السودانيون يتطلعون لـ«ركوب التونسية»

ضمت أجنحتها وطارت من الخرطوم قبل ربع قرن

شارع مطار الخرطوم وتبدو طائرات رابضة على المدرج
شارع مطار الخرطوم وتبدو طائرات رابضة على المدرج
TT

السودانيون يتطلعون لـ«ركوب التونسية»

شارع مطار الخرطوم وتبدو طائرات رابضة على المدرج
شارع مطار الخرطوم وتبدو طائرات رابضة على المدرج

ما إن تداولت الوسائط مقطع الفيديو الشهير «بن علي هرب»، معلنًا انتصار الثورة التونسية فاتحة الأبواب لثورات «الربيع العربي»، حتى حرّف السودانيون الذين يتشوقون لربيعهم الخاص الخبر على طريقتهم الخاصة وقالوا: «بن علي ركب التونسية». ومن يركب «التونسية» عندهم، هو من يهرب أو يسقط أو يقع في شر أعماله، أو يروح ضحية مقلب كبير. ولا يعرف ماذا يقصدون بهذه «التونسية» التي تسوق راكبها إلى الهاوية أو الذهاب باتجاه واحد دون عودة، وليس بالضرورة أن يكون مقصودًا بها «الخطوط الجوية التونسية»، ذات الصيت الحسن بين شركات الطيران.
وتختلف الروايات حول منشأ القول الشعبي: «ركب التونسية»، فوفقًا لتدوينة للكاتب محمود عبد العزيز على موقع «سودانيز أون لاين»، فإن الخيال الشعبي اشتغل على أن السودانيين الذين كانوا يعملون في السعودية من دون إقامات نظامية منتصف سبعينات القرن الماضي، كانت سلطات الجوازات تعيدهم إلى بلادهم بطائرة الخطوط الجوية التونسية، التي كانت تحتفظ بسفريات منتظمة بين الخرطوم ومدينة جدة، ومن هنا جاءت التسمية، فإذا تناقل المقيمون في السعودية أن فلانًا «ركب التونسية» فهذا يعني أنه خرج من هناك بـ«كشة» ودون عودة. وبعد أن انتشرت العبارة «المستوردة» في السودان، حملت مدلولات أخرى.
كانت مكاتب الخطوط الجوية التونسية تحتل موقعًا متميزًا وسط الخرطوم، وتطل لافتتها الضخمة على «شارع الجمهورية» أحد أشهر شوارع المدينة، وتحديدًا وسط السوق «الإفرنجية» بالقرب من محلات «ميرزا» الشهيرة. وكانت الساحة ملتقى للعشاق ومحبي التسكع في ليالي الخرطوم، أيام كانت مدينة تسهر حتى الصباح، وكان ليلها خاصًا وحميمًا، وتغزل بها أشهر الشعراء وغنى لها الموسيقي المخضرم شرحبيل أحمد: «يا جمال النيل والخرطوم بالليل» من أشعار التجاني حاج موسى.
لكن منذ نحو ربع قرن، وبعد أن تحولت الخرطوم إلى مدينة نؤوم تدخل سريرها باكرة أوائل تسعينات القرن الماضي، خلت ساحة «ميرزا» من المسافرين على «التونسية»، وخاصمت طائراتها سماوات السودان، وأنكرت أيامها في مطار الخرطوم، مثلها مثل شركات الطيران الشهيرة الأخرى «لوفتهانزا، كي إل إم، بريتش إيروايز، وغيرها»، ربما لأسباب سياسية، لكن الراجح أنها كانت أسبابًا اقتصادية.
بيد أن الخرطوم بدأت تتحدث في الآونة الأخيرة عن عودة «التونسية» لمصالحة سماوات ومطارات البلاد، أو حتى لنقل المبعدين من وإلى السودان باتجاه واحد. فقد أعلن وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور عشية لقاء جمعه مع الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي جرى الأسبوع الماضي، عن قرب اكتمال الترتيبات لعودة الخطوط التونسية إلى الخرطوم مجددًا، بعد أن كان سفير السودان في تونس العبيد مُرَوّح قد أبرم اتفاقية مع وزير النقل التونسي يتم بمقتضاها إعادة فتح الخط الجوي بين تونس والخرطوم نهاية عام 2015.
الرواية الأخرى حول «ركوب التونسية»، أن السودانيين المهاجرين إلى ليبيا أيام كانت بلدًا مستقطبًا للعمالة في سبعينات القرن الماضي، كانوا يواجهون صعوبات جمة للوصول إلى هناك، ثم دخلت التونسية على الخط لتأخذ الراكب مباشرة إلى ليبيا، بعد أن كانوا يضطرون للسفر إلى روما على «الإيطالية»، أو على «المصرية» ثم روما إلى ليبيا، ووقتها كانت العلاقات بين قادة الدول الثلاث في أسوأ حالاتها.
ثم انتقلت العبارة إلى القلوب والمحبين، ليطلق على من تهجره حبيبته: «ركب التونسية». ونقل العبارة من سياقها الدلالي المرتبط بالمغادرة المادية إلى المغادرة العاطفية، الشاعر الشهير هاشم صديق، الذي قال في أحد لقاءاته على فضائية «النيل الأزرق» إنه كتب قصيدته «النهاية»، والتي غناها المطرب الراحل سيد خليفة، ليواسي صديقه المسرحي مكي سنادة في فشل قصة حب رائعة كان يعيشها، واستخدم في اللقاء تعبير «ركب التونسية» للتدليل على الهجران وجفاف قلب الحبيبة.
كما يقال إن أحد سائقي سيارات الشرطة بالخرطوم كتب على عربته من طراز «كومر» العتيقة مفردة «التونسية»، وكانت هذه العربة تستخدم في حملات الشرطة (يطلق عليها محليًا الكشة) فحين كانت تأتي «التونسية» لقسم الشرطة بحمولتها من المضبوطين، كان يقال إنهم جاءوا «راكبين التونسية»، فصارت مثلاً لكل من يتورط أو يقبض عليه، وأصبح المصطلح الذي ربما كتبه السائق ليعني به حبيبة عصية النوال، أو تدليلاً لعربته، أو أي شيء آخر، يعني «دخول الحبس».
تعود «التونسية» لتهبط الخرطوم بعد ربع قرن، لكنها هذه المرة لن تجد المدينة ذاتها والناس، ستجد مدينة أقل ألقًا، وناسًا كثرًا بانتظارها علهم «يركبونها» ويطيرون على أجنحتها من دون عودة، بينهم سياسيون ومرضى وأصحاء وهاربون من الفقر والتضييق. فمن سيكون أول ركابها يا ترى؟ بعد أن أخذ مصطلح «ركوب التونسية» أبلغ دلالاته السودانية، إثر صيحة المحامي التونسي عبد الناصر لعويني: «بن علي هرب» التي أصبحت عنوانًا للثورة التونسية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».