هل تسمح هشاشة الطبيعة الإنسانية بتجنب الحرب؟

استخدام القوة متأصل في الإنسان والعدوان متجذر في كيانه

هل تسمح هشاشة الطبيعة الإنسانية بتجنب الحرب؟
TT

هل تسمح هشاشة الطبيعة الإنسانية بتجنب الحرب؟

هل تسمح هشاشة الطبيعة الإنسانية بتجنب الحرب؟

هل يمكن للبشرية تجنب الحرب؟ سؤال ينقسم حوله الناس إلى فريقين: الأول يجيب بنعم، شريطة أن تتمكن الشعوب في علاقاتها من حل مشكلاتها بعقلانية واتفاق وتعاقد متوازن، على شاكلة الحلول التي تقدم حين يصطدم الأفراد بعضهم ببعض. أما الفريق الثاني، فيجيب بالسلب وبمبررات قوية أهمها، أن الإنسان هو بالطبيعة، مولع بالحرب والقتال، ومشروط بما يسميه المحلل النفسي فرويد «غريزة الموت». سنقف عند الفريقين معا، قصد التقرب أكثر من هذه المفارقة التي تؤرق البشرية، إذ ما تزال الدماء البشرية تسيل، لكن وفي الوقت نفسه، ما تزال الآمال في السلم طمعا ينشده الإنسان.
يمر مقالنا هذا، بين نظرة مثالية ومتفائلة، تحلم بغد مشرق وبجنة لا سفك للدماء فيها، إذ ترى أن صوت الحكمة الإنسانية سيتحقق لا محالة، وأن كل ما نحتاجه هو الوقت والنضج، لنصل إلى معمورة الفضيلة، ونظرة متشائمة، أو لنقل إنها تتسم بالواقعية، وتتعامل فقط وفق إمكانات الوضع البشري، التي لا تخرج عندها أبدا عن الجذور الحيوانية، ولا تطمح في شيء تعده مجرد يوطوبيا أو مدينة فاضلة، لا توجد إلا في أذهان الحالمين بها.

العنف (الحرب) قدرًا

إن الواقعية السياسية، ومصلحة الدول العليا، والرغبة، أحيانا، في الاستيلاء والغزو والاستحواذ، وكذلك التنافس بين الشعوب بحثا عن الثروات والسلطة، إضافة إلى «غريزة الموت»، هي عوامل محركة لإظهار العداء ودخول الإنسان في معارك طاحنة، تجعل مسألة الحرب في حكم الضرورة. فمن سينكر أن الإنسان أشرس «حيوان» في الأرض؟ فهو لا يكتفي بأن يدافع عن نفسه وحسب، بل يهاجم ويقتل حتى الإبادة، ولأسباب تتجاوز بقاءه؛ لهذا فالحرب فعل كوني وأمر طبيعي وتهديد دائم لن يتوقف. فاستخدام القوة شيء متأصل في الإنسان، والعدوان متجذر في كيانه ويمكن نسبته إلى هشاشة الطبيعة الإنسانية، وتقلبها الدائم، لا ثباتها، إلى درجة يمكن القول، إن الإنسان يوجد في حالة حرب واستعداد دائم لها.
إن الإنسان، كما كان يقول توماس هوبز: «ذئب لأخيه الإنسان». وهو ما يؤكده المشهد اليومي لجرائمه التي لا تنقطع، ويؤكده التاريخ بحروبه الدامية التي يمكن جعلها محطات للتأريخ نظرا لكثرتها؛ وهو ما جعل المحلل النفسي سيغموند فرويد، يرى في العنف ظاهرة لا يمكن التخلص منها أبدا، بل هو شرط أساسي لبلوغ الحق نفسه. فالحق والعنف، ليسا شيئين متناقضين في تصور فرويد؛ فالنظرة التاريخية التحليلية، تؤكد أن الواحد منهما نشأ من الآخر، وتاريخ البشرية يكشف عن علاقة معقدة بينهما، حيث ساهم العنف في صناعة الحق، سواء كان باسم العضلات أو المهارات المتطلبة للحذق والذكاء، أو حتى باسم القانون. إن المبدأ العام لحل الصراعات بين الناس، هو استخدام العنف لإجبار الطرف الآخر على التخلي عن مطلبه، وذلك بشل قوته، بل حتى قتله إن تطلب الأمر ذلك، فالعنف متجذر في الإنسان، وهو الجسر الرابط بينه وبين مملكة الحيوان التي لا يمكن أن يبعد نفسه عنها نهائيا.
ويمكن بسهولة، بحسب فرويد، جرد بعض المحطات الأساسية في تاريخ العنف البشري؛ وذلك كالآتي: ففي المجتمعات الأولى كانت الكلمة للقوة العضلية، فهي التي كانت تحسم مسألة الحق، لكن مع مرور الزمن، أصبح الحق لصالح من يملك الأسلحة والمهارات القتالية، وهو ما يدل على دخول العقل مسرح التاريخ، فالحالة دائما هي سيطرة عنيفة من طرف من يملك القوة، سواء في بعدها العضلي أو العقلي. ومع شق البشرية طريقها الطويل نحو الارتقاء والتطور، أصبح العنف يفضي إلى ما يسمى الدولة العقلانية الحديثة حيث السيادة للقانون، فأصبح بالإمكان منافسة، بل تقويض قوة الواحد الطاغية المستبد بواسطة اتحاد الضعفاء. ومن ثم أصبح الحق مرتبطا بعنف الجماعة للحد من عنف الفرد... بكلمة واحدة نقول إنه العنف الممارس باسم القانون.
ففرويد يؤكد إذن، أن العنف ليس حدثا طارئا وعرضيا في التاريخ البشري، بل هو حاضر بقوة، وهو الذي يرسم ملامح الحق. باختصار، هو يؤكد أن تاريخ العنف هو تاريخ ميلاد الحق نفسه؛ فالحق يخرج من رحم العنف وعلاقتهما مشتركة وجدلية، وهما وجهان لعملة واحدة، بل حتى عندما تحول الحق وأخذ درب الشرعية القانونية في الزمن الحديث، فإنه لا يعني أن العنف قد تم محوه، بل القانون نفسه في حقيقته عنف اختياري؛ هو لطيف نعم ومهذب عن بقية سبل العنف الأخرى، بحيث يعبر أكثر عن إنسانية الإنسان، لكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لا محالة ينفلت منه العنف الشرس بين الفينة والأخرى، ما يجعلنا نتذكر دائما، جذورنا الحيوانية.
إن ما يسمى التحضر عند البشرية، هو، في حقيقته، بحسب فرويد، مجرد كبت مفرط لغرائزنا الأصيلة التي تعاود، دون شك، الظهور بطرق ملتوية، وبسلوكات مشوهة وأكثر دموية أيضا؛ لهذا ففرويد يرى أن قدرنا أن نظل في عنف أزلي لن ينمحي أبدا. فالطبيعة بغرائزها الضاربة في عمق كياننا، لا تموت ولن تموت، وكل قمع لها تحت أي اسم، سواء كان دينيا أو أخلاقيا أو قانونيا، لا يعني إلا عودتها بحدة أكثر.

السلم ممكن جدا

على الرغم من كل العنف السائد في المعمورة، فهناك دائما، صوت الحكمة الذي لا يكل من إعلان أن البشرية يمكنها أن تصل إلى وضع حد له، عن طريق الإنصات للعقل ولغة القانون والدبلوماسية. بل لم لا؟، صوت الحب أيضا.
وإذا ما أخذنا على سبيل المثال، الفيلسوف إيمانويل كانط المعروف بتفاؤله الكبير وإيمانه الشديد بعقل الإنسان وقدرته على صناعة السلم، وبحسه الاستشرافي الهائل، نجده قد فتح السياسة نحو العالمية «الكوسموبوليتيك»، خلال نهاية القرن الثامن عشر، مؤكدا أن البشرية سائرة نحو «اتحاد عالمي»، أو «حلف للأمم» سيكون كتعاقد مشترك يحول دون حدوث الحروب التي تمزق البشرية وتحط من إنسانيتها وتهوي بها إلى حضيض البهيمية. فقام من أجل ذلك، بتأليف كتاب في السياسة الدولية سنة 1775 بعنوان «نحو سلام دائم بين الشعوب»، وقام بترجمته إلى العربية، شيخ الديكارتيين العرب، الدكتور عثمان أمين بعنوان: «مشروع للسلام الدائم».
يقدم كانط في كتابه هذا، نظرية في السلم العالمي، حيث يؤكد أن الشعوب لن تتمكن من وقف الحروب وبلوغ السلم، إلا إذا تعاقدت فيما بينها وفق بنود سيحددها بوضوح تام، بحيث نجده في القسم الأول من كتابه، يضع النواهي التي على الدول تجنبها، وهي كالآتي: الإرادة الطيبة، لا يجب استغلال دولة أخرى، العمل على إلغاء الجيوش على مر الزمن، القروض يجب توجيهها نحو التنمية الاقتصادية وليس نحو التسلح، عدم التدخل في شؤون دولة أخرى، التزام النزاهة حتى وإن كانت الحرب قائمة، كما أضاف إليها بنودا أخرى في القسم الثاني، هي بمثابة شروط إيجابية للسلم، وذلك كالآتي: على كل دولة أن يكون دستورها جمهوريا، العمل على قيام اتحاد بين دول حرة، المواطنة العالمية وضمان حق النزيل الأجنبي وإكرام مثواه.
أما إذا أخذنا تصور المهاتما غاندي المشهور بـ«الساتياغراها»، التي تعني عنده «المقاومة السلبية» والنضال السلمي في سبيل الحق، فنجده يرى في الطبيعة الإنسانية من الحب ما قد يقهر العنف ويدخل البشرية في سلم دائم. فقوة الروح أو قوة الحب من أجل الحصول على الحق، يمكن أن تستخدم من الأفراد كما المجتمعات، وهي قوة لا تقهر... فغاندي يعلن أنه من غير الصحيح إطلاقا، القول إن لغة الحب هي قوة الضعفاء، ما دام أنهم عاجزون عن مجابهة العنف بالعنف. فهذا فهم خاطئ، ووهم ناشئ من عدم وجود ترجمة صحيحة كاملة لتعبير الساتياغراها، ذلك لأنه من المستحيل على أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من الضعفاء، أن يستخدموا ويطبقوا هذه القوة؛ فلا يمكن أن يكون من المقاومين السلبيين، إلا أولئك الذين يدركون بأن في الإنسان شيئا أسمى من الطبيعة الوحشية الغاشمة، وأن تلك الطبيعة القاسية، يمكن أن تخضع لذلك الشيء... إن استخدام الساتياغراها يتطلب الصبر وترويض النفس على عدم الاهتمام بأمر الكساء والغذاء، ومجابهة البغضاء بالمحبة، والباطل بالحق، والعنف بالعذاب الطوعي، حتى يشعر الطغاة بخستهم وحقارتهم.
يرى غاندي أنه لا مكان للعنف في نظريته؛ فاستخدام القوة المادية والبدنية في الساتياغراها محظور حتى في أحسن الظروف الملائمة؛ لذلك «فليس اللاعنف أبدا منهجا من مناهج القسر، فهو منهج من مناهج الإقناع بالحسنى». فالساتياغراها تستمد حركتها من مبدأ المحبة، القائل «أحبوا الذين يستثمرونكم على كره منكم... وإنه سهل عليكم أن تحبوا أصدقاءكم، ولكنني أدعوكم إلى أن تحبوا أعداءكم». وهكذا يجب أن يكون شعارنا دائما، إقناع الخصم وديا. ويجب من أجل ذلك، أن نخاطب دوما رأسه وقلبه، ويجب أن نرفض بتصميم وعناد اعتبار خصومنا أعداء. ولما كان الشخص الساتياغراهي يودع الخوف، فإنه لا يخشى إطلاقا أن يثق بالخصم، وحتى لو خدعه الخصم عشرين مرة، فإن عليه أن يكون مستعدا للوثوق به للمرة الحادية والعشرين، لأن الثقة المطلقة في الطبيعة الإنسانية خاصة، هي جوهر عقيدته.
نخلص إلى أن قضية الحرب، خصوصا، والعنف عموما، هي قضية طاعنة في السن، فرغم كل التقدم البشري والوعي بمسألة الحقوق، وإدراك أن سبيل العنف لا يزيد إلا عنفا مضاعفا، ورغم كل أصوات الحكمة الإنسانية، سواء باسم العقل (كانط) أو باسم الحب (غاندي) أو أسماء أخرى، فإن الإنسان يغمض عينيه ويتمادى في العنف، مما يعطي الشرعية للمواقف المدافعة عن قدرية الحرب، وعلى غلبة الحيوانية في الإنسان على إنسانيته، وعلى أن العقل نفسه في نهاية المطاف، هو مجرد سلاح كالناب والمخلب، إذ كلما ازداد العقل ازدادت الشراسة!
فهل نستسلم؟



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).