من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس
TT

من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس

أعلنت الجمهورية التركية عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - بعد صراع مرير مع المحتل البريطاني واليوناني والأرميني، تحت قيادة الزعيم التركي مصطفى كمال «أتاتورك». ولقد خاض «أتاتورك» حرب استقلال ضروسًا، ليس فقط لإجلاء القوات الأجنبية، بل لإعادة التفاوض أيضًا على «اتفاقية سيفر» التي وقعها السلطان العثماني مع الحلفاء بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى، والتي قلصت الدولة التركية الحديثة إلى دويلة في قلب الأناضول لحساب الدول التي حولها.
وبالفعل، حقق القائد التركي مراده من خلال «اتفاقية لوزان» التي أعادت الهيبة إلى الدولة التركية الوليدة، من خلال الاعتراف بشرعية حكومة أنقرة التي صنعها «أتاتورك»، وأعادت أيضًا كل أراضي الأناضول وأكثر إلى أحضان هذه الدولة، ومنحتها السيادة على مضيقي الدردنيل والبوسفور. وبذا، ولدت الدولة التركية الحديثة بأرواح شهدائها ودم أبنائها، وانتُخب «أتاتورك» زعيمًا للدولة التركية الحديثة، وغدا لزامًا عليه إعادة صياغة الدولة الجديدة، بل والأخطر من ذلك إعادة مفهوم القومية الذي بُنيت عليه هذه الدولة الوليدة.
واقع الأمر أن «أتاتورك» تبنّى مفهومين أساسيين مُنِحَ من خلالهما الشرعية الجديدة التي شيد عليها هذه الدولة، هما: القومية التركية، والعلمانية. هذان المفهومان مترابطان إلى حد كبير داخل وجدان الدولة التركية، على الأقل حتى يومنا هذا. ذلك أن فكرة «تركيا للأتراك»، التي هي أساس الفكر القومي الحديث، لم تكن مفاجئة بالنسبة لكثير من الساسة والمراقبين الدوليين لبزوغ الدولة التركية الحديثة. إذ قرّر الرجل تبني مفهوم القومية التركية المبنية على كتابات المفكر التركي ضياء غوكالب الذي سعى بشكل كبير لمحاولة الإشارة إلى روح القومية التركية المبنية على أساس اللغة التركية والعمق الثقافي - بل والإثني - التركي على أساس الدائرة القومية الأولى لها في هضبة الأناضول، وهي البؤرة الجغرافية التي ذابت فيها القبائل التركية والتركمانية وغيرها، لتلد الثقافة التركية مع مرور القرون، كما أنها المركز الجغرافي الذي يفصلها عن القوميات الأخرى، خاصة العربية والفارسية، ولكنها ترتبط بهما من خلال مفهوم الأممية العثمانية بحكم تمثيل السلطان العثماني للخلافة الإسلامية.
ولقد اعتنق «أتاتورك» أفكار غوكالب، وما طرحه من دوائر للقومية التركية، من مركزها في الأناضول إلى المناطق المجاورة الممتدة لتركيا حتى وسط آسيا، وهو ما يعكس إلى حد كبير الرؤية التركية التي ترى في بعض الجمهوريات ذات الأصول التركية صلة قومية وشبه لغوية، مثل أذربيجان وتركمانستان وغيرهما. وساعد «أتاتورك» بشكل كبير في مشروعه القومي هذا أن الأرضية الفكرية على المستوى الدولي كانت ممهِّدة لمثل هذه الأفكار، إذ اعتبر كثير من المؤرخين القرن التاسع عشر «قرن الدولة القومية» المبنية على أساسي اللغة والثقافة المشتركتين، وعضد من هذا التوجه الشرعية التي منحها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في «نقاطه الـ14» أمام «مؤتمر صلح فرساي»، بعد الحرب العالمية الأولى.
وهكذا، لحقت تركيا الحديثة بالركاب السياسي والفكري الأوروبي السائد في ذلك الوقت، ومن ثم لم يكن من الصعب تقبل هذه الفكرة من الأساس. غير أن مشكلة «أتاتورك» لم تكن محصورة في المعارضة الدولية، بل المشكلات الخاصة بالفكر الأممي المرتبط بشكل مباشر بالسلطان ومفهوم الخلافة الإسلامية، فعلى مدار أربعة قرون من الزمان ترسخ لدى المواطن الأناضولي البسيط أن السلطان، بما يمثله، يحمل في طياته البذور الدينية باعتباره استمرارًا للخلافة الإسلامية، وبذا يؤمّن للدولة بشكل مباشر الشرعية لحكم كثير من الأقطار الإسلامية والعربية على مدار قرون. هنا، اختلط الفكر السياسي بالديني، ومن ثم كانت فكرة القومية قليلة الجاذبية، بالإضافة إلى هوية دينية دفينة داخل وجدان المواطن الأناضولي.
هذا الأمر جعل «أتاتورك» يسعى بشكل عنيف لاقتلاع المفهوم الأممي الذي كانت الدولة مبنية عليه. ومن ثم، استعر صراعه مع السلطان إلى أن أعلن الجمهورية، وأعقبه بقرار إلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية من الأساس. هذه الخطوات، على صعوبتها، كانت أسهل بكثير على الزعيم التركي الطموح من إقناع المواطن التركي البسيط بفكرة «فصل الدين عن الدولة»، أو ما يعرف بـ«العلمانية»، أو ما يطلق عليه اليوم مجازًا دون خلفية أكاديمية حقيقية لفظ «المدنية».
وهنا، كان دور «أتاتورك» القوي في فصل البعد الديني ومؤسساته عن إدارة الدولة ومؤسساتها في أنقرة. وهذه كانت مشكلة كبيرة لم يتغلب عليها بمرور الوقت إلا بقوة العزيمة، و«الكاريزما» الشخصية، وتركته السياسية والعسكرية التي جعلته بطلاً قوميًا استجاب الكثيرون لرؤيته، فوضع الدولة التركية الحديثة على المسار السياسي العلماني. ومن الخطوات الراديكالية الصعبة التي اتخذها في سبيل تحقيق مشروعه تغيير شكل الهوية التركية، ومنحها طابعها المميز، بعيدًا عن الإرث التاريخي والديني. وفي هذا المجال، كان من أهم ما اتخذه من قرارات هو تغيير الأبجدية العربية، والاستعاضة عنها بالأبجدية اللاتينية، لفصل الدولة الوليدة عن إرثها الإسلامي، وتقريبها من الثقافة الغربية. ولقد أصر «أتاتورك» على إتمام هذه الخطوة خلال أشهر معدودات، على الرغم من معارضة كثيرين من مؤيديه لاعتقادهم بضرورة منح الشعب التركي وقتًا لهضم هذه الخطوة فكريًا، لكنه أصر على ذلك، وأعطى دروسًا بنفسه إلى العامة، ليكون مثالاً يحتذى به. كذلك، وعلى الفور، اتخذ قرارًا جديدًا يمنع ارتداء الجلباب، ويفرض على الشعب الزي الغربي وارتداء القبعة، وكان عنيفًا في تطبيق هذا القرار.
ولم يتوقف سعي «أتاتورك» لتغيير الهوية التركية عند هذا الحد، بل إنه تبنى القوانين السويسرية لإخراج الدولة التركية من تركة القوانين السلطانية - المتخلفة من وجهة نظره . وكان من ضمن ما فرضه منع تعدّد الزوجات، ومنح المرأة حقوق الرجل نفسها في الميراث، والحرية المطلقة في الزواج، وأيضًا منحها حق التصويت الحرّ أسوة بالرجل. وهكذا، لم يكن من المستغرب أن يكون في برلمان عام 1935 تمثيل للمرأة بلغ 17 امرأة، وبذا سبق بعض القوانين الوضعية الغربية التي لم تكن تسمح للمرأة بالتصويت من الأساس. ثم إنه سعى لتطوير المرأة فكريًا، ومنحها حقوق التعليم نفسها، إضافة إلى سعيه الدؤوب من أجل تغيير زي النساء ليتماشى مع الغرب، وتبنى بنات كثيرات، وسعى لجعلهن نموذجًا يحتذى به.
بطبيعة الحال، لم يكن «أتاتورك» ليفعل كل هذا من دون معارضة داخلية ارتأت إما رفض تغيير الهوية الأناضولية التركية، أو رفض الخطى السريعة التي أراد الرجل تطبيق هذه التغييرات من خلالها. إلا أن شخصيته الحازمة كانت أقوى من التأثير على مسارٍ رسمه، إذ أصر على مواقفه ورؤيته وخطاه. ولقد تطورت بعض المعارضة، فبلغت محاولة اغتياله في مناسبات عدة، كان أهمها عام 1926 في مدينة إزمير، ولكن المؤامرة فشلت، وألقي القبض على الجماعة المتهمة، وواجه «أتاتورك» الشخص الذي حاول قتله، وطلب منه أن يقتله، لكن الرجل انهار، وأعدم لاحقًا.
كثرة من المصادر التاريخية تؤكد أن تركيا دانت لـ«أتاتورك» بعد هذه المحاولة تمامًا، وما عاد باستطاعة أحد أن يوقف قطاره، خصوصًا أنه اتبع سياسات اقتصادية هادفة حسّنت بشكل كبير - وبزمن قصير - أوضاع المواطن. وهو ما أعطاه المزيد من الشرعية، وقوة الدفع لتنفيذ أهدافه، فوضعت تركيا على مسار التطوّر الاقتصادي المنشود، ولكن بطبيعة الحال ليس من دون مشكلات.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فاتبع «أتاتورك» سياسة خارجية متوازنة أدت إلى إطفاء كثير من التوترات التي كانت قائمة مع دول الجوار التي تعاني منها تركيا إلى يومنا هذا. وكان الرجل حكيمًا في هذه الخطوات، عندما ركّز على التطوير والتغيير الداخلي، وما كان ميالاً لأن يُستهلك أو تُستهلك الدولة في صراعات خارجية تؤثر على مشروعه القومي والتنموي. وفي هذا السياق، وقع على «ميثاق سعد آباد» الذي بمقتضاه طبع العلاقات مع إيران والعراق، بعد صراعات تاريخية مريرة، كما طبّع العلاقة مع اليونان - العدو التاريخي للدولة العثمانية - مما جعل رئيس وزرائها إيليفثيريوس فينيزيلوس يرشحه لجائزة نوبل للسلام، في تحرّك غير مسبوق، وأدت هذه السياسة إلى تجنيب تركيا خوض حروب خارجية لا فائدة منها.
هكذا، غيّر مصطفى كمال «أتاتورك» مسار الدولة العثمانية وتاريخها، وضمن ميلاد دولة تركية أساسها الفكر القومي التركي، وعقيدتها «العلمانية». ولقد ظل مؤمنًا بمشروعه القومي حتى أنه عندما طلق زوجته «لطيفة»، سأله أحد الصحافيين عن سبب عدم زواجه، فقال إنه قرّر الزواج من تركيا، كما أنه حافظ على قناعاته إلى أن مات في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1938، بعدما نجح إلى حد كبير في تطبيق رؤيته، وخلق الكيان التركي الذي نراه اليوم. وأيًا كانت الآراء، أو وجهات النظر، التي يتناول بها المؤرخون سيرة هذا الرجل، أو تجربته، فإن الثابت تاريخيًا أنه نجح في مشروعه السياسي والقومي، كما نجح في معاركه الحربية المهمة والمحورية.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.