شون سبايسر... وجه عسكري لإعلام البيت الأبيض

ناطق رسمي مخلص للحزب الجمهوري

شون سبايسر... وجه عسكري لإعلام البيت الأبيض
TT

شون سبايسر... وجه عسكري لإعلام البيت الأبيض

شون سبايسر... وجه عسكري لإعلام البيت الأبيض

وقع اختيار دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الـ45، على شون سبايسر ليكون الناطق الرسمي باسمه. وخلال الأسابيع القليلة التي شغل فيها سبايسر هذا المنصب استطاع، كبعض المعاونين الآخرين لترمب، أن يثير جدلاً كبيرًا بأسلوبه الهجومي المباشر غير المألوف في التعامل مع الإعلام الذي يعتبر في الديمقراطيات الغربية «السلطة الرابعة»، بعد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
شون سبايسر، الناطق الجديد باسم البيت الأبيض، أثرى قبل أن يتجاوز الـ45 سنة من عمره، ولهذا التحول قصة سيأتي تبيانها، لكنها لا تنفي انتماء الرجل عائليًا إلى الطبقة المتوسطة. ومع أن الرجل الأربعيني يتسم في أدائه لمهمته بالرزانة والصرامة، فإن تعبيره عن آراء رئيس مثير للجدل كان كافيًا لجذب اهتمام مقدمي برامج السخرية السياسية في القنوات الأميركية.
ولم يكتف هؤلاء بما قدمته الكوميدية الشهيرة ميليسا ماكارثي، في برنامج «ساترداي نايت شو»، من تحويل لمؤتمرات سبايسر وتصريحاته الصحافية إلى مادة خصبة للتقليد والتهكم، بل أسبغ عليه غيرها لقب «بغداد بوب»، وهو الاسم الذي أطلقه الأميركيون حصريًا على محمد سعيد الصحّاف، وزير إعلام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في أثناء الغزو الأميركي للعراق. وإمعانًا في المقارنة بين أول متحدث رسمي باسم ترمب (عند صعوده للرئاسة) وآخر متحدث رسمي باسم صدام (عند سقوطه من الرئاسة)، طالب المتهكمون من سبايسر ارتداء الزي العسكري أسوة بالصحّاف.

ضابط بحرية سابق
والحقيقة أن سبايسر مؤهل بالفعل لارتداء الزي العسكري، إذ إنه ضابط سابق في البحرية الأميركية، وخريج أكاديميتها، المرموقة أكاديميًا، ولا يزال حتى الآن محسوبًا على كتيبة الاحتياط البحرية في العاصمة واشنطن برتبة رائد. ولكن من سوء حظ سبايسر أن القلة التي عرفت خلفيته العسكرية هي ذاتها النشطة في تقديمه بصورة كاريكاتورية مضحكة، استهدافًا لرئيسه قبل أن يكون الغرض هو استهدافه شخصيًا. ولكن ما لم يقله الساخرون عن سبايسر هو أن هذه الخلفية العسكرية لا تعني مطلقًا أن الرجل دخيل على الإعلام، أو جديد على التعامل مع الصحافيين. فهو لم يعرف في حياته، كما سيتبين لاحقًا، في كل المواقع الرسمية التي شغلها، أي مهنة مطلقًا إلا مرتبطة بصورة أو أخرى بمهمة الناطق الصحافي، بما في ذلك الفترة التي أمضاها في البحرية الأميركية ناطقًا باسم قوات الاحتياط البحرية، بصفته مسؤول العلاقات العامة فيها.
كذلك يشمل سجل سبايسر المهني كونه ناطقًا باسم القوات البحرية الأميركية خلال مناورات مشتركة لها في ألمانيا والسويد، إلى جانب إشرافه على التغطية الإعلامية للعمليات البحرية. كما عمل متحدثًا باسم مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش (الابن)، ثم باسم كتلة النواب الجمهوريين في الكونغرس الأميركي. وكان آخر منصب له قبل الانتقال إلى البيت الأبيض منصب الناطق باسم الحزب الجمهوري الأميركي، حيث بزغ نجمه في تمثيل الحزب أثناء الحملة الانتخابية عام 2016. وكثيرًا ما وجه انتقادات للمرشح ترمب، وهاجم بعض آرائه التي لا يتفق معها الحزب الجمهوري.
ومن ثم، عندما اختاره ترمب ليكون الناطق الصحافي باسمه، فإنه وضعه في فوهة المدفع، فبات سبايسر يدافع أحيانًا عن أفكار هو ذاته غير مقتنع بها، وأصبح أكثر من يتعرض للهجوم والسخرية نيابة عن ترمب. باختصار، صار الآن في موقع يجعله بمثابة رأس الحربة في الدفاع عن ترمب، ومن الطبيعي أن يكون من أكثر المستهدفين باللوم والانتقاد.

الأصل والنشأة
سبايسر هو ثاني اثنين في البيت الأبيض ينتميان إلى أصغر ولاية أميركية، وهي ولاية رود آيلاند الواقعة في الجزء الشمالي من الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية. والثاني هو الجنرال مايكل فلين، مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي، ولكن لا علاقة للجنرال بإيصال سبايسر إلى موقعه الحالي.
ورغم الثراء الذي يتمتع به سبايسر الآن، فإنه ينتمي أصلاً إلى الطبقة المتوسطة، إذ ولد لأسرة متوسطة الحال، آيرلندية الجذور، كاثوليكية المذهب. وكان والده يعمل وكيلاً لشركات التأمين، وتعمل والدته موظفة في أحد أقسام جامعة براون العريقة الراقية في رود آيلاند.
ولد سبايسر عام 1971، في مدينة بارينغتون، بولاية رود آيلاند، وهي أيضًا مسقط رأس والده مايكل ويليام سبايسر، ومقر الإقامة الدائم لوالدته كاثرين غروسمان. ولقد تلقى شون تعليمه الأولي في مدارس الولاية، قبل أن ينتقل لاحقًا إلى مدرسة بورتسموث آبي الكاثوليكية، حيث أكمل مرحلة الثانوية العامة، من عام 1985 إلى عام 1989. ولم يكن في سنواته الدراسية في مرحلة ما قبل الجامعة ما يثير الانتباه، سوى تطوعه للمشاركة في الترويج لبعض المرشحين ذوي الاتجاه المحافظ في سباقات محلية انتخابية.

نقطة الانطلاق الأولى
كانت نقطة التحول الأولى في حياة سبايسر، في رحلة الاتجاه جنوبًا، هي التحاقه بكلية كونكتيكت - وهي جامعة خاصة راقية في ولاية كونكتيكت - في الفترة من 1989 إلى 1993، وحصل فيها على بكالوريوس في العلوم السياسية (الحكومة والإدارة العامة). وأثناء دراسته، حرص على التطوع في حملات بعض المرشحين على نطاق الولاية، ولكن لم يبدأ نظره يتجه نحو الحكومة الفيدرالية إلا بعد تخرجه من الجامعة، حيث عمل بصورة رسمية لدى عضوين جمهوريين من أعضاء الكونغرس الأميركي عن ولاية نيوجيرزي، هما مايك باباس وفرانك لوبيندو.
ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى أكثر من عشرين سنة لاحقة، ظل هناك أمران اثنان يجمعان كل ما قام به سبايسر من نشاطات أو أعمال، وهما الحزب الجمهوري والإعلام. بمعنى آخر، لا يوجد في السيرة الذاتية لهذا الشاب السياسي ما يخلو من الطابع الإعلامي لنشاطه، أو من العلاقة بالحزب الجمهوري، وفي غالب الأحوال يكون الأمران مجتمعين، يتنفسهما سبايسر معًا؛ الحزب الجمهوري في الشهيق والإعلام في الزفير.

الحياة العسكرية
قبل أن يودع سبايسر القرن العشرين، قرر فجأة الاستعداد لاستحقاقات القرن الحادي والعشرين، عن طريق مواصلة الدراسات العليا. ولكن كيف له أن يتحمل تكاليف دراسة الماجستير وهو مثقل بديون البكالوريوس. وفوق هذا وذاك، يبدو أنه أمضى ردحًا من الزمن في البحث عن وظيفة حكومية هنا أو هناك تتناسب مع مؤهله وخبرته القصيرة، فوجد أن أكثر سؤال يتكرر في جميع استمارات الوظائف الحكومية هو: هل سبق لك أن خدمت في القوات المسلحة الأميركية؟ ولا بد أنه تعلم أن هذا السؤال له ما بعده، وأن من له سجل في العسكرية يتمتع بالأولوية في أكثر الحالات، علاوة على أن الالتحاق بالمؤسسة العسكرية سيسهل له مواصلة دراساته العليا على نفقة الجهة العسكرية التي سينتسب إليها.
وعام 1999، انضم سبايسر إلى احتياطي البحرية الأميركية ضابط علاقات عامة في كتيبة احتياط بموجب خبرته كناطق صحافي باسم أكثر من عضو في الكونغرس الأميركي. ولقد كان محقًا عندما اختار هذا التحوّل في حياته، إذ إنه أمضى في البحرية الأميركية نحو 17 سنة، ولم يعقه ذلك عن تحقيق إنجازات أخرى في الحياة المدنية، إلى جانب الخدمة الموسمية في قوات الاحتياط البحرية.
فمن عام 2000 إلى عام 2002، عمل سبايسر مديرًا للاتصالات وناطقًا باسم لجنة الإصلاح الحكومي في مجلس النواب. وبين 2003 و2005، عمل مديرًا للاتصالات وناطقًا باسم لجنة الميزانية في مجلس النواب، وكذلك ناطقًا باسم كتلة الحزب الجمهوري في مجلس النواب الأميركي. وبين 2006 و2009، شغل منصب مساعد الممثل التجاري للولايات المتحدة لشؤون الإعلام والعلاقات العامة في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش.

صنع الثروة
أسس سبايسر عام 2009 (حتى 2011)، مع شريكين آخرين، شركة «المسار» للاستراتيجيات الدولية، وهي شركة العلاقات العامة التي جمع منها ثروة تقدر بتسعة ملايين دولار، من تمثيل الشركة لمصالح حكومات أجنبية وشركات أجنبية بالولايات المتحدة؛ بمعنى آخر: «جماعة ضغط». ومن بين من مثلتهم الشركة حكومة كولومبيا التي كانت تسعى لتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، على نمط الاتفاقية التي ظل يهاجمها ترمب طوال حملته الانتخابية للرئاسة، وهي اتفاقية «نافتا»، بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.

إلى البيت الأبيض
وفي فبراير (شباط) 2011، أصبح سبايسر مديرًا لاتصالات الحزب الجمهوري، ويحسب له في هذه المرحلة نجاحه في توسيع أنشطة الحزب المتعلقة بالإعلام البديل، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وبناء وحدة داخلية خاصة بالحزب للإنتاج التلفزيوني، مؤلفة من فريق مؤهل للرد السريع على الهجمات الإعلامية التي تعرض لها الحزب. ويبدو أنه استفاد في هذا الجانب من خبرات زوجته التي تعرف عليها عام 2004، وهي منتجة تلفزيونية، وإن كانت لاحقًا قد تحولت إلى الأعمال التجارية، وامتلكت شركة لتوزيع المشروبات الروحية، وهي تجارة مربحة في الولايات المتحدة.
ولعل أهم الإنجازات الشخصية التي حققها سبايسر، مستفيدًا من انتسابه لسلاح البحرية، هو أهم ما كان يطمح إليه من مواصلة الدراسات العليا، وإن كان ذلك قد استغرق بعض الوقت. ففي عام 2012، حصل على درجة الماجستير في الدراسات الأمنية والاستراتيجية من كلية الحرب البحرية في نيوبورت، رود آيلاند، مع بقائه ناطقًا باسم الحزب الجمهوري ومديرًا لاتصالات الحزب. وفي فبراير 2015، أضيفت إلى مسؤولياته مهمة إضافية، هي كبير راسمي استراتيجية الحزب الانتخابية.

خلاف مع ترمب
في إحدى المقابلات التلفزيونية، شبه سبايسر عمله مع ترمب بعمل محامٍ يدافع عن متهم لمجرد أن المحاماة حرفته، ملمحًا إلى أنه لا يتفق بالضرورة مع كل آراء الرئيس الجديد، لكنه مضطر للدفاع عنها لأن هذا هو عمله. وما يدل على صدقه حقًا أنه عندما كان ناطقًا باسم الحزب الجمهوري، لم يكن يتردد في انتقاد ترمب المرشح، كلما تفوه الأخير بتصريحات مثيرة للجدل، لا سيما قبل فوزه بترشيح الحزب لمواجهة هيلاري كلينتون. وكان أول انتقاد من سبايسر لترمب هو الذي وجهه إليه في اليوم الأول لإعلانه ترشحه للرئاسة في يونيو (حزيران) 2015، بعدما قال ترمب إن المهاجرين المكسيكيين ينقلون الجرائم والمخدرات إلى الولايات المتحدة. يومها، علّق سبايسر قائلاً إن «مثل هذا التعميم ضد الأميركيين من أصل مكسيكي غير مقبول، ولا يخدم القضية».
وبعد أقل من شهر، وجه سبايسر انتقادًا ثانيًا لترمب، عندما هاجم الأخير السيناتور الجمهوري البارز جون ماكين، قائلاً: «لا مكان في حزبنا، أو بلدنا، للحط من قدر أولئك الذين خدموا بشرف». وكان ترمب قد نفى عن ماكين أن يكون بطلاً لمجرد أنه حارب في فيتنام، بحجة أن الحروب الخارجية «اعتداءات لا تمثل بطولة».
ولكن عندما أصبح سبايسر ناطقًا باسم ترمب في البيت الأبيض، قال ترمب كلامًا مشابهًا، بل أكثر خطورة، في أثناء مقابلة مع بيل أورايلي، مقدم البرامج الشهير بمحطة فوكس نيوز، الذي سأل ترمب عن سر دفاعه عن «قاتل»، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فرد: «كلنا قتلة... هل تظن أننا أبرياء من دماء الناس في العالم؟ الكل يقتل، ونحن خضنا حروبًا، وقتلنا أعدادًا هائلة من البشر».
وعلى الأثر، تعرض سيد البيت الأبيض الجديد لانتقادات واسعة لتعريضه ببلده بهذه الصورة. ورغم كثرة منتقديه، لم يكن شون سبايسر بينهم هذه المرة، بل تصدى للدفاع عن رئيسه، بلا قناعة على ما يبدو.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.