ميليشيات ليبية تنافس تجار المخدرات والعملات المزورة

قادتها يبحثون عن الأموال لسداد رواتب المقاتلين وشراء أسلحة جديدة... وبعضهم نقل «خبراته» من أفغانستان

ضابط ليبي يحرق كمية كبيرة من مخدر الحشيش في طرابلس (غيتي)
ضابط ليبي يحرق كمية كبيرة من مخدر الحشيش في طرابلس (غيتي)
TT

ميليشيات ليبية تنافس تجار المخدرات والعملات المزورة

ضابط ليبي يحرق كمية كبيرة من مخدر الحشيش في طرابلس (غيتي)
ضابط ليبي يحرق كمية كبيرة من مخدر الحشيش في طرابلس (غيتي)

دخل قادة ميليشيات ليبية، بعضها مرتبط بتنظيمات «جهادية»، على خط منافسة شبكات محلية ودولية لتجارة المخدرات والعملات المزورة في حوض البحر المتوسط، انطلاقًا من سواحل غرب ليبيا، ما دفع جهازين أمنيين أوروبيين على الأقل، إلى طلب السماح لهما بتعقب أفراد من هذه الشبكات داخل ليبيا، بعدما استغلوا الفوضى التي تضرب هذا البلد شاسع المساحة طويل السواحل قليل السكان، لزيادة حجم تجارتهم عبر شراكات مع الميليشيات المحلية.
وفي طرابلس، بلغ ثمن الكيلوغرام من آخر شُحنة حشيش اسمه «المعجون الأفغاني»، وصلت إلى سواحل بلدة زوَّارة المجاورة، إلى 25 ألف دينار (18 ألف دولار تقريبًا بالسعر الرسمي)، بينما بلغ سعر الكيلوغرام من الهيروين، ويطلق عليه التُّجار هُنا اسم «الغبرة البيضاء»، 100 ألف دينار. وانتشرت تجارة الدولارات المزيفة على نطاق واسع، وبلغ سعر الدولار المزيف من النوع الذي يطلق عليه «الصيني» دينارين ليبيين، بينما النوع الإسرائيلي الأقل جودة، وصل إلى نحو 1.3 دينار. وتكافح حكومة الوفاق الوطني، التي يرأسها فايز السراج، للسيطرة على البلاد، لكنّ المُهمة تبدو صعبة.
ويبلغ السعر الرسمي للدولار الأميركي في المصارف الليبية 1.4 دينار، لكن من النادر الحصول عليه بسبب المصاعب الاقتصادية والسياسية. ويزيد سعر الدولار في السوق السوداء على 6 دنانير. ووفقًا لتقارير أمنية ليبية وخُبراء مصرفيين، لوحظ أن غالبية القيادات التي تدير تجارة المخدرات والدولارات المزيفة على علاقة بميليشيات مدججة بالأسلحة، بينها ميليشيات محسوبة على تنظيمات مثل «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين». ويقول عمرو فركاش، الخبير الاقتصادي الليبي والمصرفي الإقليمي: «حين يكون هناك متطرفون، يزداد مثل هذا النشاط».
بعض صَفقات المُخدرات تكُوْن مقابل كميات من براميل النفط المسروق. ويتضافر عالم المخدرات والعملات المزيفة مع سماسرة يعملون في تجارة تهريب البشر المعروفة بـ«الهجرة غير الشرعية»، وتجارة الآثار المنهوبة. ويقول مصدر في الاستخبارات العسكرية في طرابلس إن «سماسرة إسبان وعناصر من المافيا الإيطالية، دخلوا على الخط للاستفادة من حالة الفوضى في ليبيا، لكن المافيا الليبية تفوقت عليهم»، خصوصًا بعد أن وثَّقَ قادة ميليشيات العلاقة بخبراء في أنواع مختلفة من التجارة غير المشروعة، من سواحل إسبانيا وإيطاليا إلى قبرص ومالطا واليونان وتونس وغيرها.
ويؤكد الرائد محمد حجازي، وهو خبير أمني وعسكري ليبي، وكان ناطقًا لبعض الوقت باسم «عملية الكرامة» التابعة للجيش، أن الوضع في بلاده أصبح مأساويًا، «لأنها مفتوحة على مصراعيها... بالتأكيد هناك تهريب نفط وغيره عن طريق مافيات، لكن لا أستطيع أن أحدد أنواعها». وأضاف: «الخلاصة أن ليبيا تحولت إلى مرتع لكل هذه الكيانات، خصوصًا المافيات». وعزا ذلك إلى «الأوضاع الأمنية في عموم ليبيا، خصوصًا في المنطقة الجنوبية والغربية. أمَّا المنطقة الشرقية فتُعد أكثر أمانًا، نظرًا إلى وجود مؤسسة عسكرية فيها».
وتزخر العاصمة وبلدات مجاورة لها بعشرات الميليشيات ذات التوجهات المتباينة، لكن يبدو أن الحاجة إلى المال دفعت بعضًا منها إلى التعاون في ما بينها، من دون النظر إلى المرجعية المذهبية أو الجهوية أو حتى القبلية. ويقول الإعلامي الليبي رجب بن غزي، الذي أجرى مقابلات تلفزيونية مع عدة قيادات من تنظيمات متشددة مثل «أنصار الشريعة» الأقرب لـ«داعش» و«الجماعة الليبية المقاتلة» الأقرب لـ«القاعدة»، إن «ميليشيات كثيرة تعاني اليوم شحًا في الأموال». وأضاف أن «التيارات المتطرفة أصبحت في الفترة الأخيرة تسمح بالاتجار في المخدرات والعملات المزيفة من أجل توفير الأموال... لو لدى ميليشيا من الميليشيات بضع مئات من المقاتلين، فمن أين ستنفق عليهم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها ليبيا؟».
وكانت الدولة كلفت ميليشيات بحماية المؤسسات العامة عقب مقتل معمر القذافي، في مقابل منح رواتب لعناصرها، إلا أن أمورًا كثيرة تغيرت بعد نحو ست سنوات، بما فيها ولاء الميليشيات، وأصبح من الصعب الاستمرار في منح أموال لقوى غير مضمونة، أو أخرى تنظر إليها أطراف دولية بوصفها ميليشيات متطرفة، خصوصًا بعد تولي حكومة السراج مقاليد السلطة في طرابلس. كما أن فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ساهم على ما يبدو، منذ مطلع هذا العام، في كبح التدفق المالي الذي كانت تمنحه الدولة للميليشيات من دون تفرقة تُذكر.
ووفقًا لمصدر أمني في طرابلس، أرسلت الإدارة الأميركية الجديدة قوائم مبدئية تضم 48 اسمًا، غالبيتهم من قادة ميليشيات، تطلب من جهات قضائية في طرابلس، معلومات عنهم، وعما يقومون به في العاصمة. ومن المتوقع وصول قوائم إضافية بأسماء جديدة تثير مخاوف الأميركيين.
ويقول المحلل الاقتصادي الأميركي من أصل مصري، شريف الحلوة، عن التسريبات الخاصة بجمع إدارة ترمب معلومات عن قادة ميليشيات في ليبيا، إن الإدارة الأميركية الجديدة «تُحاول معرفة من هم الموجودون على الأرض. ومن يقف وراء الإرهاب والهجرة غير الشرعية، لأن معظم الميليشيات لها دور في تسهيل هذه العمليات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. إدارة ترمب تسعى إلى معرفة مَنْ يتحكم في ماذا داخل ليبيا، وماذا يفعل». وفي المقابل، يؤكد المصدر الأمني وجود مئات الطلبات من ميليشيات تريد صرف رواتب لمقاتليها، لكنها ما زالت معطلة منذ أكثر من شهرين، «لأنه، أولاً لا توجد أموال كافية، وثانيًا لم يعد استمرار اعتماد السلطة على الميليشيات مقبولاً، لا محليًا ولا دوليًا».
ومع هذا الشُّح في مصدر التمويل الرئيسي للميليشيات، اتجه كثير من زعمائها إلى البحث عن مكاسب مالية سريعة حتى لا ينفرط عقد القوات التي تحت أيديها. واستغلت عناصر متعطشة للأموال من المافيا الدولية، الحالة الليبية الجديدة. ويقول فركاش عن هذه «الخَلْطَة» التي أصبحت تتاجر في كل شيء، على سواحل يبلغ طولها نحو ألفي كيلومتر، إن «نشاط المافيا الإيطالية وسماسرة البحر المتوسط أمر متوقع، لأن الطرف المقابل في ليبيا، وأقصد به الميليشيات، اتجه بقوة إلى تجارة المخدرات والعملات المزيفة للحصول على أموال تغطي نفقات هذه الميليشيات، خصوصًا بعد التضييق عليها من جانب مصارف ليبية، وتراجع نشاط الهجرة غير الشرعية من سواحل غرب طرابلس».
ويقول تقرير أمني ليبي إن واحدة من صفقات المخدرات التي يطلق عليها التجار «المعجون الأفغاني» جرت قبل أيام قليلة، في غرب العاصمة، ويبلغ حجمها عشرين قنطارًا، أي نحو ثلاثة أطنان. ويضيف أن هذا النوع لفت الأنظار لأنه حظي سريعًا بشهرة واسعة في أوساط التجار لجودته، «فرائحته فوَّاحة، وطري، وعليه الختم الحراري، ومُغلَّف».
ورصد التقرير صفقة أخرى جرت في منطقة أبو سليم في طرابلس الأسبوع الماضي، وكان أحد أطرافها من المتعاونين مع كل من «الجماعة المقاتلة» وتنظيم «داعش». وبلغ وزن الصفقة 130 كيلوغرامًا من نوع أقل جودة من الحشيش الأفغاني. وبدأت المفاوضات على 20 ألف دينار للكيلوغرام، إلا أنه تم تخفيض السعر إلى 16 ألفًا فقط. وتتكون ميليشيا أخرى تنشط في طرابلس من نحو 200 مقاتل مصري وأفريقي، وتوجه معظم عناصرها إلى تجارة المخدرات بعد نقص كبير في الأموال. ولا توجد قوات أمنية لديها قدرة على كبح جماح مثل هذه الميليشيات أو منعها من الأعمال المخالفة للقانون.
وتملك الميليشيا المشار إليها معدات تشمل أربع دبابات، وعربتي صواريخ من طراز «غراد»، ومضادات مدفعية، ومئات من الأسلحة الخفيفة. وتمكنت بعد صفقة مخدرات جديدة من شراء صواريخ ومدافع مسروقة أصلاً من مخازن وزارة الدفاع الليبية في طرابلس. ويقول فركاش إن «قبضة الميليشيات في غرب البلاد أقوى من أي تشكيل تابع للدولة».
ومن المعروف أن آلاف السجناء الجنائيين، وبينهم تجار مخدرات، فروا من السجون أثناء الانتفاضة المسلحة ضد القذافي. ويقول مصدر في المخابرات العسكرية الليبية إنه «منذ ذلك الوقت، لم توجد سلطة قوية لإعادتهم إلى السجون مرة أخرى، وانضم معظمهم إلى الميليشيات أو كوَّن ميليشيا خاصة به حتى يعرقل أي عودة للدولة». ويضيف أن صفقة هيروين جرى تمريرها في طرابلس، قبل أيام، بين قائد ميليشيا من هذا النوع، وآخر من تجار المخدرات المعروفين والمطلوب القبض عليه من النيابة العامة في العاصمة. وتابع متحسرًا: «تفكك الدولة حال دون وقف الصفقة».
ورغم علم السلطات الأمنية بتحركات هذه الصفقة منذ البداية، فإن إمكانياتها الضعيفة، لم تمكنها من القيام بأي إجراء. وبعد أيام انتشر باعة التجزئة في العاصمة وهم يروجون الصفقة، قائلين وهم يتغزلون في مواصفات الهيروين، إنها «غَبرة بيضاء نقية تُنسيك الحياة في طرابلس ومآسيها». وتعاني العاصمة من انقطاع الكهرباء والمياه وعدم انتظام خدمة الهواتف والإنترنت، إلى جانب الاشتباكات الليلية بالأسلحة الثقيلة بين المتنافسين على التحكم في المدينة.
وتتنازع على السُّلطة في ليبيا ثلاث حكومات، اثنتان في طرابلس، هما حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وحكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، إضافة إلى الحكومة المؤقتة في مدينة البيضاء شرقًا برئاسة عبد الله الثني. وتدعم كلُّ مجموعة من الميليشيات، حكومة من الحكومتين الموجودتين في طرابلس، بينما يدعمُ حكومةَ الثني الجيشُ الذي يقوده المشير خليفة حفتر. وتَجِدُ معظم الميليشيات، من توجهات مختلفة، ساحةَ المنافسة بين حكومتي طرابلس، فرصةً للتوسع وتقوية النفوذ.
وعلى خلفية هذا الصراع، دخلت قبل أيام صفقة مخدرات كبيرة عبر سفينة قادمة من البحر، ورست في ميناء زوَّارة. وتقدر قيمة الكمية بنحو 10 ملايين دينار، وفقًا للمصدر الأمني. وجرى سداد جانب من قيمة الصفقة مقابل براميل نفط مسروقة من الحقول الليبية، بحساب سعر البرميل 70 دينارًا، إضافة إلى بضعة آلاف من صناديق زيوت المحركات المَنْهُوبة من مخازن الدولة بسعر 40 دينارًا للصندوق.
ويعزو الحلوة هذه الفوضى إلى «عدم وجود قوة لتطبيق القانون... الحدود مخترقة، ويسهل تداول المخدرات والعملات المزيفة والسلاح على ساحل المتوسط ومع دول الجوار. كما أن الهجرة غير الشرعية تخلق بيئة لاستخدام العملات المزيفة في أوساط المهاجرين».
ويبدو أن تجارة المخدرات كانت في الشهور الماضية تقتصر على جنوب البلاد فقط، عن طريق رؤوس كبيرة لقادة الجماعات المتطرفة. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استهدفت غارة جوية غربية اجتماعًا قرب مدينة سبها، كان يضم كبار قيادات المتطرفين في ليبيا. وأفادت مصادر استخباراتية بأن الاجتماع كان يخص «بحث تلطيف الأجواء مع شبكات تهريب المخدرات في المنطقة الجنوبية، بعد أن تعرضت للتوتر نتيجة لتوسع التنظيمات المتشددة في هذا النشاط ومزاحمتها لتجار مخدرات تقليديين، من أبناء قبائل ليبية لديها امتداد قبلي في مالي وتشاد والنيجر».
وأدَّت المتغيرات في الأسابيع الماضية إلى دخول قادة ميليشيات في شمال غربي البلاد، في عالم تجارة المخدرات، عَبر السواحل المفتوحة. وبالإضافة إلى ذلك، انتشرت تجارة الدولارات المزيفة. ويُطلق التجار اسمًا حركيًا على مثل هذه الصفقات، هو «الشاي الأخضر». وفي آخر صفقة جرى بيع 6.5 مليون دولار مزيف من النوع الذي يطلق عليه «الإسرائيلي» بقيمة 1.25 دينار ليبي للدولار الواحد.
ويقول فركاش، إن السبب وراء انتشار الدولار المُزيف، هو النقص الحاد في العملة الأجنبية وغياب الرقابة في البلاد. ويضيف أن الأسماء التي تطلق على الدولار الأميركي المزيف، مثل كلمة «الصيني» أو «الإسرائيلي»، لا علاقة لها بمكان التزييف، لكن بالجودة، لأن الدولار يمكن أن يُزيف في أي مكان تتوافر فيه الإمكانيات. ويوضح أنه «طالما ظل التعامل بهذه العملات خارج القطاع المصرفي، فإن المواطن لا يستطيع أن يكتشف العملة المزيفة. ومن يحمل هذا النوع من الأموال يظل مخدوعًا إلى أن يصطدم مع جهة تستطيع التفريق بين الدولار المزيف والدولار الصحيح... بالطبع هناك علامات يمكن عن طريقها التمييز بينهما، إلا أن الأمر، عمومًا، يحتاج إلى خبير في مسألة تزوير العملات». ورُصدت أكبر صفقة بيع عملات مزيفة قيمتها 10 ملايين دولار، بثمن دينارين للدولار الواحد. وتم تسليم الأموال في مكتب تابع لإحدى الميليشيات في منطقة الظُهْرَة في طرابلس قبل أيام، تمهيدًا لبيع الكمية في السوق.
ويبدو أن نشاط المافيا الليبية ووجودها المتزايد على سواحل البحر المتوسط، ناهيك عن الصحراء الشاسعة، أثار قلق أجهزة أمنية غربية عدة، خصوصًا في ما يتعلق بالمخدرات والدولارات المزيفة. ويؤكد الحلوة أن «الأميركيين لا يتسامحون في مسألة تزييف الدولار، في أي مكان في العام. طالما هناك تداول عملات مزيفة، وبالذات الدولار، فإن المخابرات الأميركية تتدخل مباشرة، وكذلك يتحرك جهاز الخدمات السرية (الخاص بالرئاسة في البيت الأبيض)، لأنه يعد من المسؤولين عن متابعة الدولار المزيف في العالم، والقبض على من يروج له». ويضيف أنه «من الممكن التعاون مع أطراف أوروبية في هذا الشأن. إيطاليا وألمانيا بالذات هي المتوغلة داخل ليبيا، وهما حليفتان دائمتان لأميركا».
وكشف مصدر في مخابرات طرابلس أن مندوبين أمنيين من كل من إيطاليا وإسبانيا، طلبوا الإذن لهم، بملاحقة عناصر من المافيا العابرة للحدود، بناء على معلومات تشير إلى لجوء هذه العناصر إلى مافيا ليبية أصبحت تنتشر في بلدات تحيط العاصمة وتحترف تهريب البشر والمخدرات والأموال المزيفة. وبالنظر إلى خطر المافيا الليبية التي تعتمد على ميليشيات مسلحة، لا توجد معلومات عما إذا كان المندوبون الإيطاليون والإسبان قد تمكنوا من إتمام عملهم أم لا.
وتقترن بالنشاط في عالم المخدرات والعملات المزيفة، قصص لا أول لها ولا آخر عمَّن أثروا فجأة من هذا المجال أخيرًا، بعد أن كانوا مجرد أشخاص محكوم عليهم في سجون القذافي، أو موظفين براتب لا يزيد على 500 دولار في الشهر، وتحولوا فجأة إلى مُلاك لملايين الدولارات، ولديهم علاقات عابرة للحدود. ومن هؤلاء مساعد لقائد ميليشيا، أصبحت ثروته تُقدر بنحو 60 مليون دولار. ويقول أحد أقاربه إنه كان، في عهد القذافي، يستدين من جيرانه لشراء السجائر. ورغم حالة الانفلات في غرب ليبيا وفي جنوبها، فإن بعض المدن هناك ما زالت لديها القُدرة على إحباط جانب من هذا النشاط. ووفقًا لمصدر في قسم مكافحة تهريب المخدرات في بلدة ترهونة الواقعة إلى الجنوب من طرابلس، فقد تمكن القسم من ضبط «شحنة حشيش» تقدر بأكثر من خمسة قناطير، أثناء نقلها من منطقة «وشتاتة» في داخل المدينة، إلى مدينة زليتن، شرق العاصمة. ويوضح المصدر أن الشحنة كانت قادمة أساسًا من سبها في أقصى جنوب البلاد. وجرى إيداع المتهم الرئيسي في مقر احتجاز في منطقة الهضبة في طرابلس، بعد أن اعترف بأن الصفقة تخص قياديًا في «الجماعة المقاتلة».
ويقول مصدر مقرب من ميليشيات طرابلس إن واقعة صفقة ترهونة التي لم تكتمل، أدت إلى خلافات حول شرعية الاتجار في المخدرات، بين عدد من الزعماء الليبيين في «الجماعة المقاتلة»، مِمَّن كانوا يحاربون الجيش الروسي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومن بين هؤلاء الزعماء شيخ اعترض على نشاط زملائه القدامى، وقال للقائمين على الصفقة، وفقًا للمصدر: «منذ كنا في أفغانستان وأنا غير مقتنع بثقافة بيع المخدرات لنشر العقيدة. فلماذا تضعون أنفسكم اليوم في مواضع الشبهات؟». ومن جانبه يعلق بن غزي قائلاً إن بعض أمراء الحرب، بمن فيهم زعماء لجماعات متشددة، يُبررون لأنفسهم أي عمل من أجل الحصول على أموال للمقاتلين الذين معهم.
ويتكفل زعيم ليبي كان من المحاربين في أفغانستان ومن تجار المخدرات فيها قديمًا، بمعيشة 170 مقاتلاً، جلب 150 منهم من أفغانستان و20 من باكستان، ويقيمون في مزرعته في طرابلس. ويعد في الوقت الراهن من كبار مديري صفقات تهريب الحشيش عبر السواحل الليبية وبيع الدولارات المزورة في العاصمة. ويوضح مصدر مقرب من الميليشيات في طرابلس أن هذا الرجل كان قد أقام لبعض الوقت في باكستان وله علاقات قوية فيها، وفِي كلٍّ من ماليزيا وإندونيسيا. ويعد الرجل من القيادات الجديدة الخطرة في ليبيا، نظرًا إلى ماضيه المثير للجدل واحترافه جلب الأموال من أي مصدر. وكان يقاتل القوات الأميركية في العراق مع الأردني «أبو مصعب الزرقاوي»، ومع ذلك لم يكن يلتزم بتعليمات الزرقاوي، ويدخل معه في جدل في كثير من الأوقات. وهو من أصحاب فكرة تأسيس «بيت مال للمجاهدين». وفي الوقت الراهن، وفقًا للمصدر نفسه، يعمل الرجل ذاته في ليبيا مع تنظيمات «داعش» و«جند الحق»، المقرب من «داعش»، و«الجماعة المقاتلة»، ولديه صلات قوية مع مغاربة يقيمون في كل من فرنسا وبلجيكا.
وفي غياب قوات أمنية منضبطة وذات فاعلية في غرب البلاد، تتحرك ميليشيات عدة من تلك التي ما زالت تعتمد عليها بعض الجهات المسؤولة في حفظ الأمن في العاصمة وما حولها، حسب الأهواء. ومن بين كثير من الوقائع، تعد الحالة التي جرت في بلدة رقدالين (الظهير الصحراوي لمدينة زوَّارة في غرب طرابلس)، من الغرائب. فهناك جرى تكليف ميليشيا بالتدخل لفرض الاستقرار لانتشار تجارة المخدرات والفوضى. وبعد أيام أعطت الميليشيا تقريرًا للسلطات زعمت فيه أنها أعدمت حاويات خمور مستوردة قيمتها 4 ملايين دينار، وأحرقت ألف كيلوغرام من المخدرات، و4 كيلوغرامات من الهيروين، إلا أن السلطات اكتشفت أن الميليشيا نفسها باعت ما صادرته من تجار رقدالين في سوق قرقارش في العاصمة.
ويعد انتشار التجارة المخالفة للقانون أحد أسباب مقاومة رجوع الدولة مرة أخرى من قبل ميليشيات عدة. ويقول الرائد حجازي إن مثل هذه المجموعات، خصوصًا ممن كانت عناصرها في السجون (قبل 2011)، تعمل ضد بناء الدولة حاليًا، وليس من مصلحتها وجود مؤسسة عسكرية وأمنية قوية. ويُضيف أن جماعات إجرامية، عبارة عن مرتزقة، وأخرى متطرفة، تجد أرضًا خصبة في بعض المناطق، وتستفيد من هذا الوضع الخطير. ودعا إلى حوار «ليبي - ليبي» لحل الخلافات، على أن يقدم كل طرف «تنازلات مؤلمة لإنقاذ الدولة».



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.