وثائق {سي آي إيه} الحلقة (1) : إيران والجيران بعد ثورة الخميني

تقرير الاستخبارات الأميركية... عثرات تحليلية وقضايا لا تزال عالقة

المرشد الإيراني الأول الخميني خلال خطبة له في معقله بحسينية جماران في مارس 1982 (غيتي) - مظاهرات مؤيدة للخميني في يناير 1979 عقب وصوله إلى طهران من باريس (أ.ف.ب)
المرشد الإيراني الأول الخميني خلال خطبة له في معقله بحسينية جماران في مارس 1982 (غيتي) - مظاهرات مؤيدة للخميني في يناير 1979 عقب وصوله إلى طهران من باريس (أ.ف.ب)
TT

وثائق {سي آي إيه} الحلقة (1) : إيران والجيران بعد ثورة الخميني

المرشد الإيراني الأول الخميني خلال خطبة له في معقله بحسينية جماران في مارس 1982 (غيتي) - مظاهرات مؤيدة للخميني في يناير 1979 عقب وصوله إلى طهران من باريس (أ.ف.ب)
المرشد الإيراني الأول الخميني خلال خطبة له في معقله بحسينية جماران في مارس 1982 (غيتي) - مظاهرات مؤيدة للخميني في يناير 1979 عقب وصوله إلى طهران من باريس (أ.ف.ب)

انقسمت السلطة الحاكمة في إيران بشأن السياسة المتبعة إزاء الأقليات الشيعية بالخارج في أعقاب ثورة 1979. وبحسب التقارير، فقد أمر الخميني بتبني سياسة نشطة لمد يد العون لتلك الأقليات بتأسيس «حزب المضطهدين» ليضطلع بمسؤولية مد المعونات المالية الإيرانية والدعم السياسي للمنشقين الشيعة بالخارج.
في مثل هذه الأيام من شهر فبراير (شباط) من عام 1979، طوى أتباع المرجع الديني الإيراني آية الله الخميني صفحة نظام الشاه محمد رضا بهلوي وأقاموا الجمهورية الإسلامية. وبعد مرور نحو تسعة أشهر على نجاح الثورة الإيرانية، تمخضت ملفات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) عن تقرير تضمن تقدير المخاطر المحدقة بجيران إيران من تداعيات تلك الثورة التي وصفها التقرير بـ«ثورة الشيعة».

هذا التقرير لم يقدم إلى الرئيس الأميركي جيمي كارتر وقتها لأنه كان معدا لمسؤولين أدنى منه، ولبعض الأخطاء التحليلية التي يضمها التقرير، الذي كان سيقود كارتر إلى اتخاذ قرارات مغلوطة تجاه إيران، إن قرأه في حينها. وكان من الممكن تحميل التقرير ذنب فشل إدارة كارتر في التعامل مع قضية الرهائن الأميركيين في طهران، في مرحلة بدأ النظام الديني في إيران بتشكيل خطر على استقرار العالم بصورة عامة.
ولم يكن الخطر المشار إليه موضوعا لهذا التقرير فحسب، بل ظل الموضوع الرئيسي لمعظم تقارير الوكالة عن إيران طوال العقود اللاحقة. لكن تقارير الوكالة التي تزامنت مع أزمة الرهائن في السنة الأخيرة من فترة كارتر الرئاسية، تركزت فيها أكثر أخطاء التقرير والثغرات المعلوماتية؛ ولهذا السبب لم يمدد الأميركيون لرئيسهم فترة ثانية بل أسقطوه في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 1980، رغم نجاحه الكبير في إرضاء غالبية الشعب الأميركي على صعيد القضايا الداخلية وتحقيقه شعبية كاسحة خلال السنوات الثلاث الأولى من حكمه.
وربما الضعف الذي أبداه كارتر مع الحكام الجدد لإيران الذي انتهى بكارثة محاولة إنقاذ فاشلة للرهائن، لعب الدور الحاسم في هزيمته أمام منافسه الجمهوري رونالد ريغان.
والغرض من إيراد هذه الملاحظة هو وضع الوثيقة المطروحة للتناول في سياقها الزمني والسياسي، مع أن الوثيقة تبحث موضوع الثورة الإيرانية من زاوية أخرى، وهي تبعاتها ومخاطرها على الجيران. وهو موضوع شديد الحساسية لم ينته تناوله بانقضاء 39 عاما على زمن الوثيقة، ولن ينتهي بإزاحة ستار السرية عنها، في وقت أصبح فيه التوتر في العلاقات الأميركية الإيرانية أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، وأصبح ينذر بصدام عسكري، يعتقد بعض المحللين أن مجيئه أصبح مسألة وقت ليس إلا، وأن الأسباب والذرائع الموجبة له أصبحت أكثر من كافية لدى معسكري التشدد في كل من طهران وواشنطن على حد سواء.
أما ما يتعلق بأبرز خطأ في التقرير، فهو قائم على عدم إدراك محللي الوكالة المركزية وجود اختلاف عميق بين الشيعة العرب وشيعة إيران. ويبدو أن الوكالة في تلك الأيام لم تكن قد أجرت دراساتها المعمقة على تاريخ التشيع قبل بزوغ نجم آية الله الخميني، فلم يتنبه المحللون الأميركيون إلى الفروق والتضاد بين المرجعية التقليدية في النجف ومرجعية ولاية الفقيه الناشئة في قم.
ولم يتبادر إلى ذهن المحللين على ما يبدو أن نظرية الخميني في الحكم (إقامة نظام ولاية الفقيه) حديثة جدا في تاريخ الشيعة، ولم يسعفها النجاح في إقامة الدولة من استمرار الرفض لها بين غالبية مراجع النجف. كما لم يدرك المحللون السريون الأميركيون مثلما لم يدرك بعض المحللين العرب أن معظم شيعة العالم قبل الثورة الإيرانية درجوا على الفصل بين السياسة والعقيدة، إلى درجة أن المتصدين للمرجعية من بين حاملي لقب آية الله العظمى يحرمون على أنفسهم الانخراط السافر في السياسة أو التدخل في شؤون الحكم الدنيوية، ولا يقرون حتى يومنا هذا نظرية الخميني في الحكم؛ لأنه في رأيهم رفع نفسه من درجة نائب الإمام إلى درجة الإمام وأسند لنفسه من المهام ما لا يجوز عند جميع أتباع الإمام جعفر الصادق وأتباع الفرقة الاثني عشرية في مذهب التشيع.
وعندما انطلقت ثورة الخميني عام 1979 من باريس إلى طهران واستولت على مقدرات الإيرانيين، بدأت بتطبيق مضامين كتيب صغير تحت عنوان «الحكومة الإسلامية» ألفه الخميني في الخمسينات، وفشل فشلا ذريعا في الستينات من القرن الماضي بتسويقه بين أساتذة وطلبة حوزة النجف، كما فشل في إقناع المرجع الأكبر في ذلك الحين آية الله العظمى محسن الحكيم بتبني ثورة دينية في العراق على أساس نظرية ولاية الفقيه الواردة في كتيبه، وهي نظرية رفضها الحكيم وكبار مراجع النجف جملة وتفصيلا، وتعرض بسببها الخميني للعزلة طوال سنوات بقائه في العراق.
ولم يجرؤ على اختراق سياج العزلة المفروض عليه من كبار مراجع النجف سوى محمد باقر الصدر، الذي أدت صلته القوية بالخميني على ما يبدو إلى تصفيته في أبريل (نيسان) عام 1980، بتواطؤ بين بغداد والنجف، أو حسب الرواية الأكثر رواجا بين نظام البعث العراقي ونجل مرجع أعلى في النجف كان يستشعر خطورة المنافس المحتمل لأبيه، فوشى به لدى المخابرات العراقية، واصفا إياه بـ«خميني العراق».
ومناسبة إيراد هذه الوقائع المعروفة لسنة العراق وشيعتهم على حد سواء هي التدليل على خطأ المنحى الذي ذهبت إليه معظم تحليلات الاستخبارات الأميركية في ذلك الوقت عن أن الخطر الإيراني يتمثل في قدرته على تحريك الشيعة العرب، وعلى وجه الخصوص شيعة العراق.
وفوجئت الاستخبارات الأميركية عند اندلاع الحرب الإيرانية العراقية لاحقا بأن نصف المقاتلين ضد إيران في الجبهات هم من الشيعة، ومع ذلك أهمل المحللون الأميركيون البعد القومي والوطني الضارب في الجذور لدى الشيعة العرب، مثلما أهملوا التناقض الجوهري بين التشيع التقليدي ونظرية ولاية الفقيه الخارجة عن المألوف وغير المقبولة لدى قطاع عريض من الشيعة، ليس في العالم العربي فحسب، بل حتى في إيران ذاتها، خصوصا قبل أن تستمد النظرية قوتها من هيمنتها على المقدرات المالية الهائلة للدولة الإيرانية.
وظلت وكالة الاستخبارات الأميركية تعمق المخاوف من البعد الطائفي وتساهم في تضخيمه، ربما عن جهل بخصائص المجتمعات العربية، وربما عن سابق إصرار وتعمد لاستغلال الصراعات على السلطة التي تتخذ أشكالا طائفية أو عرقية، بما يخدم مخططات مرسومة أو مأمولة للمنطقة العربية.
وغالب الظن أن المقاطع الواردة في الوثيقة التي أعدها قسم الشرق الأدنى في وكالة سي آي إيه، اتجهت للتحذير من الشيعة العرب عن جهل جزئي بالمنطقة وخطأ شائع بين أهل المنطقة أنفسهم، وليس في إطار محاولة للتمزيق، لسبب واحد؛ هو أن التقرير لم يكن معدا للنشر، ولم يتم تسريب محتوياته في حينه، وبالتالي يمكن استبعاد أن «إشعال الفتنة»، من الأهداف المرجوة منه في ذلك الحين. ومن اللافت أن قسم الشرق الأدنى في الوكالة طلب في التقرير ذاته من جميع المحللين والمهتمين بالشؤون العربية في ذلك الوقت التعليق على ما ورد من مضامين وإثراءه بالنقاش. ولم يعثر في الكم الهائل من الوثائق المفرج عنها عن أي تعليق أو رأي مخالف لاتجاهه العام من أي محلل في أي شعبة من شعب الوكالة العلنية منها والسرية.
* الرؤية العراقية كما تخيلتها الوثيقة السرية
تسعى بغداد لعلاقة مستقرة مع إيران بصرف النظر عن الاتجاه السياسي والديني للنظام الحاكم في طهران، حيث نجح البعثيون في الوصول إلى تفاهم مع الشاه، وربما أرادوا إبرام اتفاق مماثل مع الجمهورية الإسلامية رغم بغضهم للخميني، غير أن محاولات تنظيم زيارات متبادلة عالية المستوى انتهت بالفشل.
ويمثل الشيعة نحو 55 في المائة من سكان العراق، ولذلك يمكنهم التسبب بسهولة في مشكلات كبيرة لحزب البعث المهيمن على الحكم حال ساروا خلف إيران. ويتركز الشيعة في المناطق الحضرية والريفية بجنوب العراق. والعراق نفسه، ككيان، يعتبر نصف شيعي، وتمر أنابيب النفط الرئيسية بالمناطق الشيعية، والمنشآت الحيوية مثل ميناء البصرة، وممرات النفط بالخليج العربي، وحقول النفط الجنوبية، جميعها تعتمد على العمال الشيعة.
وتبدو صحيحة تلك الاتهامات العربية بأن إيران تعمل على تشجيع الشيعة بمختلف الدول العربية على التمرد. فوفق ما أوردته السلطات البحرينية، رصدت اتصالات يومية بين نحو 25 ناشطًا شيعيًا في البحرين مقربين من الخميني في إيران، ناهيك بالخطابات التي ضبطت في البحرين تحرض ضد الأسرة الحاكمة. وفي الكويت، وإن كان على نطاق أقل، كشفت الحكومة عن اتصالات بين ناشطين شيعة بالكويت ودوائر دينية نافذة في إيران، بالإضافة إلى لقاء الخميني مع وفد ضم كويتيين.
* أبرز استنتاجات المحللين الأميركيين
من أبرز ما خرج به التحليل الاستخباري المؤرخ في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 1979، أن الخطر المقبل على استقرار المنطقة يتمثل بالدرجة الأولى في «تأثيرات التشجيع الإيراني»، وإن كان بشكل غير رسمي (في ذلك الحين) للشيعة العرب، لإثارة القلاقل عن طريق إيهامهم بأن إيران ستلعب لعب دور الحامي والمدافع عنهم وعن الخليج، مما يؤجج الصراع بين العراق وإيران، خاصة في ضوء ضعف الإمكانات العسكرية للسعودية، بحسب ما ادعى قائد الثورة الإيرانية في حينها.
الأمر الوحيد الذي قد يشكل قيدًا أمام النظام الجديد هو الوضع الداخلي الإيراني نفسه، تحديدًا الاقتصاد وانخفاض مستوى المعيشة وقلة جاهزية الجيش الإيراني، والحاجة الماسة لحل المشكلات الملحة، مثل عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات العرقية.
يشير التحليل إلى أن الخميني وبعض كبار رجال الدين النافذين في بلاده، يشجعون بصورة علنية المنشقين الشيعة في دول الجوار. ويركز الخميني على تأسيس جمهورية إسلامية قائمة على ولاية الفقيه، وربما يكون استمرار الفوضى في إيران ووجود المجلس الاستشاري العلماني الذي يضم مسؤولين حكوميين كافيا لمنع تبني أي سياسة تدعو إلى التدخل بصورة رسمية.
التصريحات الصادرة عن آيات الله الراديكاليين، من شأنها الإبقاء على الشكوك العراقية والخليجية في أعلى مستوياتها، وقد تتسبب تلك التصريحات في عدم تحسن العلاقات بين إيران وجيرانها، ومن جانبه قد يتدخل العراق في شؤون الأحواز ذات الأغلبية العربية والغنية بالنفط في مواجهة التشجيع الإيراني لشيعة العراق.
كذلك قد يستخدم العراق التشجيع الإيراني لشيعة الخليج لتسويق نفسه كدرع واقية لدول الخليج العربي الصغيرة في مواجهة الاستعمار (التمدد) الفارسي. وتأمل إيران في توسيع نفوذها على حساب المملكة العربية السعودية.
وتعمل إيران على تحفيز الشيعة العرب للمطالبة بإصلاحات اقتصادية وسياسية بصورة كبيرة، في العراق، والكويت، والبحرين، منذ الإطاحة بشاه إيران.
لكن السلطة الحاكمة في إيران انقسمت بشأن السياسة الواجب عليها اتباعها إزاء الأقليات الشيعية بالخارج. وبحسب التقارير، فقد أمر الخميني بتبني سياسة نشطة لمد يد العون لتلك الأقليات بتأسيس «حزب المضطهدين» ليضطلع بمسؤولية مد المعونات المالية الإيرانية والدعم السياسي للمنشقين الشيعة بالخارج.
كما استنتجت الوثيقة أن من أخطر العلاقات التي تربط طهران بالخارج، هي علاقتها بالشيعة في العراق، فقد أمضى الخميني قرابة 13 عاما في المنفى بالعراق، مقيما بمحافظة كربلاء التي تعد مركزا دينيا للشيعة. ومن خلال هذا المكان، عمل الخميني على مد جسور التواصل مع المراكز الشيعية داخل إيران وخطط للقيام بانقلاب على الشاه.
وتضيف الوثيقة أن الشخصيات العلمانية في الحكومة الإيرانية استشرفت خطر المواجهة مع العراق، وكذلك خطر تشكيل جبهة خليجية موحدة في مواجهة إيران، وهذا ما تجلى خلال مؤتمر عدم الانحياز بهافانا، عندما صرح وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي عقب لقائه بالرئيس العراقي صدام حسين، بأن بلاده تسعى للسلام مع العراق.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.