داخل الحوش البارد للضريح لم يكن هناك أحد، بينما التفت أساور حديدية حول مقبض باب خشبي كبير لتغلق صفحة من الذكريات طويت منذ أكثر من 39 سنة، أي منذ أن ودع العالم العربي «أم كلثوم».
شعور غريب بالانقباض ينتابك وأنت على أعتاب تلك المنطقة القديمة نوعا ما في منطقة البساتين بمقابر الإمام الشافعي في جنوب شرقي القاهرة. رائحة الحزن الممزوج بغبار الزمان تحوم بالمكان، معلنة عن قدوم زائر جديد.. ربما طال انتظاره كثيرا. وداخل الحوش الذي ظل يحرسه أكثر من نصف عمره البالغ ستين سنة، جلس خميس عبد الهادي، يعد بعض الشاي على نار الحطب الخافتة، في هدوء وسكينة، قبل أن يسمع خطوات قادمة فيصيح: «من هناك»؟
من قبل لم يكن يمر يوم من دون أن يأتي لزيارة ضريح أم كلثوم المئات من المصريين والعرب، لكن، وبعد أن تعرضت البلاد لاضطرابات سياسية منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك في عام 2011، أصبح من النادر أن ترى أحد عشاق أم كلثوم هنا. المنطقة، كما يقول الحارس، أصبحت معزولة وتفتقر للأمن والنظام، ومن الصعب المغامرة بزيارة محفوفة بالمخاطر.
وبعد أن هدأ قليلا وعاد للجلوس على أرضية الحوش راشفا بعض الشاي، بدأ عبد الهادي كلامه قائلا: «أنا أقيم في هذا الحوش وأقوم بحراسة هذه المقبرة منذ ما يقرب من 30 سنة، حتى أصبحت جزءا مني وأنا جزءا منها.. فلا يمر يوم من الأيام إلا وأجلس وحيدا في الليل أستمع لغناء كوكب الشرق جالسا أمام قبرها، وكأنها تغني لي وحدي».
ويضيف بنبرة حزن: «لم يعد يزورها أحد من عشاق فنها الأصيل وكأن الناس نسيت عطاءها الفني الذي امتد لأكثر من نصف قرن من الزمان.. اللهم إلا بعض أقاربها البعيدين ممن يأتون من عام لآخر للاطمئنان على المقبرة وقراءة الفاتحة عليها».
وما زال صوت «كوكب الشرق» يصدح في سيارات الأجرة وفي المقاهي والدكاكين في شوارع القاهرة، إلى درجة أن احتفالات الإذاعة والتلفزيون بذكرى وفاتها قبل عدة أسابيع لم يلحظها أحد، لأنه ببساطة، أم كلثوم ما زالت موجودة بين عشاقها في كل مكان.
ويتميز الحوش الذي يوجد فيه ضريح أم كلثوم بالفخامة مقارنة بالأضرحة والمقابر الأخرى التي تضم فنانين ومشاهير آخرين مثل عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وأسمهان وغيرهم. وتوجد على جدران الحوش نقوش وزخارف إسلامية بديعة، ويعد من أكبر المدافن مساحة في منطقة مقابر البساتين. وهو مغلق من جميع الجهات، خوفا على الضريح من اللصوص وقطاع الطرق والمغامرين.
ويؤكد الحارس عبد الهادي قائلا: «مدفن أم كلثوم جرى استكمال بنائه بعد وفاتها بعام واحد، ليأخذ الشكل الحالي، بناء على رغبة وطلب من كل من أسرتها ووزارة الثقافة آنذاك»، مشيرا إلى أنه عندما حلت ذكرى وفاتها في الثالث من فبراير (شباط) الماضي، توافد بعض الزوار بشكل خاص من أجل هذه المناسبة، لكن أعداد الزوار تتزايد في الأعياد، مثل عيد الأضحى وعيد الفطر.
ومع ذلك لا يمر يوم من دون أن يتداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا جديدة عن أم كلثوم، من بينها مجموعة صور لها مع بعض كبار الفنانين يجري تداولها هذه الأيام على أساس أنها لم تنشر من قبل لكوكب الشرق أم كلثوم التي لم تكن تسمح بالتقاط صور قريبة من وجهها بعد أن داهمها المرض والكبر في أيامها الأخيرة. ولأم كلثوم العديد من المواقع التي تحمل اسمها من بينها ميدان في مسقط رأسها في محافظة الدقهلية، وبرج في ضاحية الزمالك بالعاصمة، ومتحف ضمن قصر المانسترلي التاريخي في ضاحية المنيل غرب القاهرة، ويديره صندوق التنمية الثقافية ويجتذب السياح الوافدين للقاهرة.
وعلى الجانب الآخر، ورغم فخامة بناء المقبرة في منطقة البساتين، فإنه من السهل أن ترى الإهمال الذي أصبح يطغى عليها، وعلى مقابر المشاهير أيضا في المنطقة. ويستطرد عبد الهادي قائلا: «للأسف، مقبرة كوكب الشرق وغيرها من مقابر المشاهير هنا أصبحت تواجه العديد من المخاطر التي تهددها كمعلم ثقافي وحضاري لنا كمصريين مثل خطر المياه الجوفية والسرقة والتعدي على حرمة القبور، وانتشار الحرفيين الذين يعملون في صناعة الرخام في شوارع المقابر».
وأثرت الراحلة الفن العربي بغناء قصائد «الأطلال» و«أنت عمري» و«فكروني» و«هذه ليلتي» وغيرها. ويقول الحارس حسين مستكملا شرب الشاي كأنه يسترجع الذكريات: «صوت أم كلثوم كان يملأ الوجدان.. كان كأنشودة الفؤاد، وهي رحلت من الدنيا لكنها لم ترحل من قلوب المصريين.. تركت لنا تراثا من الفن الأصيل عاش وسيعيش للأبد».
ضريح أم كلثوم يعاني من العزلة
هجره الزوار منذ الاضطرابات السياسية
ضريح أم كلثوم يعاني من العزلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة