بونوا هامون «إلى اليسار دُر»

غدا «سينصّب» بونوا هامون مرشحا رسميًا للحزب الاشتراكي الفرنسي للانتخابات التي ستُجرى دورتها الأولى بعد أقل من ثمانين يومًا. وستتحقق هذه الخطوة المفاجئة بعد تغلب هامون على رئيس الوزراء الحالي مانويل فالس في الانتخابات الترشيحية للحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه الرئيس فرنسوا هولاند.
مسؤولية هامون (49 سنة)، الذي لم يشغل سوى منصب وزاري حتى الآن خلال الحملة الانتخابية الرئاسية ستكون ضخمة. ولكن خلال الأسابيع الأخيرة، تبيّن أن السياسي اليساري الشاب - الذي يشبه كثيرون صعوده بصعود بيرني ساندرز في الولايات المتحدة، وجيريمي كوربن في بريطانيا - عميق الثقافة وبالغ الجدية. وكما أن ماكرون هو «فلتة الشوط» الرئاسية حتى الآن، فربما سيأتي هامون بمفاجأة ما شبيهة بمفاجأة فوزه بترشيح حزبه الاشتراكي.
لا يمضي يوم إلا ويأتي بجديد في الحملة الرئاسية التي لم تعرف فرنسا مثيلا لها منذ انطلاقة الجمهورية الخامسة في 4 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958. والعجيب فيها أن الناخبين الفرنسيين، من اليمين واليسار سخروا من كل استطلاعات الرأي التي تدعي الحلول مكانهم في اختيار المتنافسين والفائزين.
ولذا، فإن صف الضحايا التي تساقطت مع انطلاقتها يستوجب التوقف؛ فلأول مرة، يجد رئيس فرنسي، هو الرئيس الحالي فرنسوا هولاند، نفسه غير قادر على الترشح لولاية رئاسية ثانية، بعكس ما فعل سابقوه باستثناء الرئيس جورج بومبيدو الذي مات بالسرطان في قصر الإليزيه قبل أن يكمل ولايته الأولى. ولأول مرة أيضا، يخفق رئيس جمهورية سابق هو نيكولا ساركوزي في الحصول على ترشيح حزبه لخوض المنافسة الرئاسية ويخرج منذ الجولة الانتخابية التمهيدية الأولى إذ حل في المرتبة الثالثة بعد رئيس حكومته الأسبق فرنسوا فيون ووزير خارجيته السابق آلان جوبيه. وبعدما كان جوبيه، طيلة شهور، متربعًا على قمة الاستطلاعات التي كانت تمنحه المركز الأول وجعلت منه منذ الصيف الماضي الرئيس القادم للجمهورية الفرنسية، ها هو يهوي عن عرشه في الجولة الثانية من انتخابات اليمين والوسط التمهيدية، ويخسر مكانه لصالح فيون الذي لم يكن أحد يتوقع له أن يصل إلى حيث وصل.
إلا أن الأخير سرعان ما لحقت به الفضائح، وتحديدًا، تشكيله ما يمكن تسميته «شركة عائلية» وظف فيها تباعًا زوجته بينيلوبي واثنين من أبنائه بصفتهم مساعدين برلمانيين له. لكن القضاء المالي الفرنسي منكب، خصوصا، على التحري عن حقيقة عمل السيدة فيون التي حصلت على نحو مليون يورو من عملها «الوهمي» بصفتها مساعدة برلمانية لزوجها وللبديل الذي حل مكانه عندما أصبح وزيرا ورئيس وزراء. وكذلك حصلت بينيلوبي فيون على نحو مائة ألف يورو من عملها ناقدة أدبية في مجلة مغمورة زودتها بتقرير عن كتابين خلال أقل من عامين. واليوم، يجد فيون نفسه في وضع لا يحسد عليه، فمرشح اليمين كان «بطل النزاهة» وكوّن عن ذاته صورة الرجل العصامي، الضنين بالمال العام، والبعيد كل البعد عن الفساد. والحال أن هذه الصورة تهشّمت وليس من المستبعد أن يضطر للتخلي عن السباق، خصوصًا أن أصواتا أخذت تسمع في معسكره وتدفعه في هذا الاتجاه للمحافظة على حظوظ اليمين في استعادة السلطة من اليسار.
* مفاجآت الاشتراكيين
بيد أن المفاجآت ما كانت حكرًا على اليمين؛ ذلك أن اليسار الذي أنهكته خمس سنوات من الحكم بما حملته من إخفاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية وتكاثر الأعمال الإرهابية، واحتداد المنافسات والانقسامات، كان هو الآخر يعيش حالة من التفكك. وبعدما خرج وزير الاقتصاد إيمانويل ماكرون من الحكومة الصيف الماضي ليطلق حركة سياسية سمّاها «إلى الأمام» ويعلن ترشحه للرئاسة، تزايدت الضغوط على الرئيس هولاند لمنعه من الترشح مجددا. واستفاد معارضوه من صدور كتاب بعنوان «لا يتعين على الرئيس أن يقول هذا الكلام» لصحافيين يعملان في جريدة «لوموند» المستقلة، يتضمن تسريبات ومعلومات وآراء نظر إليها كثيرون على أنها «غير جديرة» بالصدور عن رئيس للجمهورية.
وبالتالي، استفاد رئيس الحكومة مانويل فالس من الوضع ليحشر هولاند ويدفعه إلى التخلي عن فكرة الترشح لولاية ثانية. وليعلن عقب ذلك مباشرة، في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) الماضي دخوله ساحة المنافسة التمهيدية للظفر بترشيح الحزب الاشتراكي. وكان سبقه إليها أربعة وزراء سابقون، أحدهم بونوا هامون وزير التربية الأسبق الذي خرج من الحكم في صيف عام 2014؛ احتجاجًا على التوجهات الاقتصادية والاجتماعية لحكومة فالس.
كان فالس يعتقد أن تتويج الاشتراكيين له وهو «رجل الدولة» الذي سبق له أن شغل منصب وزير الداخلية، ثم رئاسة الحكومة، وحارب الإرهاب و«التطرف الإسلامي» ودافع عن العلمانية وجسّد سلطة الدولة وثقافة الحكم، سيكون بمثابة تحصيل حاصل؛ ومن ثم، فإن حضوره سيسحق الآخرين بمن فيهم وزير الاقتصاد الأسبق أرنو مونتبورغ ونظيره وزير التربية الأسبق فانسان بيان. وكان كثيرون يرون أن الخطر «الجدّي» بالنسبة إليه يتمثل بمونتبورغ، الذي سبق له أن خاض المنافسة التمهيدية الرئاسية عام 2011 وحصل على نسبة أصوات فاقت ضعف ما حصل عليه فالس. غير أن نتيجة الجولة الأولى فاجأت الجميع؛ إذ حل بونوا هامون في المرتبة الأولى بحصوله على نحو 37 في المائة من الأصوات، في حين لم يتمكن فالس من اجتياز عتبة الـ32 في المائة. أما في الدورة الثانية، فإن الفارق بين الرجلين كان واسعًا؛ إذ حصل الأول على 58 في المائة من الأصوات وبقي الثاني تحت سقف الـ42 في المائة.
* انتصار الجناح اليساري
هذه النتيجة تعني انتصار الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي على «جناح الحكم» ممثلا برئيسي الجمهورية والحكومة وبالماكينة الحزبية. إذ كان هامون قد بنى دعايته السياسية على التنديد بالتوجهات اليمينية الليبرالية للعهد الذي حاربه من خلال تجمّع للنواب الاشتراكيين «المتمردين». وهكذا كان من الطبيعي أن يحظى بدعم مونتبورغ في الجولة الثانية، إذ إن كليهما ينتميان إلى المدرسة نفسها التي ترى أن «العهد الاشتراكي» أيام هولاند حفل بمجموعة من التراجعات والتنازلات في وجه اليمين ورأس المال وأرباب العمل، والتخلي عن الوعود الانتخابية، وعن الطبقتين الوسطى والدنيا وإنهاكهما بالضرائب والرسوم وتقديم المحفزات المالية للشركات مقابل وعود لم تتحقق.
ودافع هامون عن برنامج رئاسي يمكن تصنيفه تحت خانة «إلى اليسار دُر»، وأبرز ما تضمنه توفير راتب شهري لجميع الفرنسيين ممن هم فوق الـ18 سنة بدءا بالشباب ليمكّنهم من العيش الكريم، من منطلق أن فرص العمل سوف تتناقص بسبب الغزو التكنولوجي. ومع أن مقترح هامون تعدّل بسبب الهجوم الصاعق الذي شنّه عليه خصومه ومنافسوه، ووصف مقترحه بأنه مرتفع الكلفة (ما بين 300 و400 مليار يورو)، فإنه استفاد منه ليتفرد عن منافسيه. وبينما كان اليمين يقترح زيادة مدة العمل القانونية (35 ساعة في الأسبوع) ومد سن التقاعد، فإن هامون اقترح خفضها والمحافظة على سن التقاعد كما هو. فضلا عن ذلك، اقترح المرشح اليساري إلغاء قانون العمل الجديد المسمّى «قانون مريم الخمري» - وهي وزيرة العمل الحالية - الذي يحرم الموظف من بعض الضمانات ويعطي ربّ العمل مزيدا من التسهيلات في التسريح، كذلك يقترح هامون رفع قيمة الحد الأدنى للأجور بنسبة 10 في المائة وإصلاح القانون الضريبي لتخفيف عبئه عن الطبقتين الوسطى والدنيا.
ودعا هامون إلى التركيز على موضوع البيئة والمحافظة عليه معتبرا أن الاشتراكية يجب أن تكون أيضا بيئية. ومن مقترحاته في هذا السياق، إجراء إصلاحات دستورية، وتمكين الأجانب من الاقتراع في الانتخابات المحلية، وإدخال جانب من النسبية في الانتخابات، وخفض اعتماد فرنسا على إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية (النزول من 75 في المائة إلى 50 في المائة) وإغلاق المفاعلات النووية الهرمة، ووضع حد لاستخدام وقود الديزل نهائيًا بحلول عام 2025 بسبب أضراره الصحية. كذلك يدعو هامون إلى مناهضة استخدام المبيدات في الزراعة، أما في المسائل الاجتماعية، فإن توجهات هامون سباقة وليبرالية، منها مثلا السماح بوضع حد للحياة، وإتاحة الفرصة للنساء المثليات للإنجاب باللجوء إلى المساعدة، باستخدام القنب الهندي أو حشيشة الكيف. وأما على صعيد السياسة الخارجية، فإن الموقف الأبرز لبونوا هامون فهو دعوته إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية من غير تأخير، مستندًا لقرار صادر عن الجمعية الوطنية في عام 2014 يحث الحكومة الفرنسية على الإقدام على هذه الخطوة، ما سيفتح الباب أمام دول أوروبية أخرى لتحذو حذوها.
* يوم هامون
هامون سيستفيد بلا شك من صعوبات مرشح اليمين فرنسوا فيون، إلا أن ثمة مجموعة من الصعوبات ما زال عليه التغلب عليها ليكون مرشحا جديا يتمتع بحظ ولو ضئيل للوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات والتنافس للفوز بالمقعد الرئاسي. تتمثل الصعوبة الأولى في قدرته على رصّ صفوف الحزب الاشتراكي وراءه. والحال، أن نوابا اشتراكيين ينتمون إلى الجناح اليميني للحزب المعارض لبرنامج هامون يرفضون السير وراءه وتبني برنامجه، ويهددون بالالتحاق بإيمانويل ماكرون الذي يتبنى برنامجا قريبًا مما كان يقترحه فالس. وما يزيد من جاذبية ماكرون أن استطلاعات الرأي تبين أن صعوبات مرشح اليمين تصب في صالحه كما أنه يستفيد من فوز هامون ومن راديكالية برنامجه.
في الجانب الآخر، يواجه هامون صعوبة على يساره تتمثل في وجود جان لوك ميلونشون، مرشح اليسار المتشدّد، الذي أطلق حملته الانتخابية منذ أكثر من سنة. وحتى الأيام الأخيرة، كان ميلونشون «بطل» اليسار المقاوم الرافض للتوجهات الليبرالية اليمينية، الذي يحظى بدعم الشيوعيين واليسار المتشدد وكثيرين من الطبقة العمالية والمثقفين باعتباره يحمل مشروعًا يساريًا جديا. وهكذا، يبدو الوضع بالغ التعقيد بالنسبة لهامون داخل عائلته الاشتراكية، بالدرجة الأولى، حيث لا يحظى بدعم حماسي حار، والدليل أن الرئيس هولاند - الذي استقبل هامون لمدة ساعة يوم الخميس الماضي - لم تصدر عنه أي كلمة تشجيعية. كذلك يعاني هامون من صعوبات داخل «معسكر» اليسار. وجلّ ما يمكن أن يحققه هو انسحاب يانيك جادو، مرشح «الخضر» لصالحه، لكن الأخير لا يحوز إلا على نسبة ضئيلة من الأصوات غير الكافية في أي حال لقلب الموازين وتأهيله للجولة الثانية من الانتخابات.
وهكذا يبدو المشهد السياسي الفرنسي القابل للتحولات والتغيرات في الأيام والأسابيع المقبلة. ولعل التغير الأكبر - إذا حصل - سيكون تخلي اليمين عن ترشيح فرنسوا فيون الغارق في الفضائح حتى الأذنين. وفي اليومين الماضيين، ارتفعت بالفعل أصوات نافذة من صفوف اليمين تدعو للتخلي عن فيون كيلا يبقى اليمين خارج نعيم السلطة لخمس سنوات إضافية. أما في جانب اليمين المتطرف، فإن مارين لوبان عازمة على أن تكون حاضرة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وأن تخرق ما يسمى بالفرنسية «السقف الزجاجي» الذي يمنعها من الذهاب إلى أبعد من ذلك، أي الوصول إلى رئاسة الجمهورية.
* بطاقة هوية
- ولد بونوا هامون في بلدة سان رونان (محافظة الفينيستير بإقليم البريتاني) بأقصى شمال غربي فرنسا، يوم 26 يونيو (حزيران) 1967.
- خريج جامعة غرب البريتاني في مدينة بريست.
- عضو في الحزب الاشتراكي منذ مطلع شبابه، وصار لاحقًا من أبرز قيادات جناحه اليساري.
- نائب في البرلمان الأوروبي عن شرق فرنسا بين 13 يونيو 2004 و7 يونيو 2009.
- نائب في مجلس النواب الفرنسي عن دائرة الإيفلين (مدينة فرساي وضواحيها) بجنوب غربي العاصمة الفرنسية باريس منذ 17 يونيو 2012.
- وزير الاقتصاد الاجتماعي بين 16 مايو (أيار) 2012 و31 مارس (آذار) 2014.
- وزير التربية الوطنية بين 2 أبريل (نيسان) 2014 و25 أغسطس (آب) 2014.