أحمد مراد: أرسم المشهد عادة قبل شخصيات وأحداث الرواية

يعتبر أن روايته المرشحة لجائزة البوكر «رواية نفسية» بالدرجة الأولى

أحمد مراد وروايته
أحمد مراد وروايته
TT

أحمد مراد: أرسم المشهد عادة قبل شخصيات وأحداث الرواية

أحمد مراد وروايته
أحمد مراد وروايته

يعلن يوم الثلاثاء المقبل، التاسع والعشرين من هذا الشهر، في احتفال في أبوظبي، عن اسم الفائز بـ«الجائزة العالمية للرواية العربية»، التي باتت تعرف بـ«بوكر العربية»، من ضمن ستة روائيين مرشحين لها ضمن القائمة القصيرة. وكانت «ثقافة» قد نشرت حوارات مع خمسة من المرشحين للجائزة، وهم: أحمد السعداوي، وعبد الرحيم لحبيبي، وخالد خليفة، وإنعام كجه جي، ويوسف فاضل. وهنا حوار مع مرشح آخر هو الروائي المصري أحمد مراد، الذي يتناول في «الفيل الأزرق» (دار «الشروق»، 2012)، عمله المرشح للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لهذا العام، عوالم غامضة يتداخل فيها السحر والشعوذة والطب النفسي والإدمان في إطار سردي سوريالي يلتبس فيه على القارئ الفصل بين الحلم والواقع.
ردود الفعل هذه المرة جاءت متضاربة حول «الفيل الأزرق» على عكس «فيرتيغو» و«تراب الماس». فعلى الرغم من اتساع مقروئيتها فإن نزوع ثالثة روايات أحمد مراد نحو اللامعقول والخيال وجه أصابع الاتهام إلى الكاتب بالابتعاد عن هموم المجتمع المصري، لا سيما أن البلاد تمر بظروف سياسية واجتماعية واقتصادية مقلقة. البعض صنف العمل تحت باب «الفن للفن»، وهو ما رفضه الكاتب معتبرا «(الفيل الأزرق) رواية واقعية.. كل التابوهات التي تحدثت عنها تحدث في المجتمع العربي يوميا ونعيشها منذ قرون».
وصول العمل إلى القائمة القصيرة للبوكر لم يخل من إشارات التعجب والاستفهام خصوصا أن تهمة التأثر بأفلام الإثارة الهوليودية ومؤلفات دان براون وستيفن كينغ التشويقية طالما لاحقت الكاتب الشاب، وهو ما نفاه قائلا إنه «يملك أسلوبه الخاص»، وإن «استخدام الجريمة كحدث محوري محرك في الكتابة أمر أقدم من كل الأسماء التي ذكرتها».
* ما الذي أراد أحمد مراد أن يقوله في «الفيل الأزرق»؟
- الفيل الأزرق رواية نفسية في المقام الأول.. حوار مُستفز للقارئ أكشف به الجانب المظلم من نفسياتنا.. حجر يلقى في ماء راكد فيكشف ما تحته، مُجادلة مع شيطاننا الداخلي حين يتحدث.. أو أنفسنا الأكثر شرا أحيانا!! أناقش الحب في ثلاث علاقات متشابكة أغلبنا يمر بها: زوجة.. عشيقة.. حبيبة لم يظفر بها البطل. زيف المشاعر.. الغُفران. ماذا لو لم يغفر الإنسان لنفسه أخطاءها؟ وكيف ستكون دنياه؟ كل ذلك في إطار من الإثارة حركته جريمة غامضة.
* من أين استقيت شخصيات «الفيل الأزرق».. وهل عنبر «8 غرب» موجود فعلا؟
- عنبر «8 غرب» بالفعل موجود في مستشفى العباسية للصحة النفسية، ووصفه مطابق تماما لما كتبت.. الشخصيات من الألف للياء لا تمت للواقع بصلة، وإن كانت تفاصيلها لها جذور من حيث البناء النفسي أو الهيكل الاجتماعي، وبالطبع بالنسبة للبطل وتفاصيل حرفته كطبيب.
* قلت في أحد اللقاءات إن الواقعية في الأدب هي من أصعب أنواع الكتابة. بعكس «فيرتيغو» و«تراب الماس» تغوص «الفيل الأزرق» في عالم الهلوسات والأحلام والصور السوريالية المتمردة على الواقع. كيف ترى هذه النقلة في مسيرة أحمد مراد الروائية؟
- «الفيل الأزرق» رواية واقعية، لا بوليسية ولا رواية إثارة همَّها من قتل وكيف قتل. كل التابوهات التي تحدثت عنها تحدث في المجتمع العربي يوميا ونعيشها منذ قرون: الحب الحقيقي.. العشق المحرم.. السحر.. المخدرات.. الهلوسات.. أما الصور السوريالية فهي مستمدة مما يراه الإنسان تحت تأثير العقاقير المهلوسة.. فقط هي مكتوبة بطريقة تخدم دراما الرواية وخط سيرها المرسوم رغم خيالها الجامِح.. النقلة بالنسبة لي هي منطقة جديدة أستكشفها وأستمتع بها أولا لكي تمتع القارئ من بعدي.. لغة وتركيب جديد تمنيت أن يثيرا القارئ.
* بعض النقاد اتهموا «الفيل الأزرق» بافتقادها للهم الاجتماعي أو الإنساني، وصنفوها تحت مسمى «الفن للفن»، على عكس «فيرتيغو» التي تناولت ظاهرة الفساد بين رجال الأعمال في مصر. ما تعليقك على ذلك وهل تحمل الرواية هما اجتماعيا معينا؟
- وهل الحب والغفران والعلاقات بين الرجل والمرأة وجنوح المجتمع العربي للسحر والتأثر الشديد به ليست هموما اجتماعية؟ هل الجريمة باسم الحب ليست من صميم الهموم الاجتماعية؟ ظاهرة الفساد في مصر أخذت حقها في روايتين سابقتين لي وهي ليست فقط كل الهموم الحياتية.
* تتجه الرواية في نهايتها إلى عالم السحر والشعوذة بصورة تتعارض مع الدقة العلمية التي نلاحظها في البداية. ما تعليقك على ذلك؟
- لا تعارض بين السِحر والعِلم. هما عالمان موجودان. خطان متوازيان يتقاطعان أحيانًا عبر التاريخ، ومن الصعوبة إلغاء أحدهما على حساب الآخر. الرواية مكتوبة بتكنيك الصدمة، لذلك لم يكن علي أبدا أن أمهّد للقارئ ما سوف يواجهه مع البطل.. التمهيد يفسد المتعة حقا.
* يلاحظ في «الفيل الأزرق» استخدامك ضمير المتكلم بدلا من راو يتلو الأحداث. حدثنا عن هذه التقنية والأثر الذي تتركه على العمل..
- استخدام ضمير المتكلم جاء ليصنع التوحد مع البطل كي لا يسبقه القارئ بخطوة فيعرف ما لم يعرفه البطل بعد، لتحدث المفاجآت الدرامية في توقيتها المناسب.. وهو أسلوب يسمح للقارئ بسماع الصوت الداخلي في رأس البطل مما يعطي بعدا ثالثا للشخصية.. ويسمح أيضا بتشكيك القارئ في الأفكار وإعمال ذهنه مع النص.
* في «الفيل الأزرق» هناك لعبة تصويرية تستند إلى مسح الحدود الفاصلة بين الحلم والواقع، الأمر الذي يترك القارئ في حيرة بصرية. ما هو الأثر الذي تركه أحمد مراد المصور السينمائي على أحمد مراد الروائي؟
- وضع الشك في نفس القارئ كان يستوجب مَسح الحدود بين الحلم والواقع وكسر كل محاولة من القارئ لأن يدرك أين هي الأرض وأين السقف حتى يتوحد تمامًا مع البطل، بالإضافة للصدمات الكلامية التي تصبح أعمق وتحقق مع الوصف البصري تأثيرا يشبه تأثر البطل بالمخدر العجيب. أنا في العادة أرسم الحدث أو المشهد ثم أصور مكانه - إذا وجد - بالكاميرا أو أتخيله رسما قبل أن أضع شخصياتي وأحداث الرواية في قالبه.. أدرس جيدا ما سأكتبه ليلا ثم أكتبه في الصباح الباكر بعد أن أكون ألممت تماما بالتفاصيل.
* هناك حضور مكثف لمفردات باللغة الإنجليزية في العمل. أليس هذا غريبا على رواية في الأدب العربي.. وما قصة «السمايلي فيس»؟
- السمايلي فايس من مفردات الحياة حاليا.. واقع نعيشه من خلال مواقع التواصل الاجتماعية والهواتف المحمولة.. من لا يعرفه كتعبير صامت عن الابتسام؟ اللغة الإنجليزية تتوغل في المجتمع العربي كله لكن لغتنا العربية تهضمه في داخلها باقتدار لتصنع منها كلمات عربية مفهومة ومُعربة.. إنه سحر العربية.
* البعض يشير إلى تأثر أسلوب أحمد مراد السردي بكتاب أميركان مثل دان براون وستيفن كينغ، وبأفلام الجريمة والغموض الهوليودية. أين تضع نفسك في سياق هؤلاء الكتاب، وإلى أي حد يختلف أحمد مراد عنهم؟
- بالطبع هي أسماء كبيرة أحترمها كما أحترم كل من يكتب في الوطن العربي وأقدر تجربته.. لكن استخدام الجريمة كحدث محوري محرك في الكتابة أمر أقدم من كل الأسماء التي ذكرتها.. ألا تعد رواية «اللص والكلاب» للأديب الكبير نجيب محفوظ رواية إثارة رغم الإسقاطات المجتمعية والتشريح الدقيق لنفسيات الأبطال؟ لا أنكر قراءتي لكل ما هو مترجم من الآداب العالمية، وأتفهم استغراب القراء والنقاد من ذلك الأدب الذي ما زلنا لا نتعامل معه بشكل كاف.. لكنني أملك أسلوبي، وبدايات قراءاتي كانت مع رواد الأدب العربي وعلى رأسهم نجيب محفوظ وغيره من العظماء.. أما أين أضع نفسي فللقارئ أن يقرر.
* في «الفيل الأزرق» هناك تفصيل علمي دقيق للأمراض النفسية وأنواع المسكرات لدرجة أن البعض يصفها بموسوعة في المشروبات الروحية. من أين استقيت هذه المعلومات، وهل على الروائي أن يتوخى الدقة العلمية في الكتابة؟
- استقيتها من تجارب الآخرين وحيواتهم المتباينة ومشاعرهم تجاه إدمانهم للجنس وللمخدرات وللخمور. أنا مستمع جيد، وأعرف أنه من الصعب إقناع القارئ الآن بأنني لا أدخن حتى السجائر.. بالطبع على الروائي أن يتوخى الدقة العلمية في الكتابة ما دامت تخدم العمل ومطلوبة دراميا.
* كم من الوقت استغرقت كتابة «الفيل الأزرق»، وما هي المراحل التي مرت بها عملية الكتابة؟
- «الفيل الأزرق» استغرقت نحو عامين بين البحث في الطب النفسي وعلم قراءة لغة الجسد وتعلم البوكر وقراءة تاريخ الجبرتي والمقابلات النفسية بداخل قسم «8 غرب» للحالات الخطرة، وبين الكتابة اليومية.. ثم أخذ التعديل نحو 3 أشهر إضافية.
* هل توقعت وصول «الفيل الأزرق» إلى القائمة القصير للجائزة العالمية للرواية العربي (البوكر)، وهل تعتقد أنها ستقوي من حظوظ أدب الجريمة في مصر والبلاد العربية؟
- لم أتوقع نتيجة البوكر وسعدت بها كثيرا لأنها جائزة مرموقة ومعترف بها عربيا ودوليا ولها فضل كبير في اكتشاف الأعمال الجيدة. مع اعتراضي على كلمة أدب الجريمة كتصنيف لـ«الفيل الأزرق»، البوكر تقوي من فرص الكتابة الأدبية وتصنع حالة كاملة من الشغف بالقراءة والكتابة والتجويد طوال العام.
* إلام تعزو ارتفاع مقروئية أدب أحمد مراد؟
- إلى ذائقة القارئ التي أرادت الغوص في العوالم الغريبة بأسلوب يمسها، أسلوب تفهم لغته وتتفاعل معها.. ومحاولتي المضنية في تقديم ما هو قريب من هموم القارئ وأفكاره التي لا يناقشها مع نفسه أحيانا.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.