لها للصعود، وقنص السلطة فيه.
معركة «الرمز» وصناعة النجوم
ثانيًا: تطالعنا منذ أول وهلة في خطاب الجماعات المتشددة تعبيرات فخمة، مثل «الرجل القرآني» و«الإمام الشهيد» و«مجدد الدين» و«العلامة الحبر الفهّامة»، حين تتكلم كل جماعة أصولية عن مؤسسيها وشيوخها وعناصرها والقريبين منها. وهنا تحضر مضامين التضحية والإخلاص والتوسع والعلم الشرعي العميق.
ويمكن أن تستهدف مضامين أخرى أيضًا ترويجًا لعدد من الشيوخ لمجرد فتاوى وإنتاج قليل من الخطب النارية المتطرفة المؤيدة لتوجهات وممارسات هذه الجماعات، رغم أنهم يفتقدون لوزن علمي كبير في مجالاتهم التخصصية.
ومن هذا القبيل، فعلت صورة «الشيخ العالم الضرير» الكثير في دعايات جماعات التطرف العنيف، من الشيخ عمر عبد الرحمن مصريًا بالخصوص، إلى السعودي الشيخ حمود عقلا الشعيبي (المتوفى سنة 2001)، إلى الشيخ الضرير مرشد التشدد في تونس الخطيب الإدريسي (المولود سنة 1955)، الذي مثل دافعاً رئيساً لهجرة الشاب التونسي إلى ساحات «داعش»، والقتال في سوريا والعراق، منذ عام 2014. وكذلك بسهولة يلاحظ اختفاء آثار كتّاب ومفكّرين مهّمين وجهل العامة بهم، بينما برز عبر الوسيط الأصولي من هم أقل منهم عمقاً وفكراً وأدباً، خصوصاً في مجال الفكر الإسلامي والهم الحداثي، بل نجح الهجوم الأصولي المتشدد والعنيف عليهم في إسكات أصواتهم، وانسحابهم الطوعي أو القسري من مجال الكتابة والإبداع، أو العيش انحباساً في دوائر ضيقة فقط، بينما انساح التأثير والنشر والترويج حكراً على رموز الأصولية في أحيان كثيرة.
أيضاً لم تتحقق نجومية الكثيرين إلا بعد تحولهم لاتجاه التنظيمات التي حملته، وقامت به وبمؤلفاته، وحملته على الأعناق، كما كان في حالة الراحل سيد قطب بعد عودته من الولايات المتحدة في صيف عام 1951، إذ استقبلته عناصر جماعة الإخوان في مطار القاهرة حاملين إياه فوق رؤوسهم، ولم يلبث أن تحوّل مفكّرهم ومنظرهم الأول، وبرز حضوره الجدلي في الفكر العربي الحديث بعدها. وهذا بعدما كان سيد قطب يشكو التهميش، وتجاهل أمثال أستاذه عباس محمود العقاد والعميد طه حسين، كما كتب معاتباً لهم في مجلة «الرسالة» في أربعينات القرن الماضي، وتجاهلهم لكتاباته، رغم أنه كان دائم الكتابة والاهتمام بما كتبوه، بينما لم يهتم ببعض أعماله سوى الأستاذ توفيق الحكيم... رحمهم الله. وهو في عتابه لهم كان ثائراً لأنه كتب عن كل كتاباتهم، بينما لم يكتب العميد أو العملاق عن كتبه مرة، في حين يكتبون عن غيره! ولكن بعد التحول والتشدد النظري والتنظيمي الذي انتقل إليه، صار صوته وحضوره أعلى من أساتذته حينها.
وفي السياق نفسه، حسبنا أن نذكر كتيب المتشدد السابق الراحل فارس آل شويل الزهراني (أبو جندل الأزدي)، عن مؤسس «القاعدة» أسامة بن لادن، الذي جعله بعنوان «مجدد الزمان وقاهر الأميركان». وهذا رغم أن المعروف أن بن لادن لم يترك أثراً علمياً، بل خطباً متشددة وحدثية وقائعية، ثم أنه لم يغير واقعاً إلا سلباً، ولم يقهر الأميركان، حسب دعواه.
وفي وثيقة استراتيجية تنظيم «القاعدة» في العراق الثانية، الصادرة أوائل يناير (كانون الثاني) 2010، التي نرى أنها احتوت خطتها التي نفذتها حتى وصولها «خلافة داعش» المزعومة سنة 2014، تتناول أزمة الرمز عندها بعد رحيل أبو مصعب الزرقاوي الذي يوصف بـ«العلامة» و«شيخ المجاهدين» الآن في أدبياتها، ورحيل قائديها السابقين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر الذي كانوا يصفونه بالدهاء الشديد أيضاً، رغم أن عارفيه شأن أبي عبد الله المنصور، شيخ «جيش المجاهدين»، يؤكدون أنه كان أسير الرؤى والنبوءات، كما كان حال بعض قادة حركة العدالة والإحسان المغاربية قبل أعوام!
ولكن في المقابل، يتجاهلون وهم يصفون الزرقاوي بما يصفونه به من العلم ما انتقد به من شيوخه في الأردن، شأن المقدسي فترة، أو ما انتقد به من شيوخ «القاعدة» نفسها، أو أنه دخل السجن فترة بجرائم سرقة وسطو في موطنه الأصلي، مصرين على ترويج صورة محددة تسكن وجدان المنتمي، وتغري اللامنتمي، ليس غير.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».