«نظارات جينية بصرية» واعدة لعلاج العمى

باحثون أميركيون وفرنسيون يطورون علاجًا يعيد النظر للمصابين بالتهاب الشبكية

جهاز «تشايو» من «آي بي إم»
جهاز «تشايو» من «آي بي إم»
TT

«نظارات جينية بصرية» واعدة لعلاج العمى

جهاز «تشايو» من «آي بي إم»
جهاز «تشايو» من «آي بي إم»

في تطورات طبية وتقنية جديدة أعلنت شركتان فرنسية وأميركية عن مشروع لتصميم نظارات «جينية بصرية» لمساعدة المرضى الذين فقدوا بصرهم، فيما طورت شركة «آي بي إم» العملاقة للكومبيوترات جهازا وصف بأنه «مركز تقني» لاستقبال كل بيانات الملبوسات التقنية الطبية للمرضى وتحويلها إلى الأطباء.
وأعلنت كل من شركة «جين سايت بيولوجيكس» ومقرها في باريس، و«بايونيك سايت» التي يقودها باحثون من كلية ويل كورنيل للطب في نيويورك أنهما تخططان للبدء بتجارب إكلينيكية لعلاج العمى، وذلك بتوظيف التقنيات الحديثة الناشئة المستوحاة من علم البصريات الجيني أو الوراثي. وأضافتا أن توليفة من الملبوسات التقنية الإلكترونية، والعلاج الجيني، تتمتع بفرصة قوية في إعادة البصر إلى بعض المصابين بالعمى نتيجة تعرضهم لحالة التهاب الشبكية الصباغي وهو مرض تنكّسي يدمر الخلايا الحساسة للضوء في شبكية العين.
«نظارات جينية»
ويعتبر علم البصريات الوراثي من تقنيات علم الأعصاب التي تسمح بالتحكم بخلايا الدماغ وتعديل العمليات العصبية باستخدام مزيج من التقنيات البصرية والجينية. وتعتمد هذه التقنية بشكل رئيسي على إنتاج أو تنشيط البروتينات الحساسة للضوء. ويتوجه العلاج الجديد الذي قدمته الشركتان إلى تجاوز عمل الخلايا الحساسة للضوء المتضررة، بعد أن يقوم العلماء بالتدخل الجيني الذي يسمح بتوجه أوامر إلى خلايا أخرى في الشبكية، لكي تتحول إلى خلايا حساسة للضوء.
وقد طورت الشركة الأميركية بالتعاون مع معهد «لا فيجن» للبصر، في باريس نظارات تصمم بكاميرا ووحدة للمعالجة الإلكترونية ومرآة مجهرية رقمية تحول الصور التي تلتقطها الكاميرا إلى نبضات بالضوء الأحمر اللامع بهدف تنشيط عمل الخلايا الجديدة التي تحولت إلى خلايا حساسة للضوء.
وقال الباحثون إن اختبار الطريقة على مجموعة من القرود والجرذان أظهر قدرتها على تمكين الحيوانات من الإبصار. ونقلت مجلة «تكنولوجي ريفيو» الصادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن برنارد غيلي مدير «جين سايت» أن النتائج لن تكون حاسمة إلا بعد إجراء التجارب على متطوعين من البشر والتي يتوقع لها البدء بها هذا العام.
وتجدر الإشارة إلى أن تجربة أجرتها شركة «ريترو سينس ثيرابيوتيكس» الأميركية في مارس (آذار) من العام الماضي في تكساس على امرأة فقدت بصرها أظهرت نجاح عمليات طريقة العلاج الجيني البصري في إعادة البصر إليها. وقد شارك في تلك الاختبارات 4 أشخاص خضعوا للعلاج بثلاث حقن في العين تحتوي على فيروس مهندس صناعيا يحمل جينا من الطحالب قام بإصدار الأوامر إلى الخلايا لكي تنتج بروتينات حساسة للضوء. ولم يعرض الباحثون المشرفون على التجارب نتائجهم الكاملة بعد.
وتعتمد طريقة «ريترو سينس» على الضوء الطبيعي لتنشيط الخلايا. إلا أن هذا قد يقلل من فاعلية العلاج لأن البروتينات الحساسة للضوء تستجيب فقط لنطاق معين من الموجات الضوئية، كما أن مستويات الضوء الطبيعي الضعيفة قد لا تكون كافية لتنشيط عملها.
وقال ريتشارد ماسلاند البروفسور في طب العيون بكلية الطب في جامعة هارفارد والمستشار العلمي في «ريترو سينس» إن «هذا ما يدفع الباحثين للبحث عن طرق لتطوير النظارات أو الأجهزة الأخرى التي يمكنها تكييف الضوء لإرساله في النطاق المعين للموجات، وبشدة ضوئية كافية».
ولم ينشر الباحثون المطورون للنظارات الجديدة نتائج أبحاثهم حول تحويل الخلايا العصبية في الشبكية - وهي التي تقوم بتحويل النبضات العصبية عادة والتي لا تستقبل الضوء مباشرة - إلى خلايا حساسة للضوء. إلا أن شيلا نارينبرغ الباحثة في علوم الأعصاب بشركة «بايونيك سايت» قالت إن النظارات ستحول الضوء إلى «رموز عصبية»، أو إلى نسق من النبضات التي جرت معالجتها مسبقا، والتي ستبدو للخلايا العصبية وكأنها وردت من خلايا أخرى داخل الشبكية.
«مشرف إدراكي»
على صعيد آخر عرض باحثون من شركة «آي بي إم» في سان فرانسيسكو أول من أمس جهازا صغيرا يمكن أن يصبح مركزا تقنيا للتعامل مع البيانات الواردة من المرضى الذين يرتدون الملبوسات التقنية التي تقوم بقياس مؤشراتهم الحيوية، وذلك بهدف اطلاع الأطباء عليها وتقليل فترات وجودهم داخل المستشفيات.
وأطلقت الشركة على الجهاز الصحي اسم «تشايو Chiyo» ووصفته بأنه «المشرف الإدراكي الأعلى». ويمكنه استقبال البيانات من الساعات الذكية والأساور الإلكترونية للياقة البدنية ويرسلها إلى الخزن في السحابة الإلكترونية للشركة، حيث يتم تحليلها ويشارك الأطباء بها.
وسوف يسمح هذا الجهاز للمرضى بترك المستشفى والاتصال بطبيبهم على مدار الساعة لمراقبة حالاتهم الصحية، إذ يقيس «تشايو» الحالي درجة الحرارة وتدني مستوى الأكسجين في الدم. وينصت الجهاز إلى الأوامر الصوتية كما يمكنه الإجابة صوتيا ويتعامل أيضا مع النصوص المكتوبة التي تم تحويلها من الإملاءات الصوتية المسجلة.
ولا يزيد حجم الجهاز على حجم ثمرة واحدة من الغريبفروت وقد وضعت داخله وحدات معالجة كومبيوترية بسيطة جدا يمكن الحصول عليها من أي كومبيوترات صغيرة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)