وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (2): وحدة دول الخليج ... كابوس المرشد الإيراني

الـ«سي آي إيه» تنبأت أن طهران ستمد «الشيعة العرب» بالسلاح واعتبرته «تهديدًا للأمن القومي»

موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)
موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)
TT

وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (2): وحدة دول الخليج ... كابوس المرشد الإيراني

موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)
موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)

عندما أسس المرشد الإيراني «آية الله» الخميني في فبراير (شباط) من عام 1979، جمهوريته الإسلامية على أنقاض نظام شاه إيران محمد رضا بهلوي، لم يكن مجلس التعاون الخليجي قد تأسس. وطبقا لما ترويه تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية، مؤخرا، فإن الوكالة بدأت منذ الشهور الأولى لعودة الخميني من منفاه في باريس إلى كرسي الحكم في طهران، برصد مؤشرات مبكرة على عزم النظام الإيراني الجديد على تصدير ثورته لبعض الجيران وبسط نفوذه على جيران آخرين.
وتوصل محللو الوكالة في ذلك الحين إلى أن الخميني كان يأمل في ابتلاع البحرين أولا، والكويت ثانيا، قبل الإقدام على أي خطوة أخرى. وكان أكثر ما يخشاه الخميني في ذلك الحين هو أن تبادر دول الخليج العربية إلى تنظيم نفسها في تكتل واحد يجمعها مع المملكة العربية السعودية، أو يوحد بين دول الخليج العربية الست في نمط من أنماط الاتحاد والتعاون بما يؤدي إلى إجهاض آمال الخميني في الانفراد بالكويت والبحرين.
لم يمر سوى عام ونصف العام على نقاش مخاوف الخميني في حال توحد دول الخليج في الأروقة السرية لوكالة الاستخبارات لأميركية إلا وقد تحقق بالفعل ما كان يخشاه، حيث أعلنت دول الخليج العربية الست في منتصف عام 1981، تشكيل مجلس التعاون الخليجي، في وقت كان فيه الخميني قد تورط منذ شهر سبتمبر (أيلول) من العام السابق 1980، في حرب طاحنة مع العراق. تسببت هذه الحرب في تأجيل خطط المتحاربين لالتهام جيرانهم الصغار.
أثناء ذلك، كانت نشوة الانتصار على نظام الشاه قد بدأ زخمها يتلاشى، لكن جهود مد النفوذ إلى بلدان الجوار ومحاولات إيران زعزعة استقرار الجيران لم تتوقف مثلما لم تتوقف شكوى واشنطن من السلوك الإيراني منذ أواخر عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر حتى أوائل عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترمب. مرورا بإدارات أربعة رؤساء آخرين، هم الجمهوريان جورج بوش الأب وجورج بوش الابن، والديمقراطيان بيل كلينتون وباراك أوباما. وفي الصفحات التالية أمثلة من تقارير استخبارية أميركية توضح فيها وكالة الاستخبارات المركزية بعضا من خفايا العلاقة بين إيران والجيران، طوال الفترة التي كانت فيها الوكالة شاهدا عليها بتقاريرها.
في التقرير الصادر عن دائرة الشرق الأدنى في وكالة سي آي إيه، في أكتوبر (تشرين الأول) 1979، وتطرقنا إلى أجزاء منه في الحلقة السابقة، أكد محللو الوكالة أن إيران تعمل على توظيف الأقليات الشيعية في البلدان العربية ذات الأغلبية السنية لخدمة الخطط الإيرانية الساعية لزعزعة أمن واستقرار دول الجوار. ولكن الوكالة لم تستند في استنتاجها الجازم عن هذا الأمر إلى معلومات سرية أو أدلة دامغة على تحركات بعينها، لكنها اعتمدت في الأساس على تفسير محلليها لتصريحات كبار «آيات الله» الإيرانيين عن كل من البحرين والكويت. واعترفت الوكالة في التقرير بعجزها عن معرفة مدى الدعم الذي تقدمه طهران لشخصيات بعينها من قيادات الشيعة في البحرين والكويت.
وجاء في التقرير المؤلف من عشر صفحات أن إيران شجعت المواطنين الشيعة في هذين البلدين الخليجيين على التمرد، وتنظيم الاحتجاجات ضد حكومتي هاتين الدولتين.
ورجحت الوكالة في التقرير المقدم لصناع القرار بأن التواصل المباشر بين المسؤولين الجدد في طهران، مع الشخصيات المعارضة في الكويت أقل كثافة مما يتم تصويره في الإعلام الإيراني وأقل زخما مما هو حاصل بالفعل مع المعارضة البحرينية، رغم أن هناك وفودا كويتية استقبلها الخميني في طهران.
فيما يتعلق بالسعودية، يبدو أن الحجم الكبير للبلاد وعدد سكانها وضخامة إمكاناتها جعلت المحللين الأميركيين أقل مبالغة في توصيف الخطر الداخلي بالمقارنة مع بقية دول الخليج العربية. وحسب تقديرات وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، فإن الأقلية الشيعية في السعودية تصل نسبتها إلى 2 في المائة من عدد السكان. وينشط الكثير من أبنائها في التجارة والأعمال الحرة.
وربما أن همومهم ومطالبهم لا تختلف عن هموم وقضايا بقية السكان في رأي الوكالة. لكن اللافت فيما أشار إليه التقرير الصادر عام 1979، هو أن أعيان الشيعة في المملكة لم تصدر عنهم أي حماسة لمحاولات النظام الجديد في طهران لاختراق صفوفهم. ووصف التقرير موقفهم من نظام الخميني بأنه اتسم بالحذر الشديد وعدم التسرع في الاستجابة للتحريض القادم من طهران.
لكن التقرير لم يتطرق إلى دور الخلاف الآيديولوجي بين الشيعة بشأن ولاية الفقيه، التي ينظر إليها الكثير من مجتهديهم على أنها بدعة وخروج عن المتعارف عليه في مذهبهم الجعفري. وبدلا من توضيح هذه الجزئية استرسل التقرير في الحديث عن النشاط السياسي للشيعة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، سواء كانوا في العراق أو السعودية أو البحرين، قائلا إنهم أكثر ميلا للأحزاب اليسارية والقومية بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي، بل إن البحرين كانت بمثابة الملتقى للشيوعيين العرب من كافة أنحاء البلاد العربية. فضلا عن أن نشاط القوميين واليساريين في تلك الفترة كان مفتوحا على مصراعيه في العراق وسوريا. ولم تكن الأحزاب الدينية والتنظيمات الإسلامية في تلك الفترة جاذبة للناشطين الشيعة.
لم تقتصر محاولات التمدد الإيراني على الجانب الغربي والجنوبي من الحدود، بل كانت هناك جهود لمد النفوذ باتجاه الشرق، وعلى وجه التحديد في أفغانستان. ولاحظت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1979 أن الخلاف الكبير بين العلمانيين ورجال الدين في طهران ظهر بشكل جلي في وجهتي نظر الطرفين بشأن التدخل في أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي.
حسب ما ورد في تقرير الوكالة، فقد كان رئيس الوزراء الإيراني مهدي بازرجان يميل إلى عدم تدخل بلاده في الشؤون الداخلية لأفغانستان. وأعلن عن تقديم إيران معونات إنسانية لنحو 4000 - 5000 لاجئ أفغاني موجودين على الجانب الإيراني من الحدود. غير أن التناقض بين موقف الساسة وموقف الملالي بات واضحا، فقد أعلن الملالي عن تأييدهم الصريح للتمرد داخل أفغانستان ضد النظام العلماني، وكان ذلك عن طريق الخميني نفسه الذي أصدر أوامره لدعم المتمردين الذين يحاربون النظام غير الإسلامي، ورغم ذلك يعد التأثير الإيراني على مجريات السياسة في أفغانستان ضئيلا. وتفسر الوكالة ذلك بأنه عائد للاختلاف المذهبي.
رغم تكرار التأكيدات الصادرة عن الحكومة الإيرانية وكبار المسؤولين هناك على عدم تدخل بلادهم في الشؤون الداخلية لجيرانهم. وتشديد المسؤولين الإيرانيين بأن إيران لا تسعى لتصدير الثورة أو إرسال الأسلحة لقتال أنظمة أخرى، فإن طهران حسب ترجيح الاستخبارات الأميركية في تلك الأيام سوف تستمر في التدخل بأساليب مباشرة وغير مباشرة في شؤون دول الجوار.
ورأت الوكالة أثناء كتابة التقرير بعد شهور من اندلاع الثورة الإيرانية أن نظام ولاية الفقيه في إيران سوف يتخذ من دعم الأقليات الشيعية في دول المنطقة، ذريعة للتدخل. وتوقع محللو الوكالة ألا يتجاوز الدعم الإيراني للمعارضين العرب بعض المعونات المالية الضئيلة. أما الدعم الحقيقي فسوف يكون دعائيا وتحريضيا أكثر مما هو واقعي. وحذرت الوكالة من أن تقديم السلاح والذخائر لأي مجموعة في أي بلد من بلدان المنطقة هو ما سيشكل تهديدا كبيرا على الأمن الداخلي للدول ولأمن المنطقة بصورة عامة.
ونبه التقرير إلى أن الدولة الخليجية الأكثر تعرضا للخطر الإيراني هي البحرين، وتأتي بعدها بدرجة ثانية الكويت. أما العراق حسب اعتقاد محللي وكالة الاستخبارات الأميركية فإن هناك عوامل كثيرة تجعل التدخل الإيراني في شؤونه لا تستدعي الشعور بالخوف للخوف أو الخطر آنذاك. ويعود هذا الافتراض على ما يبدو إلى علم المحللين أن قوة القبضة الأمنية للنظام العراقي في تلك الأيام، بالإضافة إلى قوة جيشه وحصانته الآيديولوجية تقلل من المخاوف عليه، وإن كانت لا تزيلها تماما.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».