الحرب الـ13 بين تركيا وإيران دونها «المخاوف المشتركة»

رغم خلافاتهما الكبيرة حول سوريا والعراق واليمن والخليج العربي

الحرب الـ13 بين تركيا وإيران دونها «المخاوف المشتركة»
TT

الحرب الـ13 بين تركيا وإيران دونها «المخاوف المشتركة»

الحرب الـ13 بين تركيا وإيران دونها «المخاوف المشتركة»

تشهد العلاقات التركية - الإيرانية موجة جديدة من التوتر الكبير، مدفوعة بعوامل الاختلاف الكبيرة بينهما حول ملفات المنطقة، وأبرزها سوريا. لكن هذه الموجة قد لا تكون بداية «الجولة الـ13» من القتال بينهما، فالمتابعون للعلاقة بينهما ما زالوا مقتنعين بأن «ضوابط» العلاقة الاستثنائية بين الطرفين ما زالت قائمة، وأن هذا الحدث الجديد لن يؤدي بهما إلى مواجهة ما... بانتظار حدث آخر. ويرى مراقبون أن العلاقة بين الطرفين تصلح لأن تكون نموذجًا يدرس حول كيفية حماية تغليب المصالح على عوامل الصراع الكثيرة والكثيرة بين البلدين اللذين يختلفان في كل شيء تقريبًا.. إلا واقعيتهما وبراغماتيتهما. لكن الباب يبقى مفتوحًا على خيار المواجهة بينهما في ظل تصاعد التوتر في المنطقة إلى حد قد لا تصلح معه براغماتية المائتي عام الماضية في عدم تكرار الحروب بينهما، وآخرها معركة جالديران في عام 1514، التي دار نقاش في تركيا حول إحياء مئويتها الثانية في عام 2014، لكن غض النظر عنه تفاديًا للتوتير مع إيران، خصوصًا أن التوتر بين البلدين كان مرتفعًا آنذاك.
حول النزاع التركي - الإيراني المتجدد، يقول أسعد حيدر، الباحث والكاتب اللبناني المتخصص بالشأن الإيراني إن تاريخ العلاقات بين البلدين كان دائمًا متوترًا وغنيًا بالمزاحمات والمنافسات، ويعود ذلك إلى نشأة الدولة الصفوية وتحولها إلى المذهب الشيعي بدفع من الإنجليز الذين عملوا على ذلك لإضعاف الفريقين، وعدم تحولهما إلى قوة إقليمية كبرى. ويشير حيدر إلى أن القرون الثلاثة الأولى من عمر العلاقات بين الجانبين حفلت بالحروب التي انتهت إلى التعادل في الانتصارات والخسائر، ففاز كل منهما بـ5 حروب وخسرا مثلها، كما انتهت حربان بلا غالب ولا مغلوب. وبعد نهاية آخر حرب بينهما في عام 1823 وتوقيعهما معاهدة سلام، انتقلت المنافسة إلى تحت سقف عدم المواجهة المباشرة، واستمر التعايش حتى يومنا هذا بسبب خوف الطرفين من عواقب المواجهة المسلحة.
تاريخيًا أبرم البلدان المعاهدات لتثبيت حدودهما واعتراف كل منهما بالآخر.. إيران للشيعة والدولة العثمانية للسنّة، وهو الأمر الذي تم في معاهدة زهاب الموقعة عام 1639، ليتحوّل الصراع على النفوذ «عقائديًا» في المنطقة بين الدولة الإيرانية الشيعية والدولة العثمانية السنّية، ومن بعدها وريثتاهما؛ الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية العلمانية التركية.
ويتفق البلدان على تجنب المواجهة، لكنهما يختلفان في كثير من الملفات المتعلقة بالصراع على النفوذ بدءًا من جمهوريات آسيا الوسطى ووصولاً إلى العالم العربي، حيث تشكل الأزمة السورية عنوانًا فارقًا في العلاقات بين بلدين يتحالفان ويتصارعان في الوقت نفسه.
وبعد انهيار الدولة العثمانية ووصول العلمانيين إلى السلطة في تركيا بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»، تحوّلت العلاقة بين الطرفين إلى الدفء الشديد الذي غدا تحالفًا بين الطرفين المتمثلين بـ«أتاتورك» وخلفائه والشاه الإيراني رضا شاه في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات. وفي 22 أبريل (نيسان) 1926، وقع البلدان في طهران «معاهدة صداقة» تنص مبادئها على الصداقة والحياد وعدم الاعتداء على بعضهما بعضًا. ونصت المعاهدة على إمكانية القيام بعمليات عسكرية مشتركة ضد «المجموعات في أراضي البلدين التي تسعى لتعكير صفو الأمن أو تحاول تغيير نظام الحكم في أي من البلدين»، في إشارة إلى الأقلية الكردية في البلدين.
وفي 23 يناير (كانون الثاني) 1932 وقع البلدان في طهران معاهدة ترسيم حدود نهائية. كذلك تقارب البلدان في مواجهة «الخطر السوفياتي» ووقفا سدًا أمام «التمدد الشيوعي» في المنطقة ووثقا تحالفهما مع الولايات المتحدة وتنامت قوتهما العسكرية إلى حد كبير ليصبح كل منهما «شرطيًا» في منطقته يهدد البلدان المجاورة، واعترفا معًا بإسرائيل ووثقا علاقتهما بها. وفي عام 1955 انخرطا معًا في تأسيس منظمة «الحلف المركزي» أو «حلف بغداد». وبعد فشل حلف بغداد، تأسس في عام 1964 مجلس التعاون الإقليمي للتنمية بهدف إقامة مشاريع اقتصادية مشتركة بين تركيا وإيران وباكستان.

الثورة الخمينية
في أواخر السبعينات تعرض البلدان لـ«ثورة» من جهة و«انقلاب» من جهة أخرى، إذ انتصرت ثورة الخميني في طهران عام 1979 وتصادم النظام الإيراني الجديد مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. وفي عام 1980 جاء الانقلاب العسكري في تركيا بقيادة كنعان إفرين الذي أصبح رئيسًا للجمهورية التركية لتعود العلاقات إلى مرحلة الفتور، لكن العلاقات عادت لتشهد نوعًا من الانتعاش بسبب الحرب العراقية - الإيرانية واضطرار إيران إلى استعمال تركيا كرئة تتنفس من خلالها اقتصاديًا، فعمدت إلى تمرير صادراتها ووارداتها عبر حدودها مع تركيا، التي تمتد من شمال غربي إيران وجنوب شرقي تركيا بطول 499 كيلومترًا.
ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وظهور الدول الآسيوية المستقلة عنه في منطقة آسيا الوسطى وبحر قزوين، ظهر صراع إقليمي جديد بين إيران وتركيا على مناطق النفوذ هناك. فهذه المنطقة الممتدة من كازاخستان شرقًا وأذربيجان غربًا تشكل امتدادًا جغرافيًا وثقافيًا للبلدين، وفيها ثروات نفطية وغازية كبيرة. فسارعت تركيا إلى توقيع اتفاقات اقتصادية وثقافية عدة، توجت باعتماد الصيغة التركية للأبجدية اللاتينية كأبجدية رسمية لدول آسيا الوسطى بدلاً من الأبجدية الروسية السلافية مع الاستبعاد النهائي للأبجدية الفارسية ذات الأحرف العربية التي تنازعت إيران مع تركيا عليها. وفي المقابل ترتبط إيران بعلاقات تاريخية مع تلك المناطق التي كان بعضها جزءًا من الإمبراطورية الفارسية التي فقدتها في حروبها مع روسيا كحال جمهورية جورجيا الحالية ومناطق كبيرة في أذربيجان. أما معاهدة غُلستان 1828 فقد سلخت من إيران كل الأراضي الواقعة شمال نهر آراس (أراكس) على تخوم القوقاز، ومنها يريفان عاصمة أرمينيا.
ولهذا كله لم يكن غريبًا أن ينفجر الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على الأرض، أما اللافت فكان أن إيران وقفت إلى جانب أرمينيا المسيحية في حربها ضد أذربيجان المسلمة المدعومة من تركيا.

العراق وسوريا
في المقابل، أدى احتلال العراق لزيادة نفوذ إيران في المنطقة بتحكمها في العراق عبر الحلفاء. وهكذا استطاعت إيران تعويض خسائرها بعد أن كانت الكفة تميل لمصلحة أنقرة بعدما حسمت الصراع على طرق نقل أنابيب النفط من بحر قزوين وآسيا الوسطى لمصلحتها. ويأتي دور سوريا التي تراها إيران معبرًا استراتيجيًا لها إلى مواجهة إسرائيل والوصول إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، فيما ترى فيها تركيا بوابة إلى العالم العربي تجاريًا واقتصاديًا وسياسيًا في ظل الحذر الذي قابلت به الدول العربية الأخرى العودة التركية إلى المنطقة. ويصف الكاتب التركي محمد زاهد غُل العلاقات التركية - الإيرانية بأنها «علاقات أخوية وتعاون بين دولتين إسلاميتين، تربطهما حدود وعلاقات جيوسياسية مهمة»، ويؤكد أن الحكومات التركية على الدوام سعت إلى علاقات اقتصادية قوية مع إيران، مشيرًا إلى أنه «لم تسؤ العلاقات بينهما إلا بسبب السياسة الطائفية للحكومات الإيرانية المعاصرة، وبالأخص، عندما دعمت إيران الأطراف السياسة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها لأسباب طائفية فقط».
ويتابع غُل: «إيران عملت على صناعة محور سياسي وعسكري وطائفي في المنطقة أدى إلى توتير الأوضاع وزعزعة استقرار دول المنطقة، وقتلت ملايين المسلمين في هذه الدول منذ قيام الجمهورية الإيرانية، وهذا ليس في صالح إيران ولا الدول العربية والإسلامية في المنطقة، والسبب أن إيران أساءت قراءة الأحداث التي تبعت ما أطلق عليه ردات الربيع العربي، وما أطلق عليه من قبل (الفوضى الخلاقة) التي دعت إليها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس عام 2006. إيران ظنت أن الظروف مواتية لها للتمدد السياسي تحت مساعدة التيارات السياسية والعسكرية الشيعية في المنطقة، وغرّ إيران السكوت أو الضوء الأخضر الأميركي لنشر ميليشياتها في المنطقة، وربما كان ذلك ضمن تفاهمات الاتفاق النووي الإيراني مع جون كيري. ولكنها الآن للأسف تحصد سلبيات ذلك، لأن إيران لا ولن تستطيع حكم شعوب المنطقة إطلاقًا ومهما قتلت منها، ولذلك فإن تركيا تريد علاقات صداقة صادقة مع إيران وضمن علاقات دولية صحيحة، إذا تعذر إقامتها على أساس أخوي، وليس على أسس طائفية ولا تدخل في شؤون الغير، وإلا تحولت العلاقات إلى ما لا تحمد عقباه».

مبادلات بالذهب... وفساد بالمليارات
وعودة إلى أسعد حيدر الذي يقول: «خلال الـ38 سنة التي تلت قيام الدولة الإيرانية الجديدة، كان هناك خوف من أن يصدم التوجه الديني للثورة الإسلامية مع العلمانية التركية، لكن الأمر لم يحصل. فالمقاطعة الاقتصادية، والمالية تحديدًا، التي قادتها الولايات المتحدة دفعت إيران مجبرة إلى الانفتاح أكثر على تركيا. وفي السنوات العشر الأخيرة تحولت تركيا إلى رئة اقتصادية لإيران مرت عبرها مختلف أنواع التجارة الإيرانية والنفط». ويضيف: «الطرفان تبادلا السلع بالذهب، حتى لا يدخلا بالتعقيدات المصرفية الناتجة عن العقوبات، وهذا أدى إلى نوع من الفساد في صفوف الطرفين، لأن العقود الضخمة بينهما فتحت المجال أمام هذه التجاوزات، وكان آخرها وأوضحها إعدام باباك ونجاني الذي كان سائقًا لدى أحد ضباط الحرس الثوري، وانتهى به الأمر خلال 10 سنوات إلى أن يصبح من أهم مليارديرات إيران. ولقد أعدم على عجل فيما يبدو أنه محاولة للتهرب مما قد تظهره محاكمته من أنه واجهة لفريق كبير من النافذين في الحرس الثوري» كما قيل آنذاك، على الرغم من محاولات الرئيس محمد روحاني تأجيل الإعدام والتوسع في المحاكمة.
ويوضح حيدر أن العلاقات مع تركيا كانت حجر الرحى في السياسة الاقتصادية لإيران خلال السنوات العشر الأخيرة، حتى ما قبل الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، ولذلك كان يتم بالتضحية بكثير من الشروط والقضايا في سبيل تخفيف الضغوط عن إيران. لكن عندما بدأت الحرب في سوريا ظهرت الهوة الكبيرة بينهما. وهذه الهوة تعمّقت وتوسعت والعمود الأساسي فيها كان مصير (رئيس النظام السوري بشار) الأسد الذي تعتبره طهران «الضلع الثالث» في «محور المقاومة» بعدها وبعد «حزب الله» اللبناني. وانطلاقًا من هذا مارست إيران أقصى درجات التشدد لإنقاذه، فكان من الطبيعي أن تختلف مع تركيا التي كان موقفها الأساس في سوريا «لا للأسد».
ويرى حيدر أن ما زاد في تعميق الأزمة حاليًا هو الانقلاب في الموقف التركي في سوريا، حيث حافظت أنقرة على موقفها من الأسد، لكنها اتجهت للاتفاق مع روسيا، فشعرت طهران أن الاتفاق تم على حسابها، وتأكدت شكوكها عندما بدأت روسيا تدخل تدريجيًا في الوضع السوري وتصبح الأولى في اتخاذ القرار، وغيران رغم كل ما قدمته من «تضحيات» الثانية، وهي التي كانت تتوقع أن تكون الأولى، خصوصًا أن الأسد في معادلة التفاضل بين روسيا وإيران، لا يضحي بإيران، لكنه لا يترك روسيا. وهذا التناقض أسهم في رفع التوتر مع تركيا. وزاد الأمر، أن تركيا رفعت من مستوى علاقاتها وتضامنها مع المملكة العربية السعودية، وهو ما ظهر في مواقف القادة الأتراك أخيرًا، فصعدت إيران.

التدخلات الإيرانية... والأكراد
ويرد زاهد غُل التوتر في العلاقات إلى «سبب واحد ووحيد، هو التدخل الإيراني في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي دول الخليج، لجعلها دولاً ضعيفة وتابعة لولاية الفقيه الإيراني في قُم وطهران. وللأسف، فإن السبب الوحيد يقوم على تفكير طائفي يضر بالدول الإسلامية قبل غيرها بما فيها إيران. وهذا السبب لا تستطيع إيران تكذيبه فهو أوضح من الشمس، فكل الألوية التي يعقدها الحرس الثوري في هذه الدول تحمل الأسماء الطائفية أولاً، ولا تقتل إلا من أبناء المسلمين السنة ثانيًا، والعلاقات المشبوهة بين الحرس الثوري الإيراني وتنظيم داعش لا تخفى على متابع!!!، والدول الأوروبية وأميركا التي شجعت إيران على هذا السلوك الإيراني العدواني مدركة لفائدته لها ولأمن إسرائيل».
لكن حيدر يجزم بأن إيران لن تدخل في حرب، أو مواجهة، أو حتى في حرتقات أمنية مع تركيا. ويرد ذلك إلى عامل أساسي هو الحدود المشتركة، والمشكلة المزدوجة مع الأكراد. فـ«الطرفان يتفقان على عدم استعمال الورقة الكردية في مواجهة أحدهما للآخر، لأن الأمر مضر لهما معًا، ولذلك يعملان على تأطير أي خلاف. كما أن الطرفين يتفقان على رفض تقسيم سوريا، لأنه قد يمتد إليهما، معتبرًا أن إيران وتركيا وضعتا خطوطًا حمراء وسقفًا محددًا لا يمكن تجاوزه في العلاقة بينهما بحيث لا تنفجر العلاقة وتتحول إلى صدام». ويشدد على أن الطرفين يحتاجان بعضهما اقتصاديًا، وهما يعملان على رفع التبادل التجاري بينهما إلى حدود 30 مليار دولار. ويخلص إلى أن الروابط المعقدة تجعل العلاقة مليئة بكثير من الضوابط لمنع تحولها إلى صدام مستقبلي بانتظار حصول حدث مستقبلي جديد.
أما غُل فيرى في المقابل، أن «العلاقات المستقبلية تقوم على حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى»، منتقدًا «محاولات إيران دعم الميليشيات الحزبية التي تستهدف الأمن القومي التركي للخطر هو ضد تحسين العلاقات». ويوضح: «لا يمكن إخفاء أن إيران من خلال حرسها الثوري قدمت الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، ولحزب العمال الكردستاني في العراق، وهما حزبان يستهدفان الأمن التركي بالتفجيرات الإرهابية، وإضافة لذلك، فالإعلام الإيراني الرسمي لا يتوقف عن الإساءة إلى القيادة السياسية في تركيا وحزب العدالة والتنمية، وتقف إلى جانب المشككين بالدور التركي في المنطقة، وهذا يعني أن القيادة السياسية الإيرانية تضع تركيا في خانة الأعداء، وإلا لغيرت سياستها الإعلامية على الأقل، وتغير السياسة الإعلامية الإيرانية نحو تركيا يعني أن إيران غلبت المصالح الأخوية والاقتصادية على العوامل الآيديولوجية الطائفية الضيقة، وهو ما تأمله تركيا».



«الشرق الأوسط الجديد» كما يريده نتنياهو

نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
TT

«الشرق الأوسط الجديد» كما يريده نتنياهو

نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)

بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إحدى قمم جبل الشيخ التي احتلها جيشه للتو، وأعلن عن بقاء إسرائيل في هذا المكان لفترة طويلة. وبعد ثلاثة شهور، في مارس (آذار) 2025، عاد إلى هناك ليقول: «لقد غيّرنا وجه الشرق الأوسط». أثار هذا التصريح ردوداً ساخرة من خصومه نتنياهو، الذين تساءلوا إن كان التغيير في صالح إسرائيل أم ضد مصالحها؟ لكن جوقة أنصاره النشيطين على الشبكات الاجتماعية احتفلوا بـ«الانتصار الكامل». أما أجهزة الأمن، ففتحت الجوارير وأخرجت الخرائط القديمة، التي أُعدت وفق خطط لتمديد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. ولا غرابة؛ فإسرائيل تعِد خطط هيمنة واحتلال بعيدة المدى لكل دولة من «دول الجوار». وفي الحكومة الحالية أحزاب لا تكتفي بتلك الخطط، بل تريد أكثر. وهذه وإن بدت أحزاباً صغيرة ومتطرفة، فإنها ذات تأثير كبير على نتنياهو وعلى السياسة الإسرائيلية. وهي التي تمنع التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب وإلى صفقة تنهي ملف المحتجزين، وهي التي تمنع تنفيذ اتفاق وقف النار في لبنان، وتفرض «أمراً واقعاً» يمهد لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.

خطط التوسع الإسرائيلية، بالمناسبة، لا تقتصر على اليمين، بل تأتي أيضاً من الأجهزة الأمنية وأيضاً تحظى بدعم القيادة السياسية.

بعضها خطط جديدة، لكنها مستنبطة من التاريخ، حين كانت الحركة الصهيونية تخطّط لبسط حدود الدولة «من النيل حتى الفرات»، والعَلم الإسرائيلي الذي يتألف من خطين أزرقين تتوسطهما «نجمة داوود» يرمز إلى هذه الحدود. إلا أنهم عندما «تواضعوا»، اكتفوا بضم مقاطع من الجنوب السوري والجنوب اللبناني والغور الأردني (شرقي النهر) وحتى غزة ومقاطع من سيناء المصرية.

الفكرة

معهد «مسغاف» للأبحاث وضع في مارس (آذار) الماضي، خطة لإسرائيل الجديدة، أطلق عليها اسم «إسرائيل 2.0».

هذا ليس مجرد معهد دراسات، بل هو تابع لنتنياهو. وأُسس فقط عام 2023، ويترأسه مئير بن شبات، الذي عمل مستشار الأمن القومي في الحكومة وكان «رجل المهمات الخاصة» عند لنتنياهو ومبعوثه إلى الدول العربية والغربية.

يقول المعهد في مقدمة المشروع «هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ليس أقلّ من جرس إنذار لدولة إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي. يدور الحديث عن حدث يغيّر قواعد اللعبة ويُلزم الدولة والمجتمع لإعادة التفكير السريع واستيعاب الضرورة في التكيّف والتغيير. على دولة إسرائيل أن تشهد عملية إعادة تنظيم شاملة، إلى جانب تغيير الأسطورة القومية وتكييفها مع الظروف المتغيرة. إسرائيل، التي كانت قائمة حتى السابع من أكتوبر، بروح التقاليد السيادية اليهودية على مرّ الأجيال، لنحو ثمانية عقود – عليها الآن أن تتجدّد، أن تُحدّث نفسها، وأن تعيد صياغة هويتها من جديد استعداداً للعقود المقبلة. من نواحٍ عديدة، يجب اعتبار هذه الحرب حربَ نهوض، حيث ينبثق من وسط الظلمة الشديدة نور كبير وتنبعث دولة جديدة، من بين الأنقاض».

كيف يرون النهوض؟

النهوض يعني أنه «لا بدّ من بلورة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها ضمن إطار سياسي واسع النطاق قدر الإمكان، أي بمشاركة المعارضة في الكنيست، مع تنسيق منظومة تفاهمات استراتيجية شاملة قدر الإمكان مع الولايات المتحدة. ويجب أن تتضمن، بالضرورة، اتفاقات في القضايا الرئيسة التالية: القضاء على الخيار النووي الإيراني، والتوصل إلى تفاهمات مع تركيا بشأن البنية الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط وتقاسم المصالح في سوريا، ووضع حد لخرق مصر لاتفاقية السلام، واستغلال الفرصة التاريخية للعمل بمزيد من الاستقلالية، الحزم والمبادرة من أجل التأثير في رسم ملامح منطقة الشمال الإسرائيلية مستقبلياً. وبجانب العمليات العسكرية الناجحة لتدمير ما تبقّى من الجيش السوري، وتعزيز الوجود الإسرائيلي على الحدود مع سوريا، ينبغي التحرّك سياسيّاً لضمان ألّا يُشكّل النظام القادم في سوريا تهديداً لأمن إسرائيل».

أيضاً، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل اليوم منصب وزير ثان في وزارة الدفاع، أيضاً نشر «خطة الحسم» (مجلة «هشيلواح») عام 2017، وأوضح أنه يرى في الأردن «دولة فلسطينية».

وفي بداية الحرب تحدث نتنياهو نفسه عن ضرورة «إعادة هندسة الوعي العربي» ليتقبلوا إسرائيل، كما حصل مع اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية وكذلك مع الألمان. إذ كره اليابانيون جيشهم وكره الألمان النازيين، وراح الشعبان يشيدان بالولايات المتحدة «التي خلصتهم من أعباء هذا الإرث»، وإسرائيل القوية الممتدة على النطاق الواسع الحالي (أي أيضاً في سوريا ولبنان)، هي أقصر الطرق لتحقيق هذه القناعة».

الترجمة العسكرية

الجيش من جهته، تلقف أجواء الحكومة، وأعلن تعديل عقيدته الحربية في ضوء الإفادة من تجربة «7 أكتوبر»، فقرّر أن هجوماً على إسرائيل شبيهاً بهجوم «حماس» في ذلك اليوم، يمكن أن يُشَن من جميع «دول الجوار». ولذا؛ ثمة شكوك وقلق إزاء جميع الجبهات، وبناءً عليه ستكون حماية أمن إسرائيل بالاعتماد على الذات، وبتعزيز آلية الانتقال من الردع والدفاع، إلى الدفاع الهجومي، أي الهجمات الاستباقية.

كذلك تقرّر إنشاء ثلاث «دوائر أمنية» مع «دول الجوار»:

- الدائرة الأولى، «خط دفاع» قوي داخل الحدود الإسرائيلية مع حشود قوات وحفر خط دفاع على طول الحدود وتوفير شبكة إلكترونية محبوكة.

- الدائرة الثانية، «حزام أمني» داخل «أرض العدو» على طول الحدود يحظر دخول أي إنسان إليه من دون ترخيص إسرائيلي («حزام أمني» كهذا موجود في الجنوب اللبناني وفي سوريا وفي غزة).

- الدائرة الثالثة، إعلان «منطقة منزوعة السلاح» في عمق الدولة المجاورة (في سوريا حُددت من دمشق وحتى الجنوب والغرب، وفي لبنان من نهر الليطاني وجنوباً، وفي غزة كل القطاع). وبدأ بشكل عملي تطبيق الخطة.

هكذا مهّد الجيش الطريق للقيادة السياسية اليمينية كي تتخذ القرارات السياسية التي تبين أن إسرائيل غيّرت نهجها، وتريد لنفسها مكانة مؤثرة في دول الجوار. وهي تفعل هذا على النحو التالي:

آثار غارة إسرائيلية استهدفت موقعاً في محافظة حماه السورية (آ ف ب)

سوريا

بالنسبة لسوريا، عادوا لفتح الجوارير القديمة ليستلوا المشروع الصهيوني العتيق للسيطرة على أرض الجولان السوري ومنابع المياه فيها. ذلك المشروع طرحته القيادة الصهيونية عام 1919، إبان «مؤتمر فرساي»؛ في محاولة لتعديل «اتفاقيات سايكس بيكو». وعام 1925، طرحت الصهيونية فكرة تقسيم سوريا (ولبنان) إلى دويلات، بحيث تكون «جارة» إسرائيل العتيدة من الشرق دولة درزية. واشترت الحركة الصهيونية 450 ألف دونم من أراضي الجولان؛ تمهيداً لتطبيق الفكرة. ويوم 9 يناير (كانون الثاني) من 2025، قال مسؤول إسرائيلي كبير لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، إن «العالم يعمي أبصاره عن رؤية الخطر الكامن في النظام السوري الجديد؛ فقيادته، رغم ما تبديه من رغبة للتقرّب إلى الغرب، تعدّ جزءاً أصلياً من الجهاد الإسلامي العالمي. والرسائل الإيجابية في التعامل مع مصالح الغرب وحتى إسرائيل جزء من مخطط بعيد المدى (تتمسكن لتتمكّن)، وعندما تتمكّن ستظهر حقيقتها المعادية لإسرائيل وللغرب. قد يستغرق الأمر سنة أو سنتين أو 10 – 20 سنة، لكنها لن تحيد عن أهدافها الاستراتيجية».

ويوم 8 مارس (آذار)، أعلن نتنياهو، وفق صحيفة «معاريف»، أن الجيش الإسرائيلي «لن يسمح لقوات الهيئة بالتمركز في أي منطقة جنوب دمشق، وسيحافظ على نفوذه هناك حتى توقيع اتفاق إسرائيل - سوري دولي ينهي حالة العداء ويؤسس السلام التام معنا، بكل ما يتطلب هذا من ضمانات لأمننا». وهنا بيت القصيد. إذ يكشف نتنياهو عن أن الضغط على سوريا اليوم يرمي إلى الوصول إلى «اتفاق سلام» ينهي حالة الحرب، وحالة الـ«لا حرب ولا سلم». وحتى ذلك الحين، يدير نتنياهو مفاوضات مع تركيا لتقاسم النفوذ بينهما على سوريا.

إنه يريد سحب اعتراف من إدارة الحكم الجديدة في سوريا ومن تركيا بأنها - أي تل أبيب - كانت صاحبة التأثير الأكبر لسقوط نظام بشار الأسد، وبالتالي تطلب مكافأتها على ذلك. وعندما اكتفى أحمد الشرع بالإعلان أنه غير معني بالحرب ويلتزم باتفاق فصل القوات من عام 1974، قرّرت إسرائيل مخاطبته بلغتها المألوفة: الحديد والنار. فشنّت أكثر من 500 غارة حربية على مواقع الجيش السوري ودمرت «نحو 85 في المائة من قدراته الدفاعية»، كما زعمت. وواصلت شن الغارات من مطار حمص حتى قلب دمشق واحتلت كل قمم جبل الشيخ و400 كلم مربع من الأراضي الواقعة شرقي الجولان المحتل من سنة 1967.

البروفسور آفي برئيلي، المؤرّخ في جامعة بن غوريون بالنقب، يقول: «إن أقل ما يمكن أن تقبله حكومة بنيامين نتنياهو من سوريا اليوم هو تقاسم النفوذ مع تركيا». ويتابع في صحيفة «يسرائيل هيوم» (عدد الثلاثاء) إن «المصلحة الواضحة لإسرائيل هي تجنب الصراع المباشر مع تركيا، الآن طبعاً، ما دام لا يزال التهديد الإيراني قائماً، ولكن أيضاً في المستقبل. لا نريد أن نواجه دولة قوية وعضواً في (ناتو). كما أن للولايات المتحدة مصلحة في منع صراع بين حليفين رئيسين لها، تأمل من خلالهما تحقيق الاستقرار في المنطقة. ومن أجل تجنب الصراع، يتطلب الأمر تقسيماً واضحاً: تركيا والنظام الذي أنشأته في دمشق سيتفهمون وجودنا وتأثيرنا في الشام وجبل الدروز، ولن يثيروا ضدنا السُّنة في محافظة درعا كما حدث أخيراً؛ بينما ستتجنب إسرائيل دعم الأكراد السوريين، أعداء تركيا، في الشمال والشرق. هذا التقسيم الواضح بين تركيا وإسرائيل في سوريا هو مفتاح استقرار المنطقة».

ولكن بنيامين نتنياهو، كان قد ألمح لأمر آخر هو «جلب» سوريا بقيادتها الجديدة الى «اتفاقيات إبراهيم». والهدف ليس التوصل إلى السلام القائم على احترام حدود وموارد كل دولة للأخرى، بل انتهاز الفرصة التي تبدو فيها سوريا في أضعف أحوالها كي يضم أكبر قدر من الأراضي السورية لإسرائيل بدءاً بالجولان الغربي وحتى الجنوب.

حكومة تل أبيب مقتنعة بأن «العرب لا يتألمون ولا يشعرون بنتائج هجماتهم البدائية إلا إذا أخذت منهم أرضاً». وبالإضافة للأراضي التي يسيطرون عليها اليوم يتكلم الإسرائيليون عن «محور داوود»، من جنوب الجولان وحتى التنف، ومن هناك إلى دير الزور والحدود مع كردستان العراق، وتريد إسرائيل السيطرة عليه في حال غادر الأميركيون المنطقة.

الجيش الإسرائيلي أعلن تعديل عقيدته

الحربية بعد «7 أكتوبر» خوفاً

من هجوم واسع

لبنان

لا يختلف الموقف من لبنان كثيراً عن الموقف من سوريا. فبحسب الرسالة المذكورة إلى فرساي طلبت الصهيونية قبل أكثر من 100 عام ضم الجنوب اللبناني من الليطاني إلى تخوم الدولة العبرية العتيدة. وعندما طرحت فكرة «الدولة الدرزية» عام 1925، قصدت تفتيت الطائفة العربية عملياً، وهي التي كانت موحّدة مع عرب الشام تحت قيادة زعيم الثورة السورية سلطان باشا الأطرش، وهو الدرزي الذي سارت وراءه وتحت قيادته جميع الطوائف. وعام 1946 اقترحت مجدداً إنشاء دولة درزية، وأوضحت أنها تقصد ضم العرب الدروز من لبنان ومن سوريا معاً. ولما أفشلت القيادة الدرزية ذلك المخطط، راحت تخطط للبنان أن يكون «دولة مسيحية» منسلخة عن بقية الطوائف. وتدخّلت بعمق في السياسة اللبنانية، حتى قبل حراك الثورة الفلسطينية في لبنان.

وإبّان الحرب الأهلية تحوّلت إسرائيل لاعباً فاعلاً ونشطاً. وحتى عندما انسحبت إسرائيل من لبنان، بشكل أحادي الجانب، عام 2000، لم تترك لبنان لحاله، بل واصلت التدخل والعبث بشؤونه الداخلية. ولعل أكبر مثل لعمق هذا التدخل، هو جمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ عمليات اختراق من «الموساد» لأدق المواقع والأطر، وعلى رأسها «حزب الله»، والتي مكَّنتها من القيام بعملية الاغتيال الجماعي لنشطائه بواسطة أجهزة الاتصال المفخخة وتصفية قياداته العليا والوسطى، من حسن نصر الله ونازلاً. وهي تحتل راهناً تسع مناطق في الجنوب اللبناني «لفترة طويلة»، إلى حين تقتنع بأن الجيش يسيطر على المنطقة.

الأردن

على الرغم من اتفاقيات السلام والتنسيق الأمني مع الأردن منذ عام 1994، لم يتنازل اليمين الإسرائيلي عن حلمه تحويل الأردن دولة فلسطينية بدلاً من أن يكون المملكة الهاشمية. وطموحه هو أن تطرد إسرائيل أكبر عدد من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة إليه. وهو لا ينفي ذلك، بل يتحدث عنه علناً ويجعله جزءاً من مشروعه السياسي الرسمي.

مصيبة

إن مصيبة إسرائيل أنها تؤمن بأن قوتها العسكرية تجعلها قادرة على تحقيق هذه الطموحات. ولقد انتقد هذا التوجه، حتى البروفسور أفرايم عنبار، مدير المعهد الأورشليمي للاستراتيجية والأمن، الذي يعتبر معقلاً للعقائديين اليمينيين، وقال في دراسة نُشرت مطلع الشهر الحالي: «قدرة إسرائيل أو جهات فاعلة من خارج المنطقة، وحتّى قوى عظمى، على هندسة دول في الشرق الأوسط سياسيّاً قدرة محدودة جدّاً. لقد فشلت إسرائيل عند دخولها إلى بلاد الأرز في عام 1982 في محاولة لتغيير الحكومة في لبنان. ولم تنجح الولايات المُتّحدة، التي تملك جيشاً ضخماً وموارد هائلة، على فرض نظام ديمقراطيّ موالٍ للغرب في أفغانستان والعراق. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الاتّحاد السوفياتيّ، الذي عمل في أفغانستان عسكريّاً».
وأخيراً، يقول اللواء احتياط يسرائيل زيف، المعلّق في «القناة 12» في التلفزيون الإسرائيلي، إن «العجلة تدور. بينما يصرّ نتنياهو على الحرب، يعيد العالم ترتيب الشرق الأوسط من دوننا... لقد فاتنا القطار».